يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية،من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات. هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات. نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي..من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء:»مكان نظيف وجيد الإضاءة». من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد. كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي. *** عادت إلى المائدة، وجلبت فنجان قهوتها، وكيساً أسود لم أتبينه أول الأمر. استمرت «س» تتحدث عن مرض والدتها، ولم نعر اهتماما للفتاة التي جلست إلى جانبنا. كانت شاردة. حلق عصفور فوق رءوسنا وكاد أن يحط فوق المائدة. كانت «س» تنظر إليه وهو يزقزق وينط فوق العشب. قلت للفتاة الشاردة : - لقد قرب وقت الامتحان. ما هو تخصصك؟ نفتت دخان سيجارتها وقالت دون أن تنظر إلي: - لست طالبة. يبدو أن»س» لم تتقبل حضورها بيننا لكنها قالت بهدوء: - هذا المكان لا يرتاده إلا الطلبة. قالت الفتاة : - كنت أتمنى أن أكون كذلك. ثم وقفت ببطء، وأخذت تتمشى، عندما ابتعدت قليلا قلت ل»س» : - يبدو أنها مخدرة. - العلم عند الله. عادت الفتاة إلينا. رشفت من فنجانها جرعة وهي واقفة ثم قالت: - لست طالبة، ولكني جئت لكي أبحث عنه. كنت أعتقد أنه يوجد في هذا المكان. لقد قالت لي إحدى صديقاتي إنه يأتي إلى هنا. قلت لها: - من يكون ؟ - إنه هو. - من يكون؟ - إنكما لا تعرفانه. و كنت أعتقد أنكما تعرفانه، فهو يتحدث بالطريقة التي تتحدثان بها، كان طيبا وكان يتحدث بهدوء مثلما تتحدث أنت إلى هذه الآنسة أو السيدة لا أدري. لكنه ذهب. - من يكون ؟ - إنه الذي أبحث عنه، وهو يشبهك. نظرت إلى « س « فلاحظت أن ملامح وجهها قد تغيرت. كانت الفتاة تتمشى ببطء، وتنظر إلى الأعشاب وتدور حول نفسها وهي شاردة تماماً. ثم قالت: - لا يهم أن يشبهك أولا يشبهك، سوف أبحث عنه في كل مكان. كان في صوتها حشرجة بكاء، ثم مشت بعيدا عنا بخطوات بطيئة. لم نفهم أي شيء كانت «س» تنظر إلي في صمت. ثم قالت: - الله يستر. - الله يستر، لا نعرف شيئا يمكن أن الناس قد أصابهم جنون. - لا يهم لقد ذهبت لتبحث عنه. - قد تعثر عليه في أي مكان. - الأمكنة تتشابه و الرجال لا يتشابهون. - ذاك شأنها، ما يهمنا هو البحث عن أنفسنا، أما هي فقد ذهبت لتبحث عنه. رجع العصفور ليزقزق فوق رأسينا، وحط بالفعل على طرف المائدة، لكنه سرعان ما طار، ربما ليبحث عن شيء كان قد افتقده أو هو في حاجة إليه.