تحذير من تساقطات ثلجية وأمطار قوية ورعدية مرتقبة اليوم الأحد وغدا الاثنين    المغرب يعزز موقعه الأممي بانتخاب هلال نائبا لرئيس لجنة تعزيز السلام    "رسوم ترامب" الجمركية تشعل حربًا تجارية .. الصين وكندا والمكسيك ترد بقوة    تجميد المساعدات الأميركية يهدد بتبعات خطيرة على الدول الفقيرة    الرئاسة السورية: الشرع يزور السعودية    طقس الأحد: أجواء باردة وصقيع مرتقب بهذه المناطق    تفكيك شبكة صينية لقرصنة المكالمات الهاتفية بطنجة    روبرتاج بالصور.. جبل الشويحات بإقليم شفشاون وجهة سياحة غنية بالمؤهلات تنتظر عطف مسؤولين للتأهيل    السلطات الأسترالية تعلن وفاة شخص وتدعو الآلاف لإخلاء منازلهم بسبب الفيضانات    حريق مُهول يأتي على ورش للنجارة بمراكش    دراسة: هكذا تحمي نفسك من الخَرَفْ!    ائتلاف حقوقي: تجميد "ترانسبارانسي" عضويتها من هيئة الرشوة إعلان مدوي عن انعدام الإرادة السياسية في مواجهة الفساد    الجمعية المغربية لدعم إعمار فلسطين تجهز مستشفى الرنتيسي ومستشفى العيون باسطوانات الأكسجين    استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل الاثنين بعد رابع عملية تبادل للرهائن والمسجونين    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يجري تجمعا إعداديا بسلا    الصين: شنغهاي تستقبل أكثر من 9 ملايين زائر في الأيام الأربعة الأولى من عطلة عيد الربيع    طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المغرب    توقيف 3 صينيين متورطين في المس بالمعطيات الرقمية وقرصنة المكالمات الهاتفية    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    شركة "غوغل" تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي    الشراكة المغربية الأوروبية : تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب ودمج CNOPS في CNSS    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    توقعات احوال الطقس ليوم الاحد.. أمطار وثلوج    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    زكرياء الزمراني:تتويج المنتخب المغربي لكرة المضرب ببطولة إفريقيا للناشئين بالقاهرة ثمرة مجهودات جبارة    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    رحيل "أيوب الريمي الجميل" .. الصحافي والإنسان في زمن الإسفاف    بنعبد الله يدين قرارات الإدارة السورية الجديدة ويرفض عقاب ترامب لكوبا    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل حان الآوان لنعلن عن نهاية النظرية البروكرستية الشرسة ؟
نشر في شبكة دليل الريف يوم 26 - 10 - 2015

"سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضي ومستقبلي الوحيد...لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب...وجذور تستعصي على القلع". غسان كنفاني
في الستينات من القرن العشرين، أعلن الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركيوز أن الطبقة العاملة – التي عوَّل عليها ماركس كثيرًا للقيام بالثورة ضد قهر وسلطوية النظم المجتمعية والسياسية المعاصرة – لم تعد هي الفئة المنوط بها تغيير الواقع وإحياء قوة السلب والرفض للاعقلانيته, فلقد تم استيعاب هذه الطبقة على نحوٍ كامل لتصبح نسيجًا مستأنسًا من أنسجة النظم القائمة مؤتلفًا معها، وتم تزييف حاجاتها الروحية والمادية بما يجعل الثورة شبه مستحيلة من جانبها. فقد لجأت العديد من النظم السياسية العربية في السنوات الأولى من استقلالها خاصة في فترة الستينات والسبعينات إلى قمع التيار اليساري (الشيوعي) بشتى وسائل التنكيل والترهيب والقمع من جهة, ومن جهة أخرى تم توظيف التيار الإسلامي, انطلاقا من القول المأثور "لا حبا في علي ولكن كرها في معاوية" وذلك راجع للاختلاف الإيديولوجي الكبير بين التيارين ورفض كل تيار للآخر مما يسمح لها بإدارة الصراع الإيديولوجي بينهما دون تهديد أي تيار للسلطة, فخليت الأجواء لهاته الأنظمة وبدأت بتطبيق "النظرية البروكرستية" على شعوبها, وهذه النظرية من اجتهادي و قد اقتبستها من الأسطورة اليونانية وأسقطتها على الأنظمة العربية بصفة عامة و النظام المغربي بصفة خاصة نظرا لتشابهها الكبير في الاستبداد وأحادية الرؤية والمنطق, والروح الشرسة التي فارقت بروكرست الطاغية عند مقتله فحلقت حائرة باحثة عن مأوى آمن وعن من يخضع لمنطقها السادي, فلم تجد إلا الأنظمة العربية فسكنتها إلى يومنا هذا, رغم بعض المحاولات من الشعوب لطرد هاته الروح الشريرة والتي باءت أغلبها بالفشل. كان بروكرست Procrustes – فيما تروي الأسطورة اليونانية- قاطع طريق يعترض العابرين ليجبرهم على المبيت فوق سرير معدني يحمله معه حيثما كان، ومن ثم يطبق معياره الوحيد للحقيقة، ألا وهو طول السرير الذي يطابق طول بروكرست نفسه, فإذا كان الضحية أطول من السرير قام ببتر قدميه ليتساوى طوله مع طول السرير، وإذا كان أقصر قام بمطه وشده بقوة حتى يصبح طوله مساويًا لطول السرير. وقد انتهت الأسطورة بمقتل بروكرست بعد أن أوقع كثرة من الضحايا، لكن روحه فيما يبدو أبت إلا أن تتحالف مع من يشاركونه تلك النظرة الأحادية للحقيقة في كل مكان، وما أكثرهم، لتجد رواجًا لم يكن يحلم به بروكرست نفسه في وطننا العزيز, حتى لقد أصبح لدى كل مسؤول نظامي, نسخة طبق الأصل من هذا السرير غير القابل للتطويع، فإما أن تتطابق أحلام الشعب وأفكاره وبرامج حياته مع أحلام وأفكار وبرامج النظام، وإما أن يتم إخضاعه وتكييفه بالقهر والقوة البروكرستية. ولم تقتصر بروكرستية النظام على الجانب السياسي والدستوري فقط، بل لقد تعدتها لتشمل كافة مناحي الحياة، ليذهب ضحيتها الآلاف من أبناء وطننا ما بين ممطوط ومبتور، أما الأغلبية المقهورة الصامتة فقد جاهدت – وما زالت تجاهد – في جعل طول الجسد المنهك مساويًا لطول السرير، وحفظت عن ظهر قلب شروط الحياة المنقوصة: كن كما يريدك النظام، خادمًا لأحلامه، محبًا لاستمراره ... لا تقل ماذا أعطاني وطني، بل قل ماذا سأعطي النظام، وسبح بحمده ليل نهار ... إحزن لانتقاده من قبل الآثمين الباحثين عن الحرية، وافرح لترف رجالاته، وزين بآلامك قوائم عروشه. وأما خصائص ومواصفات النظام البروكرستي فعديدة ومتنوعة فحاولت أن ألخصها كما يلي:
– كبرياء الحاكم وتعاليه: والتي تجعل الحاكم لا يرى إلا نفسه ولا يبصر إلا مصلحته, ولا يقرب منه إلا من يتملقه ويترضاه, أي أن الحاكم فوق الجميع وفوق القوانين ولا يحق لرعيته مواجهته.
– التبذير من قوت رعيته: تعني الإسراف من المال العام من غير رقيب أو حسيب من طرف الحاكم وحاشيته حيث لا يبالي من أين يأخذ المال ولا أين يضعه, وهو ما يعرف "بالفساد النظمي".
– غياب النقد: من أبرز خصائص الأنظمة البروكرستية, حيث لا يترك أي مجال للمعارضة السياسية للتعبير عن مواقفها وطروحاتها إزاء النظام القائم وإلا تعرضت قياداتها إلى الاعتقال والسجن أو حتى الموت, فهي أنظمة لا يكاد ينبعث منها صوت الخير(المعارضة الإيجابية البناءة) حتى تلاحقها صوت من الإرهاب يطلب إما إخراسها أو قتلها.
– إنعدام العدالة: في شتى المجالات السياسية, الاجتماعية, الثقافية, الاقتصادية وانعكساتها على المستوى المعيشي للمحكومين, حيث تزداد الأسرة الحاكمة نفوذا وثروة وغنا في مقابل يزداد المحكومين الذين يشكلون الأغلبية فقرا وجهلا وحرمان من أبسط حقوقهم الحياتية من أكل وشرب وصحة وتعليم وتشغيل.... - المجتمع المدني غير مسقل: في الأنظمة البروكرستية غائب أو مغيب عن الحراك الاجتماعي والسياسي لاعتبارات متباينة إما لها علاقة بالسلطة او لها علاقة بقيادات المجتمع المدني.
– إعلام غير حر: يخضع للمنطق السلطوي البروكرستي فالذي ينشط على الساحة إعلاميا لا بد أن يدور في فلك النظام وخدمة سياسته, وإلا سيتعرض للمضايقات والمتابعات القضائية أو حتى التوقيف المؤقت أو النهائي.
– هيمنة المنطق الأمني البوليسي: في إيديولوجيات النخب الحاكمة, التي تروج للفكر الديموقراطي على مستوى الخطاب الرسمي في حين تؤمن بالطرح الأمني, حتى أصبح يطلق عليها "بالنظم الأمنوقراطية" على حد تعبير المفكر السوداني "إبراهيم حيدر إبراهيم".
– عدم استقلالية سلطات الدولة عن شخص الحاكم: بحيث يتداخل في الأنظمة البروكرستية الديني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإيديولوجي, وقد أثبتت الاحتجاجات التي حدثت في معظم الدول العربية هذه الآراء بحيث أن شعارات إسقاط النظام إنتهت بإسقاط الدول بحد ذاتها, وعدم قدرة الدولة على أداء وظائفها بالشكل المطلوب خاصة وأنها ارتبطت ولوقت طويل بشخصية الحاكم وكاريزميته من منظور النابليوني "الدولة هي أنا", كما أن من أكبر معضلات حل الأزمة السورية اليوم في إطار مؤمتر جنيف 2 (15و16 –فبراير 2014) هو عدم اتفاق ممثلي المعارضة والنظام حول بند مرحلة انتقالية بدون بشار الأسد يدخل في إطار صعوبة بناء صرح مؤسساتي وتحول ديموقراطي بعيد عن الاشخاص, وكشفت هاته الاحتجاجات الطابع الصفري للعبة السياسية في العالم العربي أي أن الذي يفوز بالسلطة يفوز بكل شئ والذي يخسرها يخسر كل شيء.
– شرعية الوجود من الخارج: فشرعية الأنظمة البروكرستة ذات مصدر خارجي فهي ليست نتاج حركيات المجتمع وصيرورته التاريخية كما هو في الدول الأوربية, وإنما ذات نتاج استعماري عمدت على تهجين وتدجين دور المجتمع وتجريده من قوته الذاتية, فمثلما أسهم العامل الخارجي في تأسيس هاته النظم أسهم أيضا في استمرارها فقد لعب دور كبيرا في وجودها على مدى قرن من الزمن, ومنه فشرعية وجود الكثير من الدول مصدره خارجي وليس من خلال انجاز داخلي أو دعم شعبي جماهري ومن الأدلة التي تؤكد ذلك هي:
أ- إن معظم النظم السياسية ترتبط باتفاقيات عسكرية أو دفاعية مع الدول الكبرى الاستعمارية, على الرغم من أنها ليست في حالة عداء مع أية دولة أخرى, وحتى العدو الإسرائيلي الذي يستحق التسلح لأجله أغلب الدول عقدت معه اتفاقيات التطبيع والسلام, الأمر الذي يفسر أن هذه الاتفاقيات العسكرية موجهة إلى الداخل المجتمعي وتعني حماية النخب الحاكمة من حالة تمرد وعصيان جماهيري وشعبي عنيف يهدد حكمها ويفقد سلطتها.
ب- التنسيق الدائم والمستمر مع القوى الأجنبية في كل ما يتعلق بمصالح تلك القوى في المنطقة, على حساب الفضاءات والحوار الوفاق الوطني بين النخب الوطنية والقوى الحاكمة فيما يتعلق بالقضايا والسياسات العامة للبلاد, وذلك باسم الانفتاح الديموقراطي واللبيرالي...
ج- الانصياع لمطالب القوى الولية الفاعلة في المنطقة بذرائع الشراكة الاقتصادية ومناطق التبادل الحر وتأهيل المؤسسات...وهذا على حساب مصالح الشعب, بل أحيانا يتم تخريب المجتمع وتفقيره كتصريح العمال ورفع الأسعار...من أجل إرضاء تلك القوى.
د- شرعية الاستمرار والتوريث: تسعى أغلب الأنظمة البروكرستية إلى شرعنة مختلف مظاهر الفساد والاستبداد المتفشي في دواليب الحكم والسلطة, كالبقاء في السلطة او توريثها إلى أبنائهم أو احد أصلابهم, من خلال استرضاء الولايات المتحدة الأمريكية على أساس أنها مصدر لشرعية الاستمرارية بل الوجود أيضا فأغلب النظم العربية تجري فيها انتخابات شكلية لكن إذا كانت لا تتعارض ومصالح أمريكا في المنطقة فيتم مباركتها وتهنئة الفائز بها, وإذا كانت تلك الانتخابات تتعارض فإن الولايات المتحدة أول من يندد بها ويطالب بإدخال إصلاحات سياسية جديدة, وهذا ما يفسر تضحية العديد من الدول العربية بأمنها القومي من أجل شرعنة حكمها كتقديم تنازلات سياسية واقتصادية وحتى عسكرية كقبولها بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها, أو دبلوماسية كتطبيع علاقاتها مع اسرائيل مقابل تغاضي الولايات المتحدة عن استبداية الحكم وتوريثه. وما يبرز دور امريكا في دعم الاستبداد السياسي العربي من خلال ما جاء في موقع ويكلكيس Wikileaks)) لصاحبه "جوليان اسانج" Julian Assange)) بأن مسئولين عربا كبارا في عدد من الدول العربية لديهم علاقات وثيقة مع وكالات الاستخبارات الأمريكية, وكثر منهم يزور طواعية السفارات الأمريكية في بلدانهم بشكل مستمر, وهم يعملون جواسيس للبيت الأبيض في بلدانهم وأن العلاقة مع دول عربية في مجال المعلومات إلا مجرد تقاسم لهذه المعلومات, بل هناك دول عربية فيها سجون لتعذيب المتهمين الذين ترسلهم الإدارة الأمريكية إلى الدول العربية للتحقيق معهم وتعذيبهم في هذه الدول.
لكن ذلك لا يعني أن هاته النظم بصفة عامة ونظامنا على وجه الخصوص بتطبيقه المحكم للنظرية البروكرستية قد بلغ مرحلة الاستقرار الذي يحول دون زعزعته وقض قوائمه, إذ أفرز بغبائه التخطيطي فئات أخرى من غير التيارات الإيديولوجية (كالتيار الماركسي الذي أعلن هاربرت ماركيوز عن نهايته كما ذكرت سابقا), فهذه الفئة لن تحركهم أيديولوجيات حزبية, ولا توجهات مذهبية ولا أجندة مستقبلية ستحركهم فقط سيمفونيات القهر التي تمادى النظام في عزفها على أوتار معاناتهم, ليمزقوا الأوتار, ويبتروا الأصابع و ليعلنوا نهاية اللعبة التي سأمها الجميع وسيكسرون القاعدة الممقوتة التي ألفها الشعب منذ مدة طويلة وسينجحون في فك طلاسيم الروح البروكرستية, فيستخرجونها بتعويذة سحرية وعفوية ليجبروها على الرحيل .
هذه الفئات ستدفعها معاناتها إلى تصدر المسرح السياسي المعاصر، لتغدو وقودًا متجددًا للإنتفاضة المنتظرة، لعل أهمها فئة الشباب من المهمشين والعاطلين عن العمل وفاقدي الأمل, فالحراك الشعبي هو النتيجة الحتمية الذي يعبر عن درجة عالية من الكبت الذي يعيشه الشعب في مختلف الميادين, وكذا تأخر أو فشل مختلف "عمليات التنفيس السياسي" التي تديرها النخب الحاكمة والمتمثلة في إجراء بعض الإصلاحات السياسية والتي تبقى في معظمها شكلية لا تمس عمق الأزمة المجتمعية ولا ترقى لطموحات الأغلبية. كما فعل مؤخرا نظامنا لتهدأة الأوضاع بعد الربيع العربي وتبجحه الدائم بأن المغرب بلد الاستثناءات والاسقرار وبذلك يكون النظام كأنه يعيد صب الخمرالقديمة في أقداح جديدة, فإن خدعنا بها واحتسيناها عادت لنا سكرتنا الطويلة وحينئذ يتكالبون علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها, واستخدم النظام العديد من الآليات للسيطرة واحتواء وحتى قمع مختلف مظاهر الاحتجاج أو المعارضة السياسية أو الشعبية, على غرار الآليات القانونية, السياسية الأمنية, فمثلا لما يشتكي المواطن المغربي من غلاء الأسعار في احتجاجات ومظاهرات جماهيرية كالتي تحدث حاليا في مدينة طنجة, فإن النظام يعتبره مشاغبا سياسيا, فيفرق الاحتجاجات بالقوة ويشن حملة اعتقالات واسعة, بينما نفس المشهد في الغرب يعتبر مجرد حراك اجتماعي وحرية تعبير لابد منها في سياق "التنفيس السياسي" ومدخلات ومخرجات النظم السياسية الديموقراطية.
فمنظومة التسلط التي أنتجت تخلفا سياسيا واختلالا اقتصاديا وظلما اجتماعيا وانفلاتا أمنيا, ولعل المظهر اللأكثر بروزا هو البطالة في صفةف شرائح واسعة في المجتمع خاصة الشريحة المتعلمة عامة خصوصا ذوي الشهادات الجامعية الذي يجد الأبواب موصدة أمامه رغم الشهادات والامتيازات العلمية المتحصل عليها نتيجة المحاباة والمحسوبية في التوظيف, في ظل التوزيع غير العادل للثروة وتفشي البيروقراطية والمحسوبية والزبونية وتنامي مظاهر "الحقرة" والظلم المجتمعي من طرف أعوان ومسؤولي الدولة, والارتفاعات الصاروخية للأسعار, وتفشي ظاهرة الفساد في كامل مؤسسات الدولة بما عرف "بمأسسة الفساد" كل هذا خلق حالة من الاحتقان والاحساس بالقهر الاجتماعي في نفوس الغالبية من الشعب.
ليس غريبًا إذن أن ينتفض الشرفاء من أبناء هذا الوطن الجريح محاولين إزالة ما علق بالجسد المغربي من زوائد سرطانية شوهت قيمه وتاريخه وهويته، وليس عيبا أن يتحول قهرهم إلى انتفاضة ثم إلى ثورة تستأصل بالإصرار ورمًا أنهك الجسد وبلغ به مشارف الموت، بل وأن تستيقظ على صرخات غضبهم عناصر فئوية سعى النظام طويلاً إلى تخديرها قسرًا كي يسهل له امتصاص دمائها وتغييب وعيها, ولا تعتبر فتنة وتخريبا للوطن إن طالب الشعب بأبسط حقوقه كمواطنين (الحق في الحياة, الحق في السكن, الحق في الوظيفة, الحق في الرأي والتعبير..) التي تؤكد أن هذا الإنسان هو مواطن فعلي في هذه الدولة, وليس مواطن شكلي هامشي لا يملك من حقوق تلك الدولة إلا بطاقة الهوية, وليس تمرّدا منا إن رفضنا هذا الواقع المر كشعب ليست له قابلية للاستعمار الخارجي أو للاستغلال الداخلي.
والحق لو تأملنا المشهد العبثي والمأزق الدموي المصاحب لما سمي ثورات الربيع العربي التي تعيش بلدانها حالة من الفوضى الخلاقة والانفلات الأمني بارتفاع معدل العمليات الإرهابية, وارتفاع معدل الاغتيالات السياسية, كما يحدث في مصر وليبيا وتونس, وأيضا ما نشاهده على نشرات الأخبارمن فظاعة الابتكارات الوحشية للتنظيمات الداعشية في سوريا والعراق, فأكيد لا نتمنى لبلدنا مثل هاته الانفلاتات الأمنية, ولانريد أن تدنّس تراب وطننا أقدام تلك التنظيمات الدموية, ولكن هذا لا يعني أن نستسلم ونرضخ لاستبداد النظام ونستكين طواعية فوق ذلك السرير البروكرستي, فلابد للشعب أن يستنشق روائح الحرية والعزة والكرامة ويعيد رفع الرأس المطأطأ منذ ما يقرب من ربع قرن. إذن أولا فليعلم نظام البلاد أن حمله ثقيل فوق أكتاف العباد, ثانيا: فيعلن المسئولين ويعترفوا بأن وطننا في خطر، مثلما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1983 رغم تفوقها عندما بدأ مجال واحد من مجالاتها في التراجع وهو التعليم, وبلادنا تتراجع في كل المجالات ويتخبط المسئولين في التعاطي معها ومع ذلك يتبجحون بأن بلادنا على ما يرام وفي أفضل حال, فكل المؤشرات تشير إلى أننا قاب قوسين وأننا في منعطف هام وخطير, إما ان يؤدي بنا إلى ساحة مأمولة لقيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والارتقاء الحضاري ومحاربة الفساد أو يؤدي بنا إلى السقوط في هوة عميقة قد لا نجد سبيلاً للخروج منها، ولا يرفع المسئولون أنذاك إلا شعارًا واحدًا: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، لكن لا عاصم يومئذ من أمر الله إلا من رحم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ألم يأن بعد أن نطرد تلك الروح البروكرستية التي تخنقنا كي يستنشق الجسد المريض هواءً جديدًا ونظيفًا؟ ألم يأن لنا أن نُخضع الجسد النحيل المنهك على السرير البروكرستي لفحوصات ناجعة يشارك فيها الحكام والمحكومون، تُشخّص أمراضه بدقة فتعُيننا على وصف الدواء؟ ألم يأن الوقت أن نكسر هاجس الخوف القابع بداخلنا و نحطم ذلك السرير البروكرستي الذي قهرنا أكثر من ربع قرن ونقتلعه من جذوره؟
ويا أيتها الحرية ليتك توجهين رياحك لمن ينتظرها ملهوفًا من أبناء هذا الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.