لم يكن إعفاء المندوب الجهوي للشؤون الإسلامية بالحسيمة السيد سوسان فكري قرار مفاجئا في سياقه للكثير من المتتبعين والمهتمين بسياسة تدبير الشأن الديني بالمغرب عامة والريف خاصة، هذه السياسة كما هو معروف تعرف الكثير من الاختراقات والتجاوزات من طرف الحركة الأصولية التي تحاول أن تستحوذ على الشأن الديني لاستخدامه سياسيا ضد خصومها. وفي واقعة الإعفاء هذه يتضح جليا أن ذلك تم وفق مخطط تحكمي مدروس للحزب الأصولي الحاكم واذرعه الدعوية والجمعوية لإحكام القبضة على ما تبقى من مفاتيح الشأن الديني من خلال السيطرة على مندوبيات الشؤون الإسلامية والمجالس العلمية والزحف على كليات الشريعة وجامعة القرويين عبر التكتم على معايير الاختيار والمباراة و عدم فتح نقاش عمومي حول البروفيل الخاص بملء هذه المناصب المسئولة على تدبير الشأن الديني و إنتاج النخب الدينية بالبلاد، حتى تخلي الساحة الدينية للأطر الأصولية وتكون كل التعيينات في المستقبل من نصيبهم والدليل على ما نقول هو أن إعفاء السيد فكري سوسان المعروف بولائه للمدرسة المغربية وثوابتها الدينية والفكرية والخصوصية الدينية المحلية باعتباره ابن منطقة الريف وتعيين المندوب الإقليمي لتاونات ذو التوجه الأصولي والمقرب من مصطفى بنحمزة بديلا عنه تم بضغط من جهات أصولية تصفي حسابات سياسية واديولوجية مع مسؤولون وعلماء و مفكرون وسياسيون وفاعلون ومثقفون يتبنون خصوصية المدرسة الحضارية المغربية بكل ما تعنيه وتحمله روافدها الحضارية المتميزة بإسلامها العريق والمتمدن الذي يمثله أمير المؤمنين بصفته الممثلة لكل المغاربة بدون تحزيب ولا تسييس ولا أدلجة، ما دام هذا الإسلام هو عقيدة للمغاربة أجمعين، وليس مشروعا حزبيا لطائفة دون غيرها، ولا يرى فيه المغاربة تعارضا مع القيم الكونية والحضارية للفكر الإنساني الحداثي الديمقراطي المنفتح على شعوب العالم وثقافاتهم، ويأتي إعفاء السيد سوسان متزامنا مع الهجوم العنيف الذي شنته القوى الأصولية على الدكتور محمد المرابط مندوب الشؤون الإسلامية بطنجة بعد مداخلته في الندوة الفكرية الأخيرة التي نظمها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالرباط بخصوص الشأن الديني والتي دق فيها السيد المرابط ناقوس الخطر على مستقبل الشروع الحداثي الديمقراطي ببلادنا ومحاولة الأجندات الأصولية فرملته ونسفه عبر اختراق الشأن الديني واستخدامه كسلم سياسوي ضد القوى الديمقراطية والشخصيات العلمائية المغربية التي تؤمن بالخصوصية المغربية والانفتاح على الحداثة والحضارة العالمية، ويأتي ايضا في ظل تصاعد حملات التكفير على مؤسسات الدولة المغربية والأحزاب الديمقراطية وقياداتها مما يدل على ان ثمة استهداف ممنهج للقوى الحداثية الديمقراطية بالمغرب على غرار ما حدث ويحدث في دول الربيع الأصولي .ان الحركة الأصولية وفي محاولة تمددها في مؤسسات الدولة بأذرعها المتعددة قامت في السنوات الأخيرة باختراق سياسات تدبير الشأن الديني عبر المجالس العلمية ومندوبيات الأوقاف والشؤون الإسلامية وهو ما تجلى بوضوح في تعيين أسماء أصولية إخوانية لا تخفي أصوليتها على رأس المجالس العلمية، وقد عملت تلك الأسماء ومن مواقعها تلك على تحريك وخدمة المشروع الإخواني الخادم لحزب العدالة والتنمية، بآليات دينية مباشرة مستخدمة في ذلك مساجد المملكة وميزانياتها وآلياتها الإعلامية ومنابرها المتعددة، مع العلم أن تلك الأسماء لم تخف محاربتها لثوابت الهوية الدينية المغربية، وعملها الدؤوب على استئصال الخصائص الدينية للشخصية المغربية التاريخية والأصيلة، وقد تجلت ثمار عملها الاستئصالي الدؤوب ذلك بوضوح وجلاء في الحقل الديني المغربي في مساجد المملكة بالخصوص، وذلك عبر اجتثاث الفقهاء المغاربة التقليديين من خطب الجمعة، ومن إمامة الصلوات الخمس من مساجد المملكة، واستبدالهم بخريجي معاهد ومدارس التهريب الديني –بتعبير الباحث والمفكر المغربي الراحل الحسين الادريسي رحمه الله- الأصولية والبعثية ، كما تجلى ذلك بوضوح في الممارسات التعبدية من داخل المساجد المغربية، والتي تم محو الموروث المغربي منها على اعتبار أنه" مليء بالبدع والشركيات ومخالف للسنة النبوية ومخالف لشرع الله"، ومنها المحاربة الشرسة لقراءة الحزب القرآني جماعة من داخل المساجد بعد صلاتي المغرب والصبح، وهو ما وقفنا عليه بدهشة واستغراب في عديد من المساجد بالريف، ومنها في الحسيمةالمدينة ( مسجد مورو بييخو) والأغرب هو أن المسجد نفسه الذي حوربت فيه قراءة الحزب القرآني وحوربت فيه أيضا التعقيبات خلف الصلوات والذي تحول إلى قلعة للأصوليين بدءا بالإمام والمسمع ومدرسي الطلبة داخل الكتاب الملحق بالمسجد ،هو المسجد نفسه الذي يلقي فيه السيد الرحموني خطبة الجمعة وهو رئيس المجلس العلمي للحسيمة، و الذي يرعى فيه كل هذه الأنشطة الهدامة للثوابت المغربية تحت رعاية وزارة الأوقاف، وهو نفسه ليس إلا تلميذا مخلصا من تلاميذ السيد مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة، وهو رائد من رواد التهريب الديني في الشرق والشمال، وذلك لدوره الجبار والذي مازال مستمرا في محاربة ثوابت الهوية الدينية المغربية، وزراعة بذور التهريب الديني المهربة من المشرق في المنطقة ومن هذه الخلفية يمكن تفسير عداء السيد بنحمزة وتلميذه الرحموني "ومراجعهم" للسيد فكري سوسان والضغط لدى الجهات الوصية لإعفائه وليس لاعتبارات تتعلق بما أسمته بعض "المواقع والجهات" الإعلامية "باختلالات" في التسيير المالي والاداري فهذه الدعايات كذب وبهتان لا تنطلي على ذو عقل سليم يملك ملكة التمييز فالخلفية تكمن في ان السيد سوسان كان يقف لهم كحجرة عثرة في تمرير المخطط الأصولي في منطقة الريف المعروفة بإسلامها التقليدي المعتدل السمح والحضاري. إن ارتكاب أي خطأ في تدبير الشأن الديني بالمنطقة بترويج الفكر الأصولي المتطرف المستورد من المشرق يمكن ان يفتحها على مصراعيها لانتشار التطرف الذي بدأت إرهاصاته تظهر في المنطقة على اثر انتشار "جمعيات" تنشر الفكر المتطرف ونذكر هنا على سبيا المثال ما يسمى ب "مدرسة التعليم العتيق" التي توجد بمنطقة "بوسلامة" القريبة من بلدة بني بوعياش بقبيلة "ايت ورياغل" التي تخرج شباب متشبع بالفكر الوهابي المتطرف الغريب كل الغرابة على تدين المنطقة وخصوصياتها وموروثها الديني والثقافي وحتى لا يكون كلامنا في الهواء بدون حجج و اسنادات، نذكر بظاهرة إرسال شباب المنطقة وتجنيدهم لتفجيرهم في سوريا – لدينا أسماء عائلاتهم من إمزورن وبني بوعياش ومن الريف عامة وكاستيخو بطوان- عبر سبتة ومليلية وإسبانيا وهو ما زاده التقرير الاستخباراتي الإسباني فضحا وشيوعا وتعرية حينما كشف عن اسم الحدوشي الوهابي ودوره في تجنيد هؤلاء الشباب من سبتة ومن الريف، بفتاوى القرضاوي وبتسليح وتمويل سعودي تركي وتغطية إعلامية قطرية، هؤلاء الذين يكررون النموذج الأفغاني حرفيا وبدماء المغاربة وهذا من شأنه ان يهدد أفق المصالحة بين الريف والدولة المغربية والذي يحتاج الى جو ومناخ ديمقراطي يضمن له الاستمرارية والنجاح وتصفية التركة الحقوقية والسياسية التي كانت تعرقل اندماج منطقة الريف في النسيج الوطني السياسي والاقتصادي. هذا الانفتاح الذي بذلت فيه الدولة المغربية في شخص الملك محمد السدس مجهودا كبيرا ومضنيا بمؤازرة بعض القوى الديمقراطية والحداثية التي تنتمي للمنطقة. اقتحام المهربين الدينيين لتدبير الشأن الديني بالمنطقة عبر المجالس العلمية، ومن داخل المساجد وجمعيات الوعظ والإرشاد، والمدارس القرآنية والمدارس العتيقة، ومجالس الإفتاء، و تأطير الحجاج والجالية الريفية المغربية في الخارج، ومن داخل المؤسسات الإعلامية والثانويات، قد تؤدي إلى انتكاسة خطيرة على مستوى المكتسبات التي حققتها المنطقة في العهد الجديد. والأخطر في هذا كله هو أن هذه السياسات تتم بعنوان أمير المؤمنين الذي يتم تجويفه عبر إفراغه من مضامين الهوية المغربية، ومن موروثها الديني التاريخي لتوظيف شرعيتها، والاستحواذ على مؤسساتها لإملائها بمضامين فكرية وسلوكية مشرقية أصولية أخرى مضادة للمغربة ومحاربة لها، الأمر الذي يؤدي حتما الى تهديد الأمن الروحي في البلاد عامة والريف خاصة ويفتحها على المجهول.