يظهر من خلال استقراء بسيط لصفحات تاريخ العديد من الشعوب، سواء تلك التي تحررت من قبضة الاستبداد السياسي المغلف بالطابع الديني لتعانق الحرية وتدخل التاريخ من بابه الواسع نحو التطور والازدهار أو تلك التي لا تزال تعاني من سلطة اللاهوت السياسي المقترن بمذابح الطقوس وقرابين الرموز التي تجعل من سلطة الحاكم الطاغية أمر إلهي لا يجوز الاعتراض عنه، أن أهم ركيزة يقف عليها الطغيان والاستبداد السياسي هي الدين كيفما كان نوعه. فقد لعبت السلطة الدينية التي ظلت مُحتكرة من طرف الطغاة الظالمين على مر السنين والأزمنة دورا جوهريا ومحوريا في تكريس الوصاية سياسيا، اجتماعيا وثقافيا عبر خلق آليات التبعية الدينية والثقافية بشكل مطلق للحكام الذين قاموا باحتكار المجال الديني باعتباره المصدر الرئيسي للثقافة والسياسية والتوجيه الاجتماعي للمجتمعات ما قبل الصحوة الفكرية والثقافية. ورجال الدين باعتبارهم حجر الزاوية في العملية برمتها، من الاحتكار والتوجيه والتدجين، يبذلون قصارى جهودهم لإضفاء المقدس الديني على المدنس السياسي وتقديمه كخليفة الله في الأرض "وحده لا شريك له" ومحاولة تأصيل هذا الطغيان من خلال نصوص دينية مزعومة (أحاديث وسير عن الأنبياء) جاعلين منها الأساس التي يقوم عليه الاستبداد الذي يقدمونه كأمر إلهي لا يمكن الاعتراض عنه. كان هذا حال المجتمعات الأوروبية قبل ثورة الأنوار، حيث كان الاستبداد الكنسي في أوجه متحكما في كل تفاصيل الحياة العامة والخاصة للناس من خلال احتكار المجالين الديني والسياسي، من طرف الحكام المستبدين، وبالتالي توجيه المجتمع وفق أهوائهم الخاصة، إلى أن وصلت بهم الوقاحة في غمرة نشوة الاستعباد والاسترقاق التي بلغوها ضد شعوبهم، إلى إعلان بيع أمتار من الجنة في المزاد العلني من طرف الكهنوتيين بمباركة الحكام الطغاة حيث كانت العلاقة بين هذا وذاك تكاملية وكل طرف محتميا بالآخر في سياق مؤامرة ضد الشعوب المستضعفة التي استمرت لعدة قرون حتى اصطدمت بثورة الأنوار التي أطلقها ثُلة من المفكرين الأحرار وكانت بمثابة صدمة أيقظت ضمير المجتمع وأزاحت عنه أغلال الاستبداد الكنسي في صحوة تنويرية أخرجت المجتمعات الأوروبية منذ ذلك الحين من الظلمات إلى النور. وكان أهم ما ارتكزت عليه ثورة الأنوار الأوربية هو الإنسان، حيث جعلته جوهر الكون ومحوره الأسمى، محررة بذلك العقل من القيود التي وضعها الاستبداد الكنسي، وفاصلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي من خلال إعادة النظر في الدين وتحويله من المرجع العام للحياة في ظل الاستبداد إلى مجموعة من الطقوس التعبدية داخل أسوار الكنيسة، لتخلق بالتالي أهم منعطف في التاريخ الإنساني. لكن ذلك لم يكن بالأمر الهين بالنظر إلى التعقيدات السياسية، الأمنية والاجتماعية التي طبعت المرحلة، والتي كان عنوانها البارز هو احتكار الطغاة والمستبدين من حكام ورجال الدين لكل مناحي الحياة كما سبقت الإشارة، وهو ما فرض في البداية على هذه الحركة أن تكون محصورة بين نخبة من الفلاسفة والمثقفين الذين أتوا بأفكار تنويرية جديدة أيقظت عامة الناس الذين تبنوها واستأصلوا الاستبداد الديني من عمق المجتمع، فثاروا ضد الطغاة الجاثمين ليزحزحوهم من عروشهم ويقودوهم إلى الساحات العمومية من أجل المحاكمة كما حدث للملك الفرنسي لويس السادس عشر الذي كان أحد أبرز رموز الطغيان والاستبداد الأوروبي، حيث تم إعدامه في ساحة الثورة (ساحة الكونكورد حاليا) بباريس بتاريخ 21 يناير 1793، ليكون هذا الحادث إحدى أبرز محطات التاريخ، حيث ستبدأ صفحة جديدة بفرنسا وبأوروبا عموما لتؤرخ لمفهوم المواطنة وحقوق الإنسان التي أسس لها "إعلان حقوق الإنسان والمواطنة" الذي صاغته قبل ذلك "الجمعية التأسيسية الوطنية" بتاريخ 26 غشت 1789 اعتمادا على الأفكار التنويرية لثلة من الفلاسفة والمفكرين أمثال جان جاك روسو، جون لوك، فولتير، مونتيسكيو... وللإشارة فهذا الإعلان شكل الأرضية الأولى لصياغة دستور الجمهورية الأولى (1792 – 1804) ما بعد لويس السادس عشر. كانت هذه الانطلاقة من القارة الأوروبية حيث خرجت من ظلمات القرون الوُسطى إلى نور الحداثة والنمو والإزدهار الذي تعيشه حاليا، والتي لا يفصلنا عنها إلا بحر بعشرات الأمتار، أما في الوسط الإسلامي الذي لا زال يعيش في وضع أسوأ من الذي كانت عليه أوروبا قبل الثورة، فحدث ولا حرج، حيث لا يزال الحاكم / الطاغي والمستبد، يستمد شرعيته من الله وقوته من الكهنوت، وكلما ظهر صوت يدعوا للتحرر ورفع الوصاية عن الشعب وإزالة القيود عن العقل، إلا وسارعت أصوات الكهنوت إلى إخراسه بكل الوسائل الممكنة من الرقابة والزجر والتهديد والاغتيال بهذه الطريقة أو تلك، وذلك تحت ذريعة التصدي للفتنة وزعزعة عقيدة الناس وأحاسيس الأغلبية المسلمة حسب الفهم الضيق لأعداء العقل من فقهاء الشر الذين لا زالوا يعيثون في الأرض فسادا بسبب الأمية والجهل. وكلما بدأت نقاشات اجتماعية ذات طابع ديني أو لها علاقة بثنائية المدنس والمقدس التي تضع الشرعية الدينية على المحك وتكشف عورتها، إلا والتجأ فقهاء الشر إلى أوكارهم المقدسة المتمثلة في المساجد لمهاجمة الخصوم المفترضين من أعلى المنابر التي لا زالت مقدسة لدى الأغلبية الساحقة من الناس الذين لا يشككون قيد أنملة في كل ما يصدر عن الفقهاء من أعلى المنابر، وهنا يقوم فقهاء الشر بإطلاق تهم باطلة وسب وقذف بأقدح الأوصاف الدنيئة، بل وتصل بهم الدناءة والوقاحة إلى حد إطلاق الدعوات بإهدار دماء الخصوم بحجة التطاول على مقدسات الأمة. وبين هذا وذاك، يظهر الحاكم متخفيا في جلباب الحكم المحايد كمترفع عن كل الصراعات بين مختلف الفرقاء في ساحة التدافع، وممسكا العصى من وسطها للحفاظ على التوازن، وبالتالي ربح المزيد من الوقت، رغم كونه أحد عناصر المشكل وليس جزءا من الحل كما يُقال، إذ أن الكثير من الصراعات داخل ساحة التدافع الفكري والثقافي أو السياسي والاجتماعي يكون مصدرها الحاكم نفسه من خلال تسخير أقلامه ومعابد وزارة أوقافه والزوايا التي يغدق عليها بإكرامياته من جهة، ومن جهة أخرى من خلال تسخير مراقصه وحاناته الليلية ومتسكعيه في فنادقه المعدة للدعارة الراقية.... والهدف خلق صدام بين مختلف المكونات الاجتماعية لضمان استمراريته كضامن لدوام الدولة ورمز وحدتها كما دون بين دفتي نصوصه الدستورية. فرغم العداء الذي تكنه حركات الإسلام السياسي للحكام بسبب صراعهم على السلطة ومن لهم الحق في قيادة القطيع، استطاعوا كلهم توحيد الكلمة واقتسام الكعكة فيما بينهما وتوزيع الأدوار لكل واحد منهم، حتى أصبحت العلاقة بين الأنظمة الحاكمة وشيوخ الظلام وعموم حراس المعبد القديم علاقة تكاملية ضرورية لا مندوحة عنها. ففي الوقت الذي يجب فيه أن يشتغل هؤلاء المحسوبون على صف النخبة بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية ومنطلقاتهم الفكرية على توجيه المجتمع إلى الطريق الصحيح من أجل العيش المشترك في سلم وأمان رغم الاختلاف الذي "لا يُفسد للود قضية" كما يُقال، وتوجيه سهام نقدهم للمتسببين في تفقير وتجويع الشعوب عن طريق نهب خيراتهم وثرواتهم وتسليط سيف ديموقريطس على رقاب العباد. وفي الوقت الذي يجب فيه على هؤلاء طرح المواضيع ذات النفع على المجتمع وقضاياه المصيرية وعلى رأسها البحث عن السبل الممكنة لإخراج هذا المجتمع من الظلمات إلى النور، نجدهم يتغاضون على كل ما من شأنه أن يُزعج صاحب السلطة، مكتفين بتقديم الطاعة للطغاة المستبدين، ومنشغلين بتوضيح وتفسير فضل المؤمن المتمسك بنصوصه الدينية التي لا تُكرس العبودية لولي الله في أرضه ليظل "الملك وحده لا شريك له" تنحني له الأظهر، وتقام له الصلوات، ويُتبرك به سرا وعلانية، وترفع له آيات الدعاء من فوق المنابر..... حين أنتجت فلسفة الأنوار الثورة الأوروبية بزعامة ثلة من المفكرين والمثقفين الذين جعلوا الإنسان وذاته وكرامته محورهم الأساسي من أجل إخراج المجتمع من قهر وتسلط الكنيسة إلى نعيم الحداثة بأبعادها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كان المسلمون غارقون في مستنقع دينهم متمسكين بتخلف وجهل الفكر الإسلامي المعادي لكل ما من شأنه الرقي بالإنسان. واليوم، بعد أن قطعت ثورة الأنوار أشواطا كثيرة، وتقدمت بالإنسانية إلى المستوى الذي نراه اليوم في المجتمعات الأوروبية، لا زال العقل المسلم يُعيد إنتاج نفس آليات التخلف من خلال محاربة كل ما من شأنه تحرير الإنسان ونقله إلى الحداثة بأبعادها الواسعة، ف "شر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" حسب كل الفقه الإسلامي في كل زمان ومكان. فهل يا تُرى ستتدارك المجتمعات الإسلامية التاريخ، وستحذوا حذو الأنوار الأوروبية لتنتقل من الظلمات إلى النور أو أنها ستظل ماسكة بجهلها المقدس وتخلفها إلى الأبد؟