الدول العربية غير النفطية قد تكون الخاسر الأكبر يعكس قرار تخفيض الولاياتالمتحدةالأمريكية لسعر صرف الدولار مصالح مدروسة لزيادة الصادرات أو لتحريك الاقتصاد أو فرص الاقتراض، أو الدخول في «حرب عملات» مع الصين التي ما فتئت تثير جنون واشنطن بسياسة أسعارها وتنافسية سلعها المتحدة. وعلى عكس الدول العربية النفطية التي ستشهد ارتفاعاً اسمياً في عائداتها من جراء هذا الانخفاظ، فإن الدول العربية غير النفطية لا مصلحة لها في أن تكون جزءً من هذه اللعبة التي ستكون فيها الخاسر الأكبر. ما بين أواسط شهر غشت وأواسط شهر أكتوبر 2010، انخفض الدولار الأمريكي مقابل اليورو بنسبة 10%، وانخفض لأدنى مستوى له مقابل الين الياباني منذ خمسة عشر عاماً. ولأن السلع الأساسية في العالم مثل النفط والذهب والفضة والمعادن الرائجة وبعض المنتجات الزراعية تسعر بالدولار، فإن أسعارها في الأسواق الدولية راحت ترتفع بدورها، مع العلم أن تدهور سعر صرف الدولار، هو أحد الأسباب، وليس السبب الوحيد، لارتفاع سعر برميل النفط على المدى البعيد، حيث تلعب المضاربة المالية في الأسواق دوراً رئيسياً في رفع سعر برميل النفط، كما حدث عام 2008، أما الذهب، فيشكل ملجأً للمدخرات أكثر آماناً من العملات في أزمنة عدم الاستقرار السعري أو السياسي. وقد كان السبب الرئيسي لانخفاض سعر صرف الدولار في هذه السنة، (بين نهاية صيف وبداية خريف 2010)، هو تلميح مصرف الاحتياطي الفيدرالي، أي البنك المركزي الأمريكي، أنه على وشك ضخ كميات ضخمة من النقد في التداول من خلال شراء مليارات الدولارات من السندات وأذونات الخزينة الحكومية الأمريكية. وبالفعل، نقلت وسائل الإعلام في 3/11/2010 أن مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أقر برنامجاً لإقراض حكومة الولاياتالمتحدة 600 مليار دولار على مدى أشهر، وهو ما يشكل ضخاً لمئات مليارات الدولارات في التداول. أما الهدف من هذه الخطوة فيتلخص بما يلي: أولاً: تنشيط الاقتصاد الأمريكي الذي لم يتعافى من الأزمة المالية الدولية بعد، حيث أن زيادة كمية النقد في التداول تؤدي إلى تخفيض متوسط معدل الفائدة، وهو ما يفترض أن يشجع المستثمرين والمستهلكين على زيادة الطلب على القروض، مما يفترض أن يؤدي إلى زيادة الاستهلاك والاستثمار، ومنه الاستثمار في شراء المنازل أو الأسهم، مما يفترض أن ينشط الحركة الاقتصادية، ولو أنه أثار مخاوف بعض المحللين من نشوء فقاعات سعرية في قطاع الأسهم والعقارات قد تقود إلى إعادة إنتاج الأزمة المالية الدولية، ومن الملاحظ أن أسعار الأسهم الأمريكية ارتفعت مباشرة بعد بدء انخفاض سعر صرف الدولار. ثانياً: تخفيض معدل الفائدة على السندات الحكومية وأذونات الخزينة الأمريكية، والسندات الحكومية الأمريكية طويلة المدى، ومنها مثلاً القروض الحكومية الأمريكية لمدة ثلاثين عاماً هي المؤشر المعتمد تقليدياً في الأسواق الدولية لمعدل الفائدة الخالي من المخاطرة. فالفائدة هي سعر النقود، وزيادة عرض النقد في التداول يخفض سعرها، أي يخفض معدل الفائدة، وبالتالي يخفض معدل الفائدة الدولي بما أن الدولار ما برح العملة الرئيسية للتبادل الدولي، كما أنه يرفع من قيمة الأسهم التي يلجأ المودعون إليها مع انخفاض سعر الفائدة. ويتيح انخفاض كلفة الاقتراض بالنسبة للحكومة الأمريكية أن تقترض بمعدل فائدة أقل، وهو الأمر الذي يهمها جداً في الوقت الذي يرتفع فيه الدين الحكومي الأمريكي إلى مستوى فلكي. وفيما يتراكم العجز السنوي في الموازنة الأمريكية، يصبح تخفيض الفائدة على دين الحكومة شريان حياة حقيقيا للإمبراطورية الأمريكية ومغامراتها الخارجية التي أسهمت بإنتاج هذا الدين أصلاً، وعلى رأسها حرب العراق طبعاً. فحتى 7/11/2010، بلغ مجمل الدين الحكومي للولايات المتحدة 13723 مليون دولار، أي حوالي 14 تريليون دولار تقريباً، وهو ما شكل 95% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، والأهم أن أقل من نصف هذا الدين هو لأجانب، أي لغير أمريكيين، منها 772 مليار دولار تدين بها الحكومة الأمريكية للحكومة الصينية حتى ماي 2009. وبالمجمل، فإن الصين واليابان تملكان 44% من الدين الخارجي لحكومة الولاياتالمتحدة. ثالثاً: تخفيض سعر الصادرات الأمريكية، وزيادة سعر الواردات الأمريكية، حيث أن انخفاض سعر صرف الدولار يجعل السلع والخدمات الأمريكية، والسياحة في الولاياتالمتحدة، والأصول الأمريكية، أقل كلفةً بالنسبة لغير الأمريكيين، فيما يجعل السلع والخدمات والأصول الأجنبية أغلى بالنسبة للأمريكيين، وهو ما يفترض أن ينشط الاقتصاد وأن يسهم في تخفيض العجز في الحساب الجاري للولايات المتحدة، الذي يشكل العجز في الميزان التجاري المصدر الرئيسي له بالنسبة لأمريكا، وأن يزيد الفائض في الحساب الرأسمالي والمالي من خلال تخفيض قيمة الأصول الأمريكية بالنسبة لغير الأمريكيين وتسهيل الاستدانة بالنسبة للحكومة الأمريكية. ويشار هنا أن العجز في الميزان التجاري الأمريكي بلغ حوالي 817 مليار دولار عام 2006، وقد بلغ أقل بقليل من 400 مليار دولار عام 2009، وقد كانت آخر سنة شهد فيها الميزان التجاري الأمريكي فائضاً هي 1975. وقد بلغ العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين وحدها حتى غشت 2010 فقط أكثر من 173 مليار دولار، وبلغ العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين عام 2009 حوالي 227 مليار دولار، وبلغ عام 2008 حوالي 268 مليار دولار، وعام 2007 حوالي 259 مليار دولار،... أي أن الولاياتالمتحدة تعتبر الصين المصدر الرئيسي للعجز في ميزانها التجاري، كما أنها تعتبر أن انخفاض سعر صرف عملة الصين (اليان) السبب الرئيسي للفائض في الميزان التجاري الصيني مع الولاياتالمتحدة، مما يبقي أسعار السلع الصينية رخيصة، وبالتالي فإن ما سبق من تخفيض مقصود لسعر صرف الدولار تم اعتباره في الصحافة العالمية ك»حرب عملات»، حيث أن الصين تضخ مئات المليارات من اليان سنوياً لإبقاء سعره ضعيفاً، ولإبقاء السلع الصينية رخيصة، وهو ما يثير جنون حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية... وغيرها ممن يغيظه صعود الصين (ومنهم اليابان مثلاً). وعلى سيرة «حرب العملات»، فإن تخفيض سعر صرف الدولار لا يزيد من قيمة الصادرات الأمريكية للعالم ويقلل من الصادرات الصينية فحسب، بل يقلل من القوة الشرائية للاحتياطي الدولاري الهائل في البنكين المركزيين الصيني والياباني، كما يتيح للحكومة الأمريكية أن «تعوم دينها الخارجي»، أي أن ترد ما استدانته من الخارج بدولارات قوتها الشرائية أقل، وهو ما يثير قلق الصينيين بالذات طبعاً، لأنه يهدد بمحو جزء من احتياطياتهم وقروضهم على الولاياتالمتحدة بجرة قلم! إذن ثمة أبعاد محلية لقرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وأخرى دولية، ولكنه في الحالتين قرار يعبر عن أزمة أنتجتها الأزمة المالية الدولية عامة، وأزمة الإمبراطورية الأمريكية التي عززتها الحروب الخارجية في العراق وأفغانستان خاصة، ففاقمت العجز في الميزانية الحكومية الأمريكية وزادت من مشكلة الدين العام الذي يساوي تكامل صافي العجوزات الحكومية عبر السنوات، ومنه الدين العام الخارجي. وعلى الرغم من أن زيادة كمية النقد في التداول ذات آثار تضخمية عادة، فإن كون الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود نسبي يعطي الولاياتالمتحدة إمكانية تحريك الطلب الكلي من خلال تخفيض سعر الفائدة بدون آثار تضخمية ملموسة في المدى المنظور، فقد ازداد المعدل العام لارتفاع الأسعار عشُر 1%، أي 0.1% فقط، في شهر شتنبر2010. أي أن توقع زيادة النقد في التداول في غشت2010 لم يخلق مشكلة تضخم بعد في الولاياتالمتحدة، كما يحدث عادة عندما يكون الاقتصاد قرب مستوى التشغيل الكامل للموارد، أو حسب نظرية «التوقعات العقلانية» على الأقل! فمعدل البطالة يبلغ في الولاياتالمتحدة قرابة %10، والمنشآت الاقتصادية أبعد ما تكون عن العمل بأقصى طاقتها حتى تؤدي زيادة الطلب الكلي لإطلاق موجة تضخمية. ولكن ماذا عن الدول التي تربط عملتها بالدولار كالدينار الأردني مثلاً المربوط نظرياً بحقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، والمربوط عملياً بالدولار الأمريكي منذ 23/10/1995؟ فضخ 600 مليار دولار في التداول من قبل السلطات النقدية الأمريكية سيؤدي بالضرورة إلى انخفاض سعر صرف الدولار حسب قانون العرض والطلب، وبالتالي إلى انخفاض سعر صرف العملات المرتبطة بالدولار، وبالتالي إلى ارتفاع أسعار المستوردات، ومنها النفط المسعر بالدولار، ومنها السلع المستوردة من أوروبا أو المسعرة باليورو والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والدولار الكندي والأسترالي... وما سبق يهدد بموجة تضخمية حقيقية في الدول العربية غير النفطية، المعتمدة على الاستيراد، ممن تربط عملتها بالدولار، كما أنه يهدد بزيادة نسبة خدمة الديون الأجنبية، من أقساط وفوائد، غير المسحوبة بالدولار، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن انخفاض سعر صرف الدولار عالمياً سينعكس على الدول العربية التي تربط عملتها حصرياً بالدولار بزيادة العجز في ميزانها التجاري وحسابها الجاري، وهو ما يهدد بأزمة حقيقية في اقتصاديات الدول العربية وغير العربية التي تربط عملتها بالدولار وليس لديها مورد نفطي قد تزيد من معدلات الفقر وتخفض من منزلتها حسب مؤشر التنمية البشرية المستدامة، دون أن تحرك الاقتصاد أو تزيد الصادرات كما يتأمل صانعو القرار الاقتصادي في الولاياتالمتحدة. في عام 2007، فكت الكويت وسوريا ارتباط الدينار الكويتي والليرة السورية بالدولار، ولا شك أن ذلك كان قراراً حكيماً قلل من الآثار التضخمية التي سببها انخفاض سعر صرف الدولار في خضم الأزمة المالية الدولية عام 2008. وهو ما لم نشاهده في الأردن الذي شهد ارتفاعاً حاداً في متوسط أسعار السلع والخدمات في عام 2008، على الرغم من أن ربط الدينار بالدولار حقق استقراراً نقدياً في سعر صرف الدينار على المدى البعيد، وفي اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. ولا شك أن فك ارتباط العملات بالدولار، وربطها عوضاً عن ذلك بسلة من العملات الأجنبية، قد يؤدي إلى تذبذب سعر الصرف بدلاً من استقراره، على الأقل مقابل الدولار، لكن الوقت حان لإعادة النظر في سياسة ربط العملات بالدولار الأمريكي في ضوء ما سيرشح قريباً من ارتفاع في أسعار المستوردات التي تشكل النسبة الأعظم من استهلاك كثير من الدول العربية، مما سيؤدي للجوع والفقر وتدهور مستوى المعيشة، ناهيك عن القضية السيادية المتعلقة بدولرة الاقتصاد المحلي. وإذا كانت الدول العربية النفطية قد تشهد ارتفاعاً اسمياً في عائداتها من جراء انخفاض سعر صرف الدولار، وإذا كانت للولايات المتحدة مصالح مدروسة من تخفيض سعر الدولار لزيادة الصادرات أو لتحريك الاقتصاد أو فرص الاقتراض، أو إذا كانت بصدد الدخول في «حرب عملات» مع الصين، فإن الدول العربية غير النفطية لا مصلحة لها أن تكون جزءً من تلك اللعبة، بل قد تكون الخاسر الأكبر منها.