حل أمس الثلاثاء اليوم الوطني للإعلام، الذي يصادف الخامس عشر من نونبر كل سنة، وهو يمثل مناسبة لتجديد قراءة واقع مشهدنا الإعلامي، واستعراض منجزاته ومكاسبه، والتذكير كذلك باختلالاته وتجليات القصور في ممارسته، وفي كامل منظومته العامة، بالإضافة إلى إبراز انتظارات مهنيي القطاع ومطالبهم. بغض النظر عن زوايا النظر لقضايا الصحافة والإعلام، وارتباط ذلك بالمرجعيات ومرتكزات التعاطي معها، وأيضا اختلاف المواقع والمصالح في العلاقة مع وسائل الإعلام، فإنه من المؤكد أن القطاع شهد بالفعل إيجابيات ومنجزات، خصوصا على صعيد القوانين والدعم العمومي، إضافة إلى اتساع دائرة التعبير والانفتاح والتنوع، لكن، الجميع يتفق على أن كل الخطوات الإيجابية التي تحققت في السنوات الأخيرة، أو التحولات التي كرسها التطور التكنولوجي الهائل الذي صار يميز ميدان التواصل وعالم الإنترنيت، لم تنجح في صياغة واقع إعلامي وطني يمتلك الجدية والرصانة اللازمتين، ويتمثل أخلاقيات المهنة، ويتميّز بالمصداقية والفاعلية والانتصار للقيم الديمقراطية الكونية وثقافة حقوق الإنسان. عديد صحف مكتوبة باتت اليوم "متخصصة" في الاقتيات على عيوب المجتمع، وتحويل أخبار الانحرافات الاجتماعية الفردية إلى قضايا رئيسية بارزة في صفحاتها الأولى، وأخرى لا تتردد في الترويج لأخبار، قد لا تكون صحيحة، تستهدف الحياة الخاصة لشخصيات عمومية والتشنيع بها، بدون التقيد ولو بالحد الأدنى من الاحتراس والتحري المفروضين بموجب القواعد المهنية الأساسية، بالإضافة إلى كون بعض هذه الصحف باتت هي نفسها فاعلا سياسيا تخلق التحالفات وتلصق مواقف من وحي خيال من يكتبها لهذا الطرف الحزبي أو ذاك، بما يخدم أجندة لوبيات سياسية أو اقتصادية ويبرز أهدافها. منابر إلكترونية، والكثير منها يفتقد أدنى شروط الهيكلة والمأسسة ولا يمتلك أي حس مهني أو مصداقية أخلاقية، لا تعمم سوى الإشاعات، وأيضاً السب والشتم في حق الحياة الخاصة لعديد أفراد، وتشويه الصورة واستهداف كثير مؤسسات، علاوة على أن عديد منابر من هذه الشاكلة لم تعد خافية الجهات السياسية والاقتصادية التي تخترقها أو تمولها أو توجهها بغاية تحقيق مصالح اللوبيات المرتبطة بها والممثلة لمصالحها. أما بعض الإذاعات الخاصة فبدورها تحولت إلى واجهات كلام تبث أي شيء، وحتى تتصدر نسب الاستماع ونيل الإدراجات الإشهارية، فهي لا تتردد في الترويج للإثارة الفجة والبئيسة، ولا تخجل من بث أي شيء، حتى عندما يكون مسيئا للغة المغاربة وذوقهم أو لأفق انتظارهم، أو ساخرا من ذكائهم. ليس الأمر هنا إصرارا على نشر صورة سوداوية حول واقعنا الإعلامي، فأي عاقل لا يمكنه إنكار إيجابية انفتاح حقلنا الإذاعي وإعلامنا الإلكتروني وتعدديتهما، ودور الإذاعات الخاصة والمنابر الإلكترونية في توسيع فضاء حرية الكلام والتعبير، ولا أحد ينكر كذلك أن تنوع قطاع الصحافة المكتوبة أكسب المغرب أيضا تميزا على صعيد تجربته الإعلامية والديمقراطية، وكل هذا أتاح للمغاربة حق الاختيار وسط العرض الإعلامي الوطني المتوفر أمامه، ولكن هذا كله لا يعفينا جميعا من الإقرار بوجود اختلالات هيكلية في بنية القطاع ومنظومته، وفي تجليات الممارسة. إن ما تشهده المهنة اليوم ينبهنا كلنا إلى أن الانحدار يتواصل على أكثر من مجال، وخصوصا على سلم المصداقية المهنية والأخلاقية، وهذا يفرض اليوم التدارك، وأن يجري الانكباب على إيجاد أجوبة وحلول واقعية وناجعة للنهوض بقطاع الصحافة والإعلام في بلادنا، وذلك طبعا ضمن إطار الالتزام العام بمقتضيات الحرية وحقوق الإنسان، ولكن أساسا عبر رؤية إستراتيجية متكاملة تستحضر الصحافة كقطاع مقاولاتي واقتصادي منتج وفي حاجة إلى الدعم والمواكبة والتأهيل، وأيضا باعتبار الصحافة من أهم ركائز الديمقراطية ومن ضمن صمامات الأمان لتطوير استقرار المجتمع وانفتاحه وتقدمه وإشعاع صورته العامة. لا يمكن الاكتفاء بتشريعات وقوانين وبنيات مؤسساتية لوحدها، برغم ما يخترق تفاصيل بنائها القانوني والتنظيمي والإجرائي من ثغرات ونقائص وعشوائية، والتعويل على ذلك لمواجهة ما يتربص بالقطاع من مخاطر. الصحافة عندنا اليوم يجب أولا أن تتحرر كثير عناوينها ومنابرها من اختراقات اللوبيات المتعددة والأيادي المحركة لها ولخطوطها التحريرية، ومن النفخ المصطنع و"الدوباج" لمنشورات محددة، وأن يكتسب قطاع الإعلان والإشهار صفات الوضوح والمساواة والتقنين. الصحافة عندنا، وخصوصا المكتوبة، يجب أيضا أن تقوم على مقاولات مهيكلة، وعلى نموذج تدبيري حديث وعقلاني، ولكنه أيضا يستفيد من برنامج إجرائي مواكب يشمل المقتضيات الجبائية المفروضة ونظام التعامل البنكي ومنظومة التوزيع المعمول بها، بالإضافة إلى تدخلات عمومية كبرى أخرى لتطوير أوضاع مهنيي القطاع. منظومة التقنين، في إطارها العام، هي بدورها يجب أن تتطور باستمرار، وأن تمتلك القدرة على توفير الأجوبة الفعالة والواقعية على الأسئلة اليومية للممارسة الميدانية، وأن تمتلك إمكانيات التكيف باستمرار مع تطورات الواقع المهني والتحولات التكنولوجية المتسارعة، وأن تجد الإجابات والمخارج الناجعة. اليوم، لا يمكن إيجاد الحلول من خلال إجراءات جزئية تفتقر إلى التكامل والرؤية الإستراتيجية وقوة الإرادة السياسية، ذلك أنه في غياب مخطط إستراتيجي تبلوره الدولة مع المهنيين، وينطلق من الواقع الوطني بغاية تمكين بلادنا من إعلام في مستوى مسارها الديمقراطي العام، ويستطيع أن يعكس تطلعاتها، والدفاع عن صورتها ومصالحها وقضاياها الوطنية الأساسية، فإن الأمر لن يخرج عن دوائر الترقيع والعشوائية، وفي كل مرة يعود الكلام إلى البدايات الأولى في التشخيص، وفي المطالب والتطلعات.