"سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضي ومستقبلي الوحيد...لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب...وجذور تستعصي على القلع". غسان كنفاني في الستينات من القرن العشرين، أعلن الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركيوز أن الطبقة العاملة – التي عوَّل عليها ماركس كثيرًا للقيام بالثورة ضد قهر وسلطوية النظم المجتمعية والسياسية المعاصرة – لم تعد هي الفئة المنوط بها تغيير الواقع وإحياء قوة السلب والرفض للاعقلانيته, فلقد تم استيعاب هذه الطبقة على نحوٍ كامل لتصبح نسيجًا مستأنسًا من أنسجة النظم القائمة مؤتلفًا معها، وتم تزييف حاجاتها الروحية والمادية بما يجعل الثورة شبه مستحيلة من جانبها. فقد لجأت العديد من النظم السياسية العربية في السنوات الأولى من استقلالها خاصة في فترة الستينات والسبعينات إلى قمع التيار اليساري (الشيوعي) بشتى وسائل التنكيل والترهيب والقمع من جهة, ومن جهة أخرى تم توظيف التيار الإسلامي, انطلاقا من القول المأثور "لا حبا في علي ولكن كرها في معاوية" وذلك راجع للاختلاف الإيديولوجي الكبير بين التيارين ورفض كل تيار للآخر مما يسمح لها بإدارة الصراع الإيديولوجي بينهما دون تهديد أي تيار للسلطة, فخليت الأجواء لهاته الأنظمة وبدأت بتطبيق "النظرية البروكرستية" على شعوبها, وهذه النظرية من اجتهادي و قد اقتبستها من الأسطورة اليونانية وأسقطتها على الأنظمة العربية بصفة عامة و النظام المغربي بصفة خاصة نظرا لتشابهها الكبير في الاستبداد وأحادية الرؤية والمنطق, والروح الشرسة التي فارقت بروكرست الطاغية عند مقتله فحلقت حائرة باحثة عن مأوى آمن وعن من يخضع لمنطقها السادي, فلم تجد إلا الأنظمة العربية فسكنتها إلى يومنا هذا, رغم بعض المحاولات من الشعوب لطرد هاته الروح الشريرة والتي باءت أغلبها بالفشل. كان بروكرست Procrustes – فيما تروي الأسطورة اليونانية- قاطع طريق يعترض العابرين ليجبرهم على المبيت فوق سرير معدني يحمله معه حيثما كان، ومن ثم يطبق معياره الوحيد للحقيقة، ألا وهو طول السرير الذي يطابق طول بروكرست نفسه, فإذا كان الضحية أطول من السرير قام ببتر قدميه ليتساوى طوله مع طول السرير، وإذا كان أقصر قام بمطه وشده بقوة حتى يصبح طوله مساويًا لطول السرير. وقد انتهت الأسطورة بمقتل بروكرست بعد أن أوقع كثرة من الضحايا، لكن روحه فيما يبدو أبت إلا أن تتحالف مع من يشاركونه تلك النظرة الأحادية للحقيقة في كل مكان، وما أكثرهم، لتجد رواجًا لم يكن يحلم به بروكرست نفسه في وطننا العزيز, حتى لقد أصبح لدى كل مسؤول نظامي, نسخة طبق الأصل من هذا السرير غير القابل للتطويع، فإما أن تتطابق أحلام الشعب وأفكاره وبرامج حياته مع أحلام وأفكار وبرامج النظام، وإما أن يتم إخضاعه وتكييفه بالقهر والقوة البروكرستية. ولم تقتصر بروكرستية النظام على الجانب السياسي والدستوري فقط، بل لقد تعدتها لتشمل كافة مناحي الحياة، ليذهب ضحيتها الآلاف من أبناء وطننا ما بين ممطوط ومبتور، أما الأغلبية المقهورة الصامتة فقد جاهدت – وما زالت تجاهد – في جعل طول الجسد المنهك مساويًا لطول السرير، وحفظت عن ظهر قلب شروط الحياة المنقوصة: كن كما يريدك النظام، خادمًا لأحلامه، محبًا لاستمراره ... لا تقل ماذا أعطاني وطني، بل قل ماذا سأعطي النظام، وسبح بحمده ليل نهار ... إحزن لانتقاده من قبل الآثمين الباحثين عن الحرية، وافرح لترف رجالاته، وزين بآلامك قوائم عروشه. وأما خصائص ومواصفات النظام البروكرستي فعديدة ومتنوعة فحاولت أن ألخصها كما يلي: – كبرياء الحاكم وتعاليه: والتي تجعل الحاكم لا يرى إلا نفسه ولا يبصر إلا مصلحته, ولا يقرب منه إلا من يتملقه ويترضاه, أي أن الحاكم فوق الجميع وفوق القوانين ولا يحق لرعيته مواجهته. – التبذير من قوت رعيته: تعني الإسراف من المال العام من غير رقيب أو حسيب من طرف الحاكم وحاشيته حيث لا يبالي من أين يأخذ المال ولا أين يضعه, وهو ما يعرف "بالفساد النظمي". – غياب النقد: من أبرز خصائص الأنظمة البروكرستية, حيث لا يترك أي مجال للمعارضة السياسية للتعبير عن مواقفها وطروحاتها إزاء النظام القائم وإلا تعرضت قياداتها إلى الاعتقال والسجن أو حتى الموت, فهي أنظمة لا يكاد ينبعث منها صوت الخير(المعارضة الإيجابية البناءة) حتى تلاحقها صوت من الإرهاب يطلب إما إخراسها أو قتلها. – إنعدام العدالة: في شتى المجالات السياسية, الاجتماعية, الثقافية, الاقتصادية وانعكساتها على المستوى المعيشي للمحكومين, حيث تزداد الأسرة الحاكمة نفوذا وثروة وغنا في مقابل يزداد المحكومين الذين يشكلون الأغلبية فقرا وجهلا وحرمان من أبسط حقوقهم الحياتية من أكل وشرب وصحة وتعليم وتشغيل.... - المجتمع المدني غير مسقل: في الأنظمة البروكرستية غائب أو مغيب عن الحراك الاجتماعي والسياسي لاعتبارات متباينة إما لها علاقة بالسلطة او لها علاقة بقيادات المجتمع المدني. – إعلام غير حر: يخضع للمنطق السلطوي البروكرستي فالذي ينشط على الساحة إعلاميا لا بد أن يدور في فلك النظام وخدمة سياسته, وإلا سيتعرض للمضايقات والمتابعات القضائية أو حتى التوقيف المؤقت أو النهائي. – هيمنة المنطق الأمني البوليسي: في إيديولوجيات النخب الحاكمة, التي تروج للفكر الديموقراطي على مستوى الخطاب الرسمي في حين تؤمن بالطرح الأمني, حتى أصبح يطلق عليها "بالنظم الأمنوقراطية" على حد تعبير المفكر السوداني "إبراهيم حيدر إبراهيم". – عدم استقلالية سلطات الدولة عن شخص الحاكم: بحيث يتداخل في الأنظمة البروكرستية الديني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإيديولوجي, وقد أثبتت الاحتجاجات التي حدثت في معظم الدول العربية هذه الآراء بحيث أن شعارات إسقاط النظام إنتهت بإسقاط الدول بحد ذاتها, وعدم قدرة الدولة على أداء وظائفها بالشكل المطلوب خاصة وأنها ارتبطت ولوقت طويل بشخصية الحاكم وكاريزميته من منظور النابليوني "الدولة هي أنا", كما أن من أكبر معضلات حل الأزمة السورية اليوم في إطار مؤمتر جنيف 2 (15و16 –فبراير 2014) هو عدم اتفاق ممثلي المعارضة والنظام حول بند مرحلة انتقالية بدون بشار الأسد يدخل في إطار صعوبة بناء صرح مؤسساتي وتحول ديموقراطي بعيد عن الاشخاص, وكشفت هاته الاحتجاجات الطابع الصفري للعبة السياسية في العالم العربي أي أن الذي يفوز بالسلطة يفوز بكل شئ والذي يخسرها يخسر كل شيء. – شرعية الوجود من الخارج: فشرعية الأنظمة البروكرستة ذات مصدر خارجي فهي ليست نتاج حركيات المجتمع وصيرورته التاريخية كما هو في الدول الأوربية, وإنما ذات نتاج استعماري عمدت على تهجين وتدجين دور المجتمع وتجريده من قوته الذاتية, فمثلما أسهم العامل الخارجي في تأسيس هاته النظم أسهم أيضا في استمرارها فقد لعب دور كبيرا في وجودها على مدى قرن من الزمن, ومنه فشرعية وجود الكثير من الدول مصدره خارجي وليس من خلال انجاز داخلي أو دعم شعبي جماهري ومن الأدلة التي تؤكد ذلك هي: أ- إن معظم النظم السياسية ترتبط باتفاقيات عسكرية أو دفاعية مع الدول الكبرى الاستعمارية, على الرغم من أنها ليست في حالة عداء مع أية دولة أخرى, وحتى العدو الإسرائيلي الذي يستحق التسلح لأجله أغلب الدول عقدت معه اتفاقيات التطبيع والسلام, الأمر الذي يفسر أن هذه الاتفاقيات العسكرية موجهة إلى الداخل المجتمعي وتعني حماية النخب الحاكمة من حالة تمرد وعصيان جماهيري وشعبي عنيف يهدد حكمها ويفقد سلطتها. ب- التنسيق الدائم والمستمر مع القوى الأجنبية في كل ما يتعلق بمصالح تلك القوى في المنطقة, على حساب الفضاءات والحوار الوفاق الوطني بين النخب الوطنية والقوى الحاكمة فيما يتعلق بالقضايا والسياسات العامة للبلاد, وذلك باسم الانفتاح الديموقراطي واللبيرالي... ج- الانصياع لمطالب القوى الولية الفاعلة في المنطقة بذرائع الشراكة الاقتصادية ومناطق التبادل الحر وتأهيل المؤسسات...وهذا على حساب مصالح الشعب, بل أحيانا يتم تخريب المجتمع وتفقيره كتصريح العمال ورفع الأسعار...من أجل إرضاء تلك القوى. د- شرعية الاستمرار والتوريث: تسعى أغلب الأنظمة البروكرستية إلى شرعنة مختلف مظاهر الفساد والاستبداد المتفشي في دواليب الحكم والسلطة, كالبقاء في السلطة او توريثها إلى أبنائهم أو احد أصلابهم, من خلال استرضاء الولاياتالمتحدةالأمريكية على أساس أنها مصدر لشرعية الاستمرارية بل الوجود أيضا فأغلب النظم العربية تجري فيها انتخابات شكلية لكن إذا كانت لا تتعارض ومصالح أمريكا في المنطقة فيتم مباركتها وتهنئة الفائز بها, وإذا كانت تلك الانتخابات تتعارض فإن الولاياتالمتحدة أول من يندد بها ويطالب بإدخال إصلاحات سياسية جديدة, وهذا ما يفسر تضحية العديد من الدول العربية بأمنها القومي من أجل شرعنة حكمها كتقديم تنازلات سياسية واقتصادية وحتى عسكرية كقبولها بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها, أو دبلوماسية كتطبيع علاقاتها مع اسرائيل مقابل تغاضي الولاياتالمتحدة عن استبداية الحكم وتوريثه. وما يبرز دور امريكا في دعم الاستبداد السياسي العربي من خلال ما جاء في موقع ويكلكيس Wikileaks)) لصاحبه "جوليان اسانج" Julian Assange)) بأن مسئولين عربا كبارا في عدد من الدول العربية لديهم علاقات وثيقة مع وكالات الاستخبارات الأمريكية, وكثر منهم يزور طواعية السفارات الأمريكية في بلدانهم بشكل مستمر, وهم يعملون جواسيس للبيت الأبيض في بلدانهم وأن العلاقة مع دول عربية في مجال المعلومات إلا مجرد تقاسم لهذه المعلومات, بل هناك دول عربية فيها سجون لتعذيب المتهمين الذين ترسلهم الإدارة الأمريكية إلى الدول العربية للتحقيق معهم وتعذيبهم في هذه الدول. لكن ذلك لا يعني أن هاته النظم بصفة عامة ونظامنا على وجه الخصوص بتطبيقه المحكم للنظرية البروكرستية قد بلغ مرحلة الاستقرار الذي يحول دون زعزعته وقض قوائمه, إذ أفرز بغبائه التخطيطي فئات أخرى من غير التيارات الإيديولوجية (كالتيار الماركسي الذي أعلن هاربرت ماركيوز عن نهايته كما ذكرت سابقا), فهذه الفئة لن تحركهم أيديولوجيات حزبية, ولا توجهات مذهبية ولا أجندة مستقبلية ستحركهم فقط سيمفونيات القهر التي تمادى النظام في عزفها على أوتار معاناتهم, ليمزقوا الأوتار, ويبتروا الأصابع و ليعلنوا نهاية اللعبة التي سأمها الجميع وسيكسرون القاعدة الممقوتة التي ألفها الشعب منذ مدة طويلة وسينجحون في فك طلاسيم الروح البروكرستية, فيستخرجونها بتعويذة سحرية وعفوية ليجبروها على الرحيل . هذه الفئات ستدفعها معاناتها إلى تصدر المسرح السياسي المعاصر، لتغدو وقودًا متجددًا للإنتفاضة المنتظرة، لعل أهمها فئة الشباب من المهمشين والعاطلين عن العمل وفاقدي الأمل, فالحراك الشعبي هو النتيجة الحتمية الذي يعبر عن درجة عالية من الكبت الذي يعيشه الشعب في مختلف الميادين, وكذا تأخر أو فشل مختلف "عمليات التنفيس السياسي" التي تديرها النخب الحاكمة والمتمثلة في إجراء بعض الإصلاحات السياسية والتي تبقى في معظمها شكلية لا تمس عمق الأزمة المجتمعية ولا ترقى لطموحات الأغلبية. كما فعل مؤخرا نظامنا لتهدأة الأوضاع بعد الربيع العربي وتبجحه الدائم بأن المغرب بلد الاستثناءات والاسقرار وبذلك يكون النظام كأنه يعيد صب الخمرالقديمة في أقداح جديدة, فإن خدعنا بها واحتسيناها عادت لنا سكرتنا الطويلة وحينئذ يتكالبون علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها, واستخدم النظام العديد من الآليات للسيطرة واحتواء وحتى قمع مختلف مظاهر الاحتجاج أو المعارضة السياسية أو الشعبية, على غرار الآليات القانونية, السياسية الأمنية, فمثلا لما يشتكي المواطن المغربي من غلاء الأسعار في احتجاجات ومظاهرات جماهيرية كالتي تحدث حاليا في مدينة طنجة, فإن النظام يعتبره مشاغبا سياسيا, فيفرق الاحتجاجات بالقوة ويشن حملة اعتقالات واسعة, بينما نفس المشهد في الغرب يعتبر مجرد حراك اجتماعي وحرية تعبير لابد منها في سياق "التنفيس السياسي" ومدخلات ومخرجات النظم السياسية الديموقراطية. فمنظومة التسلط التي أنتجت تخلفا سياسيا واختلالا اقتصاديا وظلما اجتماعيا وانفلاتا أمنيا, ولعل المظهر اللأكثر بروزا هو البطالة في صفةف شرائح واسعة في المجتمع خاصة الشريحة المتعلمة عامة خصوصا ذوي الشهادات الجامعية الذي يجد الأبواب موصدة أمامه رغم الشهادات والامتيازات العلمية المتحصل عليها نتيجة المحاباة والمحسوبية في التوظيف, في ظل التوزيع غير العادل للثروة وتفشي البيروقراطية والمحسوبية والزبونية وتنامي مظاهر "الحقرة" والظلم المجتمعي من طرف أعوان ومسؤولي الدولة, والارتفاعات الصاروخية للأسعار, وتفشي ظاهرة الفساد في كامل مؤسسات الدولة بما عرف "بمأسسة الفساد" كل هذا خلق حالة من الاحتقان والاحساس بالقهر الاجتماعي في نفوس الغالبية من الشعب. ليس غريبًا إذن أن ينتفض الشرفاء من أبناء هذا الوطن الجريح محاولين إزالة ما علق بالجسد المغربي من زوائد سرطانية شوهت قيمه وتاريخه وهويته، وليس عيبا أن يتحول قهرهم إلى انتفاضة ثم إلى ثورة تستأصل بالإصرار ورمًا أنهك الجسد وبلغ به مشارف الموت، بل وأن تستيقظ على صرخات غضبهم عناصر فئوية سعى النظام طويلاً إلى تخديرها قسرًا كي يسهل له امتصاص دمائها وتغييب وعيها, ولا تعتبر فتنة وتخريبا للوطن إن طالب الشعب بأبسط حقوقه كمواطنين (الحق في الحياة, الحق في السكن, الحق في الوظيفة, الحق في الرأي والتعبير..) التي تؤكد أن هذا الإنسان هو مواطن فعلي في هذه الدولة, وليس مواطن شكلي هامشي لا يملك من حقوق تلك الدولة إلا بطاقة الهوية, وليس تمرّدا منا إن رفضنا هذا الواقع المر كشعب ليست له قابلية للاستعمار الخارجي أو للاستغلال الداخلي. والحق لو تأملنا المشهد العبثي والمأزق الدموي المصاحب لما سمي ثورات الربيع العربي التي تعيش بلدانها حالة من الفوضى الخلاقة والانفلات الأمني بارتفاع معدل العمليات الإرهابية, وارتفاع معدل الاغتيالات السياسية, كما يحدث في مصر وليبيا وتونس, وأيضا ما نشاهده على نشرات الأخبارمن فظاعة الابتكارات الوحشية للتنظيمات الداعشية في سوريا والعراق, فأكيد لا نتمنى لبلدنا مثل هاته الانفلاتات الأمنية, ولانريد أن تدنّس تراب وطننا أقدام تلك التنظيمات الدموية, ولكن هذا لا يعني أن نستسلم ونرضخ لاستبداد النظام ونستكين طواعية فوق ذلك السرير البروكرستي, فلابد للشعب أن يستنشق روائح الحرية والعزة والكرامة ويعيد رفع الرأس المطأطأ منذ ما يقرب من ربع قرن. إذن أولا فليعلم نظام البلاد أن حمله ثقيل فوق أكتاف العباد, ثانيا: فيعلن المسئولين ويعترفوا بأن وطننا في خطر، مثلما أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1983 رغم تفوقها عندما بدأ مجال واحد من مجالاتها في التراجع وهو التعليم, وبلادنا تتراجع في كل المجالات ويتخبط المسئولين في التعاطي معها ومع ذلك يتبجحون بأن بلادنا على ما يرام وفي أفضل حال, فكل المؤشرات تشير إلى أننا قاب قوسين وأننا في منعطف هام وخطير, إما ان يؤدي بنا إلى ساحة مأمولة لقيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والارتقاء الحضاري ومحاربة الفساد أو يؤدي بنا إلى السقوط في هوة عميقة قد لا نجد سبيلاً للخروج منها، ولا يرفع المسئولون أنذاك إلا شعارًا واحدًا: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، لكن لا عاصم يومئذ من أمر الله إلا من رحم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ألم يأن بعد أن نطرد تلك الروح البروكرستية التي تخنقنا كي يستنشق الجسد المريض هواءً جديدًا ونظيفًا؟ ألم يأن لنا أن نُخضع الجسد النحيل المنهك على السرير البروكرستي لفحوصات ناجعة يشارك فيها الحكام والمحكومون، تُشخّص أمراضه بدقة فتعُيننا على وصف الدواء؟ ألم يأن الوقت أن نكسر هاجس الخوف القابع بداخلنا و نحطم ذلك السرير البروكرستي الذي قهرنا أكثر من ربع قرن ونقتلعه من جذوره؟ ويا أيتها الحرية ليتك توجهين رياحك لمن ينتظرها ملهوفًا من أبناء هذا الوطن.