هناك تياران متناقضان يتصارعان في الساحة السياسية العربية/الإسلاميات، لا يلتقيان إلا في نقطة واحدة، وهي تشويه مبدأ العلمانية، التيار الأول يدعي العلمانية وينسب إليها ما لا يوجد فيها وما لم توجد هي له. فكل من أراد أن يمارس الاستبداد السياسي والديكتاتورية تجده مختبئا وراء العلمانية، وكل من أراد تسفيه السياسة والابتعاد بها عن أي قيم أخلاقية تزيى بزي العلمانية، وكل من أصيب بشذوذ أو جاءته نوبات مرضية سارع إلى القول "أنا علماني ولدي الحرية المطلقة التي لا يحدها لا قانون ولا قيم". أما التيار الثاني فهو يحاول، قدر جهده، مواجهة العلمانية والجهاد ضد كل علماني، فكل من أراد الاستفراد بالحكم و الانتصار إلى الاستبداد السياسي والحكم الأوتوقراطي(= لا نقول الثيوقراطي لأن الفرق بينهما كبير فالحكم الثيوقراطي يكون من خلال استغلال الدين من أسفل، كما هو شأن دولة الكنيسة التاريخية. بينما الحكم الأوتوقراطي يستغل الدين من فوق، أي أن الحاكم يحاول توظيف الدين من أجل استدامة حكمه، ونموذجه الدولة في التاريخ الإسلامي)، كل من أراد ذلك استنجد بالدين لخدمة نظامه وتوريثه لأحفاده، وكل من أراد أيديولوجية غير مجربة توصله إلى الحكم، فكر في أدلجة الدين، وكل من فشل في ترويض نفسه ومنعها عن "الشهوات" أو لم يستطع الالتزام بتعاليم الدين إلا ورفع شعار تطبيق الشريعة، راغبا في أن ينيب عنه الحكومة في إقامة الشعائر والامتناع عن المحرمات. يمكن القول، إجمالا، إن أكثر المفاهيم التباسا هو مفهوم العلمانية وخاصة في الحقل التداولي الإسلامي، فما من شعار من شعارات الفكر الإسلامي الحديث كان، ويزال، مدعاة لسوء التفاهم أكثر من شعار"العلمانية". فلما نقرأ لبعض الناس قولهم "العلمانية هي اللادينية" أو "العلمانية هي العداء للدين" أو "العلمانية باختصار هي نبد الدين وإخراجه من الاجتماع البشري" أو "العلمانية هي فصل الدين عن السياسة" أو " هؤلاء المستغربين من العلمانيين والحداثيين والليبراليين وعملاء الغرب" أو " فلان يدعو إلى الحرية الجنسية إذن فهو علماني"، وغيرها من أحكام القيمة والخلاصات السريعة. أقول لما نقرأ ذلك، يتجلى لنا هذا اللبس، كما ندرك أن العقل المسلم، بشكل عام، يهوى معارضة أي جديد قادم من الغرب تحديدا. بدأ الأمر عندما اعتبرت السيارة هي الدابة التي تمشي على أربع، و تم تحريم استعمال " البرق"، وكفرت الديمقراطية على أساس أن البرلمان يشرع نيابة عن الله وأن الأحزاب تشتت الأمة ( نعم كل هذا كان حراما ، ومن يريد التيقن ما عليه إلا مراجعة الكتابات الفقهية لبداية القرن ال20، وخاصة تلك المناظرات التي كان يجريها " الحجوي" مع فقهاء التحريم )، وصولا إلى تكفير وزندقة من يقول بالدولة العلمانية أو الدولة المدنية . ولما نسمع " أريد دولة علمانية لأني أريد الحرية الجنسية" أو " العلمانية ضمان للشذوذ الجنسي" أو " لابد من دولة علمانية حداثية لإطلاق الحريات بدون ربطها بالمسؤوليات" أو " أنا لا أصلي لأني علماني" أو " أنا لا أصوم لأني علماني"، وغيرها من التعابير، ندرك أن الإنسان العربي أو المسلم، عندما يتفتح عقله قليلا، غالبا ما يخطئ الطريق ويستورد جميع المفاهيم والقيم دون فهمها أولا ودون تبيئتها ثانيا، مما يفرغ تلك المفاهيم من محتواها ويتم تكريس القشور والمظاهر. لكن ما نستغرب له ويحز في أنفسنا هو ذلك النقد غير المبني على علم ولا على أسس نظرية أو عملية، ننتقد أشياء دون أن نقرأ عنها، نقيم أشياء بناء على ما نسمع من معارضيها، لماذا لا نعطي لأنفسنا فرصة معرفة الأمور قبل الحكم عليها، لماذا لا نسأل قبل أن نحكم، لماذا نكفر العلماني أو نزندقه قبل أن نتحاور معه ونفهم ماذا يريد؟ ما هو موقفنا إذا توصلنا، عبر الحوار والنقاش الهادف، إلى نتائج متشابهة؟ ألا يمكن أن تكون المقدمات المختلفة بينما النتائج متشابهة؟ لماذا لا نطرح على أنفسنا، مثلا، ما هي العلمانية ثم نتوجه صوب أمهات الكتب لكي نستخلص كنهها وبعد ذلك نقيم هذا المفهوم ونصوبه ؟ نعم علينا فعل ذلك والآن: فما هي العلمانية يا ترى ؟ لا نهدف من السؤال أعلاه الإحاطة الشاملة بمفهوم أو مبدأ العلمانية، وإنما إعطاء لمحة وجيزة ، بما يسمح به المقام، حول بداياته وسياقاته والاختلافات التي صاحبته داخل التداول السياسي الغربي من جهة، و الموقف من العلمانية داخل البيئة العربية الإسلامية. كما تجدر بنا الإشارة ، إلى أننا ننطق العَلمانية بفتح العين واللام معا، وليس بكسر العين كما هو شائع، فكسر العين يعني أن مصدر العلمانية هو العلم وهذا ليس غاية العلمانية وإن كان أحد تجلياتها، بينما نطق " العَالمانية" بفتح العين واللام واختصارها بالعلمانية فتعني، مما تعنيه، أن الحكومات مكلفة بالتركيز على عالم الإنسان بدلا من الإيهام بان الحاكم يتلقى أوامره من الله ويحاول فرضها على البشر. لم يكن "مارسيليوس"، وهو أحد القساوسة الذين ثاروا على الكنيسة في القرن 13 ، ليعتقد أنه ينظر لمبدأ العلمانية سواء كمصطلح أو كمفهوم، وإنما حاول هذا الرجل أن ينظر إلى السياسة المدنية من منظور فلسفة أرسطو، منطلقا، باعتباره رجل دين مسيحي، من مسلمة أن الوحي يفوق العقل ولكنه ليس مضادا له. لقد دشن محاولته من خلال دفاعه عن الدولة الواحدة، التي تضع سلطتها الأساسية في يد مشرع واحد هو المشرع البشري، أي الشعب الذي هو مجموع المواطنين، مع ضرورة خضوع الكهنة المسيحيين للعلمانيين المسيحيين، وخضوع الارستقراطية لعموم الشعب المسيحي. حسب ما ذكر المفكر المعاصر "ليشتراوس " في حديثه عن الموجات الثلاثة للحداثة. وقد شاع استعمال العلمانية خلال القرون الوسطى عندما أضفت الكنيسة على نفسها صبغة القداسة. فالأفراد الذين يطلق عليهم لفظ لائكي "laic" كانوا يعتبرون مسيحيين بالتمام والكمال أي أنهم أعضاء كاملي العضوية في "شعب الله"، يؤمنون بالمسيح وهم أتباع خُلَّص له حسب تعبير محمد الجابري). وكل ما في الأمر أنهم ليسوا أعضاء في التنظيم الكهنوتي الذي تتشكل منه الإمبراطورية البابوية. وإذن فاللائكية في الأصل لا تعني اللادينية وإنما تعني عدم الانتظام في سلك الكهنوت الكنسي. وإذا قلنا إن رجال الكنيسة -وقد كانوا أكثرية في القرون الوسطى- هم "الخاصة" فإن اللائكيين كانوا هم "العامة". وهذا صحيح بمعنيين: بمعنى أنهم ليسوا من رجال العلم (الديني) من جهة، وأنهم من جهة أخرى ليسوا من رجال السلطة (الدينية) بل هم موضوع لكل سلطة، الدينية منها والسياسية، هم محكومون أجساما وأرواحا. ولابد من الإشارة هنا إلى حقيقة أنه ليس كل رجل دين كان يعتبر "كاهنا" clerc، فقد كان هناك رجال دين ضمن صنف اللائكيين، ولكنهم لم يكونوا منتظمين في سلك الكهنوت الكنسي. فكل من لم يكن ينتمي إلى نظام الكنيسة وموظفا في "دولتها" كان يحسب ضمن فئة اللائكيين حتى ولو كان متدينا تدين الراهب. لم يكن معيار التصنيف هو التدين أو عدم التدين بل كان المعيار هو الانتظام في سلك موظفي الكنيسة أو البقاء خارجه. تأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن مبدأ العلمانية لم يتم التنظير له من خارج الفكر الديني، وإنما ما داخل الكنيسة نفسها، فنظرا لما عرفته القرون الوسطى الأوربية من صراعات بين الكنيسة وجماعة "الإنسانيين" –وكانوا محسوبين لائكيين مع أنه كان فيهم علماء في الدين والعلم والفلسفة- ثم بين الكنيسة والأمراء الإقطاعيين، ثم بين الكنيسة والدولة (الإمبراطورية الرومانية)، ثم بين الكنيسة ورجال الإصلاح الديني بزعامة "لوثر" و"كالفن" وآخرين، تطورت الأمور إلى ظهور نوع من الفصل الحاد بين ما هو روحي (ديني) و بين ما هو "زمني" (دنيوي). وكان الهدف من ذلك سحب السلطة الزمنية سلطة الدولة من الكنيسة. وبعبارة أخرى استقلال الشأن الدنيوي عن الشأن الكنسي (عابد الجابري الجابري). استتباعا لذلك، تظهر العلمانية بغير ما أريد لها من طرف البعض وبغير ما يتوهمه البعض الاخر،( قال المسيري في إحدى كتابته: لقد حملت ما أنتج حول العلمانية في البيئة العربية وحملته إلى نخبة من المفكرين الغربيين سائلا إياهم: هل هذا هو مفهومكم للعلمانية؟ فجاء جوابهم: بالقطع لا) فهي لم تكن يوما لتعادي الدين أو تحاول القضاء عليه، وإنما أرادت أن تنزع الطابع السحري عن العالم، كما تطرق إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وتقدم رؤية علمية عن الاجتماع السياسي والتمييز بين رجل الدين ورجل السياسة حتى لا يتم الخلط بين ما يحتمل الخطأ والصواب وما لا يحتمل الخطأ، والتمييز أيضا بين النسبي والمطلق، فضلا عن التمييز بين الأحكام التي تهم الدنيا وتقع الآخرة في طولها وبين الأحكام التي تهم الآخرة وتقع الدنيا في طولها، على أساس أن الإنسان أدرى بشؤون دنياه كما روي عن الرسول، ويعبرعن ذلك المفكر الكبير" جان لاكروا" بالقول : إن" فكرة العلمانية ليست المقابل المعارض لفكرة الدين، ولكنها تستدعي على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس. إنها تفترض أن جانبا من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين". كما يجدر بنا التنويه، أن العلمانية الغربية ليست علمانية واحدة أو أنها مشروع اكتمل ونقطة إلى السطر وما على الأجيال والدول إلا التطبيق، بل العلمانية هي، والتعبير لمحمد أركون، مشروع لم يكتمل، فضلا عن كونها علمانيات متعددة لا تجتمع إلا على الأساسيات المتمثلة في الحرية المرتبطة بالمسؤولية وحرية الاعتقاد، مع تحييد الدين وتمييزه عن الحكومات ورجال السياسة. إذ هناك الدين العلماني الوثوقي المبني على العقل المحض، ونموذجه (فرنسا اليعقوبية) ، وعلمانية حيادية الدولة والانفصال الوظيفي بين الدولة والدين : الكنيسة في الدولة بينما الدول فوق الكنيسة ونموذجه ( الدول الاسكندينافية). ويمكن أن نضيف إليها الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي وصفها "دو توكيل" بالقول: المجتمع متدين والحكومة علمانية، ثم العلمانية المتبنية لخيار الربط الوظيفي بين الكنسية والدولة، ومنح وضع متقدم للدين والكنيسة ونموذجه (بريطانيا، إيطاليا، ايرلندا واليونان). يمكن الخلوص، إلى أن العَلَمانية بفتح العين واللام لا تهدف من خلالها الحكومات، التي تتبناها، تغييب الدين عن المجتمع أو محاربته، كما يتوهم البعض أو كما حاول التطرف العلماني الديكتاتوري فرضه، بل تهدف الحكومة، من خلال العلمنة، إقامة جنة في العالم الأرضي لجميع المواطنين، مع السماح للمؤمنين منهم بالبحث عن جنة أخرى في مكان آخر دون تدخل من الحكومة سواء بالرفض أو بالفرض. بهذا المعنى لن تكون العلمانية في وضع مناهض لأي دين، وخاصة للدين الإسلامي الذي يدعو إلى العقل والعلم، ولن تعترض على مقولة "الإسلام دين ودنيا" بل تعترض على مقولة" الإسلام دين و دولة"، وهو تحريف بدأ مع "المودودي" ولم يقل به أحد من قبل، كما تعترف بان الإسلام فاعل في المجتمع، لكن تعترض على تسييس الدين من طرف حزب سياسي أو جماعة سياسية ، ولي أعناق الآيات والنصوص حتى تنطق أصواتا انتخابية. ضدا على أي حاكم مستبد يقول " أنا ضل الله في أرضه" و أي واعظ سلطان ينسب إلى الرسول (ص) ما لايليق به من أقوال كالأثر القائل " أطيعوه ما أقام فيكم الصلاة .... ولو جلد ظهرك ولطم خدك". وحتى لا تتصارع رايات " لا إله إلا الله" كما تصارعت في " صفين" وفي " موقع الجمل"، وحتى لا يقتل المسلم أخام المسلم بسبب تفسير مخالف للآية أو اجتهاد معين، كما قتل الاشاعرة المعتزلة أو كما قتل المعتزلة الاشاعرة أو كما قتل ابن تيمية في سجنه وعذب ابن حنبل وكفر ناصر حامد وطلقت منه زوجه. وكفر، بعذ ذلك، من كفره (صلاح عبد الصبور). فمن يحاول "تديين" الحكومة، يعي جيدا ضعف إيمانه وبالتالي يحاول أن تقوم الحكومة مقامه في العبادة، حيث تمنعه من شرب الخمر وتفرض عليه الصلاة والزكاة، ومن تم يضحي المؤمن يعبد الحكومة التي يخشى بطشها بدل عبادة الله الذي يحبه ويجله ويرجو جزاءه الأخروي هذا من جهة، وأما من جهة ثانية، فإن ما يحاول أن ينسب استبداده وممارساته المنحطة وتحرره من القيم الإنسانية و إبعاد الحرية عن المسؤولية، أقول كل من يريد أن ينسب ذلك إلى مبادئ العلمانية وقيمها فهو واهم ومدع على العلمانية. لكن، وللأسف الشديد، نجد بعض مناهضي مبدأ العلمانية يتوسلون بآيات وأحاديث قرآنية لا تمت للموضوع بصلة، كالآيات المتضمنة ل:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون أو هم الظالمون). فرغم أن هذه الآيات تنزع من سياقها المخاطب لليهود، فإن العقل الفقهي أستنتج أن مصطلح "الحكم" يعني الحكومة، في الوقت الذي لا يراد منه غير الجانب القضائي أي الأحكام القضائية والتي لا يناقش أحد في قطعيتها، وإنما الجدال منصب على أن قطعية الدلالة أو الورود لا تعني قطعية التنفيذ، فعمر ابن الخطاب نفسه جمد حد قطع يد السارق وأوقف إلى الأبد "سهم المؤلفة قلوبهم" على أساس أن الشروط التي استدعت حد السرقة لم تكن موجودة وأن "كثرة سواد الأمة" أبطلت مفعول النص القاضي بالإنفاق من أجل تكثير الأمة. إذ يبدو أن المسألة، وبحسب تعبير عبد الرزق الجبران صاحب كتاب جمهورية النبي، لا تتعلق بدينن كذب في تاريخه، وإنما المسألة هي أن تاريخنا كذب في دينه.. لم يقتل الإسلام إلا الفقه، كما لم يدمر المعبد إلا الكاهن. لا يكون الفرد مسلماً بجعله في قلب المسجد، وإنما بجعله في قلب الإنسانية. هم الله عباده وليس عبادته.. الله يصب الأنبياء، والناس تشرب الفقهاء... الله لا يريد معبداً يعبد به، وإنما يريد إنساناً يحرر به. وقبل الختم، وفيما يتعلق بالحركات الإسلامية التي تنادي بتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الدينية، فإني أفترض، أن هذه الحركات هي فهي نتاج للأنظمة المستبدة، ومفعولها زائل بزوال نقيضها، وربما نسقط عليها نظرية، ماكس فيبر بخصوص الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية، إذ أن هذه الحركات، ورغم ما تدعيه من إحيائية إسلامية، إلا أن عمقها يظل علمانيا شاءت أم أبت، فهي ستلعب دور البروتستانتية في الدول التي كانت تسيطر عليها الكاثوليكية. فإذا كانت البروتستانتية قادت إلى الرأسمالية وبالتالي نحو العلمانية ونزع الطابع السحري عن العالم، فإن الحركات الإسلامية ستقود، والله اعلم، إلى تحييد الدين عن الشأن العام، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين. المرحلة الأولى، وقد تم إنجازها بالفعل، وهي نزع الاحتكار الديني عن الأنظمة الأوتوقراطية ومن تم يصبح لدينا أكثر من فاعل واحد في الشأن الديني، وأما المرحلة الثانية فهي التي ستأتي بعد أن تتمكن الحركات الإسلامية من الحكم، وتظهر تناقضاتها، وتختلف التأويلات وتبرز الصراعات السياسية المغلفة بالدين، حيث ستتعارض الأجندات، وسترضخ حتما الحركات الإسلامية إلى مطلب تحييد الدين وتمييزه عن الشأن السياسي، وهو ما توصلت إليه الحركات المسيحية بعد صراع طويل. ولا يمكن لأحد أن يتذرع باختلاف المسيحية عن الإسلام، لأن ذلك متهافت من ناحيتين، الأولى أن الأديان تنتمي إلى جذر ميتافيزيقي واحد وأما الثانية، فإن البشر الحامل للفكرة الدينية هو نفسه سواء كان مسيحيا أو مسلما حيث أن التنافس على الدنيا قائم بالنسبة للجميع بغض النظر عن التمايزات الطفيفة بين الأديان. ويمكن أن ننهي- بخصوص الذين يهاجمون العلمانية- بوضع مقارنة بين هذا الحديث الذي أورده مسلم في صحيحه ، وهو غاية في الأهمية، كان الرسول(ص) إذا أمر أميرا على جيش إلا ونصحه بالقول: " ....وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ مَا يَحْكُمُ اللَّهُ فِيهِمْ ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ، ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدَ مَا شِئْتُم ْ". وبين أقوال، من جاء بعد الرسول من حكام، و التي نورد أمثلة منها: " أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا " أو " وإن أمر يزيد قد كان قضاء من الله وليس للعباد خيرة من أمرهم " أو " أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وأعطي بإذنه ". وأما بالنسبة للذين يتبنون العلمانية بدون معرفة سياقاتها ولا استكناه لبها، وينسبون إليها قشورها التي صاحبت ممارستها في بعض الأقطار الغربية، أقول لهم إذا أردتم أن تكونوا علمانيين حقيقيين فيجب أن تدركوا، أن السبب الرئيس الذي يدفع بالكثير من المسلمين إلى عدم تقبل " العلمانية"، هو ارتباط الدعوة إليها، في الغالب، بمجموعة من ذوي الانحرافات السلوكية والخلقية، وبالاستبداد السياسي. فالعلمانية، كما أوضحنا أعلاه، لا تخرج عن كونها مجموعة من المبادئ والقيم الإنسانية التي لا تبتعد كثيرا عن القيم والإنسانيات الخلقية التي تنادي بها الأديان، كحرية الاعتقاد وتخليق الحياة العامة والعدل، ومنع الحكام من استغلال الأديان، وعقلنة المجتعات ودمقرطة الشأن السياسي، فضلا عن إعلاء شأن العلم ونبذ الخرافات. ربما هذا ما دفع مفكرا عقلانيا كبيرا، كالمرحوم محمد عابد الجابري، إلى اقتراح " العقلانية والديمقراطية بديلا عن العلمانية" تجنبا للالتباس الحاصل بخصوص مصطلح العلمانية. مع ضرورة و تبييئة هذا المفهوم وغيره من المفاهيم ، عبر خطوتين: الأولى التعرف عن قرب على تاريخ المفهوم الذي يراد نقله ، أما الثانية فهي النظر في كيفية إعادة استنبات ذلك المفهوم في المرجعية التي يراد نقله إليها.