كان الدر س الحسني الذي قدمه وزير الأوقاف الدكتورالتوفيق بين يدي أمير المؤمنين تعبيرا سليما عن القاعدة النظرية التي ينبغي أن يسير عليها تدبير الشؤون الإسلامية للمملكة، من أجل نهج يحترم خصوصيات الهوية الدينية للشخصية المغربية، وترسيخا لعمقها الحضاري الذي يمنحها التميز درءا لكل الإشكالات الطائفية والحروب الأهلية التي تتم صناعتها في المشرق، ليقوم المتأسلمون بتهريبها إلى المغرب لاستعمالات سياسوية ومالية ومذهبية معلومة، لكن الخلل الذي ظل ينسف قوة هذه القاعدة النظرية التي قدمها وزير الأوقاف، هو سيرها في اتجاه تفتقد فيه لأي بعد عملي تطبيقي، فالواقع العملي الذي نعيشه يوميا في المجالس العلمية للمملكة ومساجدها وكافة مؤسساتها الدينية، يبين بوضوح أن التطبيقات تسير وفق نهج التهريب الديني المشرقي القائم على الوهابية الإخوانية، إلى درجة أصبحت فيه بعض المجالس العلمية محتلة من لدن هؤلاء الإخوانيين. كما أن الممارسات التعبدية من داخل مساجد المملكة أصبحت تسير وفق منهج يتعارض جذريا مع ما قدمه السيد «بن الضاوية» في درسه الحسني السابق حول الخصوصيات التعبدية عند المغاربة، وهو ما خلق مناطق دينية خارجة عن نفوذ الهوية الدينية المغربية التي أسست لها القرويين من خلال علمائها المغاربة الشامخين رضي الله عنهم أجمعين. وقد أصبحت هذه المناطق الدينية الخارجة عن النهج المغربي صارخة في أنحاء المملكة، بل أصبحت هي القاعدة، وما يمثله السيد بنحمزة في الجهة الشرقية من خلال المجالس العلمية وملحقاتها، والمنطقة الوهابية التي خلقها المغراوي في الجهة المراكشية بصورة أخرى من خلال المدارس القرآنية، والمنطقة التكفيرية القتالية التي أصبحت تصدر المقاتلين والانفجاريين من الشمال، والتي كان ولا يزال مندوب الأوقاف السيد المرابط يعاني من ضرباتها، كما عانى المندوب السيد سوسان الأمرين مع السيد الرحموني، وعانى الدكتور أحمد العبادي في الرابطة مرارات متعددة في صور أخرى من ضربات هؤلاء، كل هذا ونحن نعلم علم اليقين بأن الدكتور التوفيق كمؤرخ مغربي حصين ليس إخوانيا ويستحيل أن يكون وهابيا، وهو ما يقال عن الدكتور يسف أيضا، لكن ما يثير الفزع والهلع هو أن يتم تسيير الشأن الديني في مؤسسات المملكة بدءا بوزارة الأوقاف ومرورا بالمجلس العلمي الأعلى، وصولا إلى المجالس العلمية المحلية ومساجدها وفق النهج الإخواني الوهابي، وأن تسلم مفاتيح التدبير الديني للراوندي وبنحمزة الذي نعلم علم اليقين إخوانيته الضاربة للإسلام المغربي، وهو ما نعيش على إيقاع ضرباته وقصفه بشكل يومي في الجهة الشرقية، وقد قدمنا عليه ما لا يعد ولا يحصى من الأمثلة العملية من مواقعها التي اكتسحت عوالم المال والعقار، بعد أن احتلت الجامعة وجعلت جل أساتذتها جندا مجندين وراء صاحب الجبة الإخوانية. أما الجوامع فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وفي الوقت الذي ننتظر من السيد بنحمزة أن يواجه ملاحظاتنا النقدية لنهجه المخالف للمغربة بالحوار، وجدناه يواجهنا بالسباب والشتائم والقذائف والقذف، من منطلق أنه فوق المساءلة والنقد، وكأنه يقول للجميع: «أنا هو جهاز الدولة فاقض ما أنت قاض، فبهت الذي كفر...»، كما سبق أن قال لأحد الزملاء الذي استدل له بالمجتمع المدني بقولته الشهيرة: «واشمن المجتمع المدني؟ أنا هو المجتمع المدني.» وهو ما يبرهن على أن عمله لا يقبل الإعلام المستقل، ولا أدوات الديمقراطية والاختلاف، ولا شيئا يسمى « الإسلام المغربي»، معتبرا كل هذا هراء فارغا…، إلى درجة أصبح فيه الكل يرهبه ويهابه، فيستحيل نقده، وحتى حينما يريد شن غزوة من غزواته الإخوانية على مخالفيه يعمل على تجنيد خطباء الجمعة، لممارسة القصف من أعلى المنابر باستعمال المقدس لترويج المدنس، وهو ما باشره بنفسه في جمعة سابقة ليقوم بالرد على ما أثاره الإعلام الجهوي المستقل من منبر مسجد الفضيلة، ولطالما أثرنا في معالجاتنا هذه الكارثة التي أسس لها وجذرها في الجهة الشرقية، الأمر الذي حول منابر الجمعة إلى قنوات إعلامية مجانية محتكرة، تستغل المقدس الديني الذي هو ملك لكل المغاربة، لصالح فئة حزبية إخوانية خاصة تروج لطائفية معينة. وما يثير الاستغراب الممزوج بالسخرية هو أن رئيس المجلس العلمي نفسه من يوزع «دليل الإمام والخطيب والواعظ» الذي تتصدره مصادقة المجلس العلمي الأعلى، لكنه عمليا وتطبيقيا يقوم بضرب توصياته ومضامينه عرض الحائط، فإلى أي حد يستمر هذا التلاعب الساخر الذي لم يعد سريا بل أصبح علنيا مزمجرا بنقره ونقيره، ونفيره ونفاره، وإذا ما اطلعنا سريعا على « دليل الخطيب…» سنجده يعبر بحق وحقيقة عن ضوابط تحظى بالإجماع الوطني، ولا يمكن لمواطن إلا مباركتها مهما كان انتماؤه السياسي والنقابي والجمعوي، والذي يشمل محوره السادس المتعلق ب «خطبة الجمعة ودور الخطيب» أزيد من ستين عنوانا تؤكد كلها على الضوابط المنهجية والعلمية، وضرورة مراعاة أساليب «التحبيب وتجنيب المنبر المعارك الشخصية والسياسية والإعلامية، وضرورة التحلي بالإيجابية بدل العدمية، وتمتين العلاقات الاجتماعية، والسعي في الصلح بين المتخاصمين....» على اعتبار أن خطبة الجمعة «عبادة وصناعة». فأين نحن من هذا في مساجدنا ومنابر جمعاتنا؟ في الوقت الذي أصبحت فيه بعض منابر الجمعة أدوات وامتيازات ومكاسب دينية يتم استغلالها سياسويا من لدن حزب وجماعاته، وانتخابيا لصناعة أكثرية مدلسة يستعملها في الانتخابات ويهدم ويواجه بها الدولة، ليقول في حملاته: «أنا من يملك الشرعية، والشرعية خط أحمر سنحميها بالدم...»، كما قال مرسي، وهذا لا يثير الاستغراب ما دامت هذه القوى المتأسلمة هي المسيطرة على تدبير الشأن الديني، وهي من يعين ويختار رؤساء وأعضاء المجالس العلمية( الأعضاء يتقاضون 5000 درهم شهريا كتعويض من خزينة الدولة على هذا المجهود الإخواني والجبار الهدام لمؤسسات الدولة ولهويتها…) وهذه المجالس هي من يدرس الخطباء والوعاظ ويؤطرهم وفق مضامين دينية مهربة من المشرق وناسفة للإسلام المغربي ولإمارة المؤمنين، وهو ما قدمنا عليه أمثلة حية ومباشرة بأسمائها من منابر مدينة وجدة وفي خطب حضرتها، والظاهر أنهم يتحدون هذه الملاحظات، ويتصدون لها، لأنهم يعتبرون أجهزتهم وتنظيماتهم أضخم وأقوى من ذلك بكثير. فقد وقفنا في مقال سابق على التجاوزات الصارخة لخطيب « مسجد عمر بن عبد العزيز» بوجدة، والذي حول منبر جمعة هذا المسجد إلى جزيرة إعلامية أسبوعية يهاجم من خلالها العلمانيين والفرنكفونيين والإعلاميين والغربيين، وكل من يعارض النهج الإخواني الوهابي، لكن الظاهر أن تعبئة بنحمزة للخطيب «مصطفى المالكي» الذي كان من ضمن نخبة خريجي «مدرسة البعث»، وقد منحته تلك التعبئة والتكوينات قوة إخوانية وتحديا جعله يتحدى كل نقد كيفما كان، مستمرا على نهجه وتوجيهات شيخه الوحيد، بحيث لا يسمع ولا يطيع غيره، وهذا ما عشته وعاينته وعانيته مباشرة في الجمعة السالفة(03 من شهر رمضان المعظم) حينما أدخلنا الخطيب في هجوماته الشرسة على الغرب وعلى العلمانيين وعلى الفرنكفونيين، وعلى المهرجانيين والفنانين…. ومدينا ما سماه بقوله: «الانقلاب الذي يسمونه ثورة…»، وحديثه عن الفوضى الخلاقة…، وتساؤله الإنكاري عن سبب إقصاء الفقهاء…(وهي عبارة حرفية لبنحمزة تحمل ألغازا، فكل هذه السطوة ويتحدث عن الإقصاء، إقصاؤهم من ماذا؟) وقد استمر في جلد المصلين بمفرقعاته الصوتية المعذبة للناس، والمنعشة للإخونج والإخونجيات، وبمعاركه الدنكيخوتية المهربة من المشرق والبعيدة عنا، والقريبة من الحزب المتأسلم الذي ما فتئ يعتبر منابر الجمعة امتيازات دينية لطوائفه. لكن من غرائب الصدف التي شهدتها خطبة المالكي هذه، والذي ظل يتصور نفسه وهو يعتلي المنبر كأنه يركب جوادا في غزوة لمواجهة المشركين والكافرين والمرتدين، هي أنه أنهى خطبته بدون الدعاء لأمير المؤمنين، وهو ما اعتبر مسألة موضوعية، ومنطقية تتماشى مع مضامين خطبته، إذ يستحيل أن تعبر أفكار الخطبة وعباراتها وشكلها ومضامينها ومنطلقاتها ومقاصدها مع نهج إمارة المؤمنين، وهنا يتجدد السؤال الذي نعتبره بؤرة المشكلة، بل نواة الإشكالية، ومفاد السؤال هو : إلى أي حد يستمر هذا النقض الصارخ لمبادئ تعتبر تدبير الشؤون الإسلامية عامة ومنابر الجمعة منها بخاصة قواعد تمثل أمير المؤمنين باعتباره الراعي للشأن الديني تاريخيا ودستويا، مما يجعل هذه الرعاية الدينية شاملة لكافة المغاربة، وبدون تمييز حزبي ولا فكري ولا جمعوي؟ وعليه فإن منبر الجمعة بحكم رعاية إمارة المؤمنين يصبح مكسبا روحيا لكل المغاربة، فلا يمكن تفويته لجهة حزبية معينة تستغله سياسيا وانتخابيا وتعبويا لصناعة الإشكالات الطائفية المطبوخة في المشرق، وتهريبها للمغرب لخلق الفتنة وهدم الدولة وضرب الهوية، ولعل هذه الممارسات تجبرنا بالعودة إلى الزمن الذي كانت ترد فيه خطبة الجمعة موحدة من وزارة الأوقاف، حتى وإن كنا ننتقدها حينها، لكنه تبين بأن فوائدها أصبحت تبدو جلية أكثر من سلبياتها، فلا يمكن لمنابر تمثل أمير المؤمنين لكنها تروج فكرا إخوانيا مشرقيا باسم إمارة المؤمنين، وهل يمكن لأحد في الجهة الشرقية أصبح يصدق بأن السيد بحمزة في نهجه المسير للشأن الديني بأنه يمثل نهج إمارة المؤمنين بعمقها المغربي الحضاري؟ إن هذا للعجب ، بل إن هذا لشيء عجاب، ولذلك قلنا ونكرر بأن بعض المسؤولين قد يحتفظون ويحافظون على هذه «المعادلة القاتلة»، من منطلق أنهم يحتاجون بنحمزة وغيره من الإخوانيين في المجالس العلمية، وبما أنهم يحتاجون لبعض خدماتهم، في بعض الشؤون الدينية والمالية والسياسية…، كما هو الحال في منح تراخيص لخلايا دور القرآن المغراوية، وكما وقع في تفويت عمادات الكليات التابعة لجامعة القرويين لعمداء كلهم من الأصوليين على يد السيد بنحمزة الذي عين رئيسا للجنة الانتقاء…، لكن ما يغيب على هؤلاء المسؤولين هو أن الخطر الداهم، والبعد القاتل لهذه الخدمات التي يتصورون بأن بنحمزة أو المغراوي يقدمانها، هو أنها خدمات مادية بخسة، ضرها أكبر من نفعها، بل إنها في أبعادها الإستراتيجية قاتلة للهوية وهدامة للدولة، وفتنة لوحدة المجتمع، ومخربة لحضارته وخصوصياته الضاربة في أعماق التاريخ، فهؤلاء الشيوخ المتأسلمين حينما يقدمون خدمات مادية فإنهم يأخذون مقابلها فوائد حزبية سياسية إستراتيجية وليست آنية بالضرورة عبر المقدس الديني الذي يشكل عمق إمارة المؤمنين، وضامن الوحدة العقائدية للشعب المغربي، وهذه الفوائد المقدسة التي يسرقها مشايخ الإخوان خفية من الدولة والشعب مقابل تقديمهم خدمات بخسة، لا يمكن استردادها بسهولة، وحتى إن اكتشفت لعبتها وأرادت الدولة استرجاعها فإن هذه القوى المتأسلمة ستدخل البلاد في القتل والدماء والفتنة باسم الجهاد، والجنة والنار، ودولة الإسلام، ومحاربة الكفار، والحلال والحرام، وكلها مفاهيم تمت سرقتها من المقدس، نماذج (مصر، الجزائر، العراق، لبنان، سوريا، أفغانستان، ليبيا……) وهاهو الغنوشي الذي يتظاهر بالحكمة والديمقراطية قد فضحه الشريط المسرب من حديثه مع الوهابيين بقوله اصبروا حتى ننتهي مع هؤلاء العلمانيين…؟ وهنا يتجدد السؤال عندنا: هل نفوت ديننا الذي هو عصمة أمرنا لجهات تقدم نفسها بأنها تجمع أموالا غامضة وتقدمها للأوقاف لبناء مساجد أو دورا للعجزة؟ والسؤال الأكبر المستفز هو أنه إذا لم تكن لهؤلاء مرجعية سياسية ولا حزبية إخوانية مشرقية مخالفة للدولة ولهويتها الدينية والسياسية، فلماذا لا يفعلون في برامجهم الثقافية والدينية مضامين تؤكد على الهوية الدينية المغربية التي ترعاها إمارة المؤمنين؟؟ وصدق الله العظيم إذ قال في سورة الرعد: «كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال».