بول شاوول، الذي حظي مؤخرا بتكريم العاهل المغربي الملك محمد السادس، يُعتبَر واحدا من كبار الشعراء اللبنانيين المجددين، الذين أعطوا نفسا قويا للقصيدة العربية المعاصرة وفتحوا أمامها مسالك من التجريب الجريء، المُستند إلى ثقافة شعرية ومسرحية وفلسفية عالية. فضلا عن خبرة بول شاوول بالحياة، بهمومها الوجودية، وبصراعاتها السياسية، التي تُعتبر الساحة اللبنانية من أعقد فضاءاتها. وبالرغم من تتبعه لدقائق الشأن العام، من موقعه كصحافي ملتزم بقضايا الحرية والعدالة والديمقراطية، في بلده وفي عموم الوطن العربي، فإنه نأى دائما بقصيدته عن كل استجابة فورية لمطالب الواقع، وحرص على تلك المسافة الفنية، التي تجعل الشاعر يقول الحياة، ولكن بشروط الفن، الذي يسائل أدواته، ويبتكرها باستمرار، على نحو يلائم خصوصية التجربة الشعرية، التي تخوضها الذات في كل عمل فني. وبالرغم من إسهاماته الثقافية المتنوعة، في المسرح والترجمة والنقد، فإن صورة بول شاوول كشاعر تبقى محط تقدير استثنائي، بَوَّأه مكانة متميزة، ضمن خريطة التجريب الشعري العربي الخلاق، ضمن مرحلة ما بعد تجربة الرواد. وهذه المكانة استحقها بول شاوول بفضل أعماله الشعرية الإحدى عشر الصادرة حتى الآن، بدءا بديوان «أيها الطاعن في الموت»، وصولا إلى ديوان «حجرة مليئة بالصمت»، مرورا بأعمال كثيرة منها «بوصلة الدم»، «الهواء الشاغر»، «أوراق الغائب»، «شهر طويل من العشق»، «دفتر سيجارة»، «حديقة المنفى العالي»، وعمله «بلا أثر يُذكَر» (2009)، الصادر حديثا في طبعة أنيقة ومميزة عن دار النهضة، والذي نخصه الآن بهذا التقديم المختصر. يُجرِّب بول شاوول، في هذا الديوان، تأليف قصيدة نثر مُمَيَّزة، تتناسل على امتداد قطع نثرية تسترسل في أسطر شعرية تامة، على نحو يجعل كل قطعة تُفضي إلى الأخرى، في تكامل وتقاطع وتشعب يحفر مسارات أخرى، في بناء دلالة الارتياب والتفكه والغثيان والإمِّحاء والهشاشة والهوس المرضي وفقدان الجدارة واليقين وكل مواطن الارتكاز، التي يمكن أن تُسعف الذات بما يبعث على الوقوف والمقاومة. إنها حالات من التشظي الداخلي، التي تلاحقها التجربة الشعرية بهوس يجعل القطع الشعرية تتصادى وتتجاوب، على نحو يؤسس لتجربة الكتاب الشعري، القائم على وحدة الوعي والتصميم. إن ما يعرضه علينا بول شاوول، في «بلا أثر يُذكَر»، يستند بقوة إلى منطق داخلي في التأليف، يجعله بعيدا عن مفهوم القصائد المجموعة أو المنتقاة، لصالح كتابة شعرية تتجه، نصيا، نحو بناء ما يؤسس لتجاوراتها من امتدادات التواشج والتداخل، التي تجعل التنفيذ الفني يخضع، أولا وأخيرا، لقصدية بناء الكتاب. تتعقب نصوص الكتاب ذاتاً هشة، تكشف عن وجه إنساني مهووس، مُهلِوس، مرتاب وفاقد لكل موطن اتكاء. ذات تتعقبها القصائد في فضائها الأثير، متجسدا في المقهى بكل ما يؤثثها من كراس وطاولات ومنافض وسجائر ونوادل وظلال وأضواء وعتمة. إنها المسرح الأثير لممارسة واستئناف فعل الحياة المعطل، بقوة التهيؤات والاستيهامات والشكوك، التي تخترق ذاتا لا تملك شيئا من زمام نفسها، ولا أثر لها على فضائها، ولا سيطرة لها على أفعالها، إلا في حدود ما يجعل الوهم سيدا، يوجه الذات نحو الإتيان بأفعال تفقد التبرير، الذي يحكم منطق الحياة العامة. تجسد المقهى بؤرة فاعلية التخييل الشعري، منطلِقا من الذات وعائدا إليها، في ذهاب وإياب، يجعل من المكان حيِّزا وامتدادا، تتحقق معه فاعلية التذويت، على نحو يسمح للشعر بالنهوض على أنقاض القصة، فيلجأ إلى تفتيتيها وتحريرها من دينامية التطور والبناء، ويُبقي عليها كلحظة ارتياب مفتقِدة للسند، بداخلها يُهيمن البطء وترين الرتابة، التي تجعل الفعل يكرر فعلا سابقا، ويستدعي ما يبعث على النفور والملل وربما القيء أحيانا، على نحو يكرس أجواء العبث، ويجعل الشخصية الشعرية، التي تتقدم بلا بوصلة ولا اتجاه، سليلة رياح أدبية عبثية وسريالية، عرفها الأدب العالمي في فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدها. إن هذه الشخصية الشعرية نادِرا ما تبرح جحيمها الداخلي، وهي عندما تنتبذ لنفسها كرسيا في مقهى، فإنها تعيش عزلتها كقدر شخصي لا فكاك منه، ولذلك فإنها تغرق كل مؤتثاث الفضاء في عالمها الداخلي، فتنبثق من هناك، مثقلة بقلق وجودي خانق. لا يستندُ المناخ الشعري في «بلا أثر يُذكَر»، إلى حدث خارجي يشرط القول ويولد فاعلية التخييل. وإنما يستلهم شرطا إنسانيا صعبا عاما، أصبح من سمات الحياة المعاصِرة، وإن كان قد ناخ بكلكله أكثر على الانسان اللبناني، الذي أذاقته الحرب الأهلية صنوفا من العذاب، جعلته يفقد الثقة في ذاته وفي الجدارة والأخوة الإنسانيين، وهو ذات الأمر الذي كان قد غذى الأدب العالمي، بعد الحرب العالمية الأولى، بطعم العبث، وأشاع بداخله أيضا ما اصطلح عليه رولان بارت بالكتابة البيضاء. نموذجان شعريان من الديوان (ص9/10) 4 ... تغيَّب عدة أيام عن المقهى. وربما أسابيع. أو أكثر. وفجأة دخل. وقد تغير كل شيء فيه تقريبا. ومن المفيد التذكير بأنه كان يرتدي ملابس «صيفية» داكنة: بدلة رمادية غامقة. قميصا كحليا. وحذاء أسود. كأنه إما ذاهب إلى تعزية أو قادم من جنازة. كأنه اختار هذه الألوان ليوحي نوعا من القوة والإصرار (ولمَ لا الغموض) فالألوان القاتمة دليل شخص متماسك. أو العكس. القلق الكثيف. أو الخوف الراسخ. أو كلهما معا. والألوان هي الوقت أيضا (ساعته بلون داكن). وهو يريد وقتا بألوان متداركة ومتقاربة. تماما كالملابس. والوقت ملابس أيضا. وحذاء. وجوارب. وهكذا دخل كهبة ساخنة من باب المقهى. بخطى ناقوسية. مُوقَّعة وقاطعة. إنها تمشي وحدها. كان دخوله يشبه كتلة مغلقة مصبوبة صبا، تعبر المقهى تقص الهواء ودخان السجائر والكلام بلا رحمة. عيناه تصوبان بشكل أفقي حاد. ومعقد، إذا اعتبرنا، ومن باب التكهن أن المرور بين الطاولات يتطلب مشية متعرجة، لكن حاسمة. 5 ... لكن المشية، برغم كل ذلك، بدت كحركة من حركات لاعب سيرك، وهو يمشي على الحبل. كأنما فوق هاوية. وهذا العائد عندما دخل المقهى بدا وكأنه يمشي فوق هاوية. أو في هاوية. أو تحت هاوية. وهذا ما يفسر ربما خطاه المتواطئة. كأن الخطوة التي يخطوها بقدمه اليمنى تمحو اليسرى أو العكس: كأنما الخطوة التي تخطوها اليسرى تصير خطوتين وأكثر. وهذا ما يفسر ربما هشاشة مشيته الملحمية. خطى يحركها نفير صامت غامض. وهي تندفع بلا حول إلى الطاولة. إنه النفير الصامت. المهيب، وربما المخيف...