مع بداية الثمانينيات من القرن العشرين، صارت الحاجة إلى"نظام عالمي جديد" مطلبا إنسانيا وحلما يراود البشرية بأكملها وكان السبيل إليها هو دمقرطة الإعلام والإقتصاد. ولأن دول العالم الثالث كانت المتضرر الأول من النظام الدولي السابق القائم على الثنائية القطبية شرق-غرب ومن كل النظم الدولية السابقة في القرنين السابقين، فقد كانت السباقة بالدعوة إلى المطالبة بدمقرطة العلاقات الدولية من داخل منظمة اليونيسكو يؤيدها في دلك الأمين العام آنذاك للمنظمة. أما المطلب فكان "دمقرطة النظام الدولي اقتصاديا وإعلاميا بشكل يسمح لهده الدول العالمثالثية بالتنمية الاقتصادية والمشاركة في تدبير الشأن الدولي". وهو مطلب يقوم على تأسيس نظام عالمي جديد مبني على قيم التعاون والتضامن والتقارب والتعايش... لكن المطلب أثار غضب الولاياتالمتحدة التي انسحبت من منظمة اليونيسكو عند نهاية الثمانينيات من القرن الماضي جارة وراءها ربع ميزانية المنظمة فأسقطت بذلك أمينها العام آنذاك كما أسقطت المطلب في شقه الإنساني العادل. لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الولاياتالمتحدةالأمريكية في حرب الخليج الثانية سنة 1991 وخروجها للعالم دركيا وحيدا أوحدا، عادت لتستحود على المشروع العالمثالثي، "النظام العالمي الجديد"، اقتصاديا واعلاميا مع إلباسه ثيابا إمبرياليا وإفراغه من مضمونه الديموقراطي ونَفَسه العالمثالثي، مكرسة بدلك واقع هيمنتها على العالم وتبعية هدا الاخير لها ولشركائها عبر فلسفة جديدة في تدبير الشأن الدولي: "العولمة". بذلك أضحى العنف المادي والرمزي على الدول العالمثالثية مضاعفا، وأصبحت الهيمنة أكثر شراسة بحيث لم تعد تقتصر على التأثير والضغط على مراكز القرار السياسي في الدول الصغرى بل تعدته إلى الهيمنة على أفراد تلك الدول مجتمعين أو منفردين، مستفيدة من امتلاكها لوسائل الإنتاج الجديدة في الثورة المعلوماتية. ودفاعا عن التقارب بين الشعوب وثقافات الشعوب وحضاراتها، وجدت "العولمة" التي تتقصد تحويل كل الثقافات الإنسانية على غناها إلى ثقافة واحدة، ثقافة الحضارة الغربية المهيمنة، نفسها أما "مضاد حيوي ثقافي" يتغيا تنمية روح الحوار بين الثقافات الإنسانية وتقوية الوعي بالانتماء لكوكب واحد وترقية الفكر والخطاب والسلوك الإنساني إلى مستوى الوعي بغنى الثقافات الإنسانية الكامن في اختلافاتها وتنوعها. فإذا كانت "العولمة" Mondialisation علامة مسجلة في الهيمنة اللامحدودة على رساميل الأرض المادية والرمزية تحت ضغط جشع الشركات الرأسمالية العملاقة، فإن "المثاقفة" أو"التثاقف "Acculturation تبقى علامة فارقة في الدفاع عن ضرورة التنمية وضرورة احترام الاختلافات التي فُطرَْ عليها الجنس البشري والثقافات الإنسانية. وإدا كانت بعض التنظيرات الفلسفية الجديدة قد أدت دور المُبَشر لانطلاق "عولمة الهيمنة" وساهمت إلى حد بعيد في إعطائها السند الفكري والمبرر الموضوعي، فإن الترجمة، على الجهة النقيض، أدّت ولا زالت تؤدي أدوارا طلائعية في حماية التنوع والتعدد الثقافي وتدعيم فلسفة "المثاقفة" والتقارب والتعايش بين الشعوب والحضارات. فلقد كانت الترجمة دائما توفر الأرضية الصلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري من خلال تأسيس الأرضية المعرفية وتحديد الحد الأدنى من المعارف التي لا يُقبل النزول تحتها إلى مستويات الجهل والاستهتار المعرفي. فالأمم لا تبدأ من فراغ، بل من الاستفادة من المترجمات التي ليست شيئا آخر غير تجارب السابقين ومعارفهم وخبراتهم محفوظة بين دفتي كتاب. فقد ترجم اليونانيون كنوز العلم والتنجيم والفن والرياضيات عن حضارات قديمة جاورتهم كالحضارة الفارسية والمصرية القديمة، كما انتعشت الثقافة العربية الإسلامية بفضل الدماء الجديدة التي سُكبت في شرايينها من خلال ترجمة التراث الهندي والفارسي واليوناني القديم، كما انتفضت أوروبا في القرن الخامس عشر مباشرة بعد ترجمة التراث الاندلسي الوافد من الغرب الإسلامي وكنوز المعرفة الوافدة من بيزنطة الآفلة، والترجمة هي نفس الطريق التي مرت منها اليابان التي بعثت اواخر القرن التاسع عشر ببعثات طلابية إلى أوروبا واكبتها حركة ترجمة لنفائس الإنتاجات الفكرية والعلمية الاوروبية... وإدا كانت الترجمة ضرورة لكل إقلاع حضاري، فإنها بالمقابل تلعب دور تيرمومتر قياس الدورة الحضارية من خلال ازدهارها أو انحدارها أو انحطاطها. فحيثما ضعفت الترجمة وفترت وغابت، علت في الاجوار رائحة الانحطاط والاستبداد والاستعلاء العرقي... وحيثما ازدهرت الترجمة، ارتفعت الواردات المعرفية والعلمية وتضخمت الصادرات والفكرية والفنية والأدبية وانتفت مشكلة ضعف الشهية القرائية لدى القراء مع إغراءات العناوين اللامحدودة في المجالات اللامحدودة بالمقاربات اللامحدودة... لقد كانت الثقافة الإنسانية ولا زالت وستبقى ملكا للجميع، فيما ستبقى باقي الثقافات الفرعية والمحلية روافد لها تغنيها وتغتني بها عبر الترجمة التي ستصبح، باستعارة عبارة "فرانتشيسكو ليجيو"، شكلاُ من أشكال اقتسام الثروة المعرفية وشكلا من أشكال ممارسة الحق في المعرفة والعلم والفكر والمعلومة... الترجمة وسيلة تواصل بين الشعوب من خلال المساهمة في ترويج الفكر الإنساني عبر نقله إلى لغات غير لغته. كما انها عامل إنقاذ للثقافة من الغرق والحرق والإتلاف والضياع والتهميش والإقصاء من خلال إيداعها بنوك المعرفة الإنسانية والتاريخ الثقافي. فلولا الترجمة العبرية لأعمال الفيلسوف العربي ابن رشد، لضاعت "الفلسفة الرشدية" إلى الأبد. وعليه، فالترجمة ليست مجرد فعل لغوي يعنى بنقل نصوص من "علبة لغوية" ووضعها في "علبة لغوية أخرى"، إنها أيضا فعل معرفي وثقافي وفكري وحضاري وجهته المصالحة مع الذات والتقريب بين الشعوب والتعايش فيما بينها. كما تبقى الترجمة الحجر الأساس لكل انطلاقة حقيقية ومفتاح الدخول إلى ثقافة العصر: "ثقافة التقارب والتعايش". لقد كانت الترجمة دائما جسراً للتواصل بين الشعوب والحضارات على مر التاريخ تعزز التلاقي والتلاقح الحضاريين وترعى التقارب الثقافي بين الشعوب وتدحض الصدام وتدعم الحوار والتبادل الثقافيين بين أمم الأرض وتسهل التواصل بين الأمم وتفتح النوافد على الثقافات الأخرى للشعوب الأخرى ما دامت معرفة الآخر تقود تدريجيا إلى معرفة الذات عن طريق "المقارنة" و"التواصل"، كما كانت تغني اللغات وتجعلها "حية" على الدوام، وتوفر الأرضية للبحث والإبداع ليقف عليها أهل البحث العلمي والإبداع قبل الشروع في أبحاثهم أو بناء نظرياتهم أو نشر إبداعاتهم... ولقد ساهم التقارب الثقافي، وشيوع تكنولوجيا القرب، ودينامية السياحة ومتطلبات العمل بالخارج، وقهر العزلة الفردية والجماعية بالإضافة إلى التعرف على إنتاجات الآخر والاستفادة منها (=معرفة) او الاستمتاع بها (=فنون) في تنمية الوعي بقيمة الترجمة وبدورها وفعاليتها... ما من لغة إلا وترعرع فيها حب الدات والفخر بالدات والاعتزاز بالدات. فاللغة العربية هي لغة الضاد واللغة الإسبانية هي لغة فونيتيكية، واللغة الإنجليزية لغة التقنية، واللغة الصينية لغة المقطع اللغوي... أمام هدا المد التباعدي للغات، تظهر الترجمة بوظيفة مغايرة، "وظيفة التقريب بين اللغات والثقافات" من خلال التقريب بين طرائق التعبير والأساليب اللغوية في الثقافات الإنسانية مادام الجوهر والمضمون واحد. فاللغة ما هي إلا بوابة لثقافتها وحضارتها. ولدلك، فترجمتها هي ترجمة لتلك الثقافة وتملك لتلك الحضارة وهدم لكل الأسوار التي تعوق هدا التقارب. فحيثما تقاربت اللغات، تقاربت الثقافات. وهده هي غاية الترجمة الأسمى: التقريب بين الثقافات إن على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل مع إضفاء طابع الخصوصية على المواد المترجمة قصد تأصيلها في بيئتها الثقافية الجديدة فيصبح الكثير من هده المترجمات أو أجزاء منها "قولا ماثورا" في هده الثقافة أو "حكما" في تلك... الترجمة قيمة من قيم التقارب والتعايش والإنصات للآخر وإفادته والاستفادة منه. كما انها سلاح ثابت الفعالية ضد "التمركز حول الدات" دفاعا عن ثقافة "الانفتاح" على الآخر.