سفر بين الهم الوجودي والواقع المعيش في إطار موسم الرحيل إلى القصة القصيرة جدا، والحركية النشيطة التي تشهدها كنوع سردي جميل ومغر، أصدر الكاتب المغربي المقيم بفرنسا عبد الجبار خمران مجموعته الأولى تحت عنوان مفتوح على الآفاق -قوارب بيضاء-وإذ نقترح القراءة التالية للملامح العامة للكتابة الخمرانية، لا يفوتنا أن نشير إلى أنها قراءة خفيفة وشبيهة بساندويتش يتوسط قراءتين. عتبات: إذا كانت القصة القصيرة امرأة تطل من النافذة، فهل تكون القصة القصيرة جدا طفلة تطل من ثقب الباب؟ أم أنها ليست في النهاية سوى قارب أبيض يغمر الماء أطرافه، وحلم المسافات شراعه المفتوح في وجه الريح؟ هي أكثر من قارب.. مجموعة عبد الجبار خمران التي أبحرت من مرسى سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة، باتجاه جزر المتعة البعيدة التي من المفترض أن يبلغها الأثر الأدبي مهما ضاقت عبارته وصغر حجمه. مجموعة قصص قصيرة جدا من 70 صفحة، تقرع الأجراس لمقدمها من خلال العتبات والنصوص الموازية، فلا تفتح غرفتها الداخلية إلا بعد المرور بأبهاء الغلاف والتقديمات والإهداءات... فلوحة -دالي- التي تشكل الغلاف تجمع بين الإثارة والجمال والحلم.. تصل الداخل بالخارج، والعياني المباشر بالمنعكس، وتولد الرغبة في الاقتحام الفوري لجسد المكتوب.في الطريق تعترض القارئ خمسة نصوص موازية لكتاب مختلفي المشارب والجنسيات، تتفق في مجملها على الإشادة بالصغر، الإيبغرام.. بالكتابة المضغوطة إلى أقصى حد، مع الدعوة في نفس الآن إلى مساحات مفتوحة بحجم الكون، بما يحيل إلى التعالق الضروري بين الجسد الضئيل للق.ق.ج. وطموحها الكبير لكن المشروع إلى احتضان العالم. من النصوص الخمسة التي ترشح التماعاتها بتوجه الكاتب الفني ورؤيته التي تؤطر اشتغاله الإبداعي في حقل الق.ق.ج. إلى الديباجة التي قدم بها القاص والناقد اسماعيل البويحياوي المجموعة، والتي وضع فيها الأصبع على الخاصيات الأساسية التي تسم الكتابة القصصية لدى خمران. يقول مثلا: -أنت في رحلة قواربها بيضاء وربانها كاتب حواري من ضفة أبي الفنون بامتياز. يشد انتباهك أنه يكتب بالحوار وأن في نصوصه مسحة أنس يحاور خلالها قارئه ومقروءاته وكتابه المفضلين.. (ص9/10). تقديم يلتقي روحا مع كلمة الغلاف التي أنجزها حسن البقالي، حيث يدعو القراء إلى -التنزه فوق البحيرة العائمة للقص القصير جدا من خلال مجاديف سردية ذات قياسات متنوعة وفاعلية حكائية لا تخطئها العين-. ملامح عامة: سفر بين الهم الوجودي والواقع المعيش: في أولى قصص المجموعة التي تحمل عنوان -قضية أولى- يقول الكاتب: -نعرف أن آدم هو الجد الأول فمن سيكون الحفيد الذي سيحظى بالشهقة الأخيرة؟ هكذا يظهر عبد الجبار خمران ألوانه من الوهلة الأولى، ويكشف عن توجه يرمي إلى أن على الق.ق.ج أن تنكش في الأسئلة الوجودية الكبرى وتدير وجهها باتجاه الأبدية، بقدر ما عليها أن تحفر في اللحظي والآني والواقع المعيش بقضاياه المتعددة.. - جميع أجدادي هنا أحفادي وقد شاخوا نجلس على مصطبة كونية لامتناهية، وننتظر.. يقول في قصة أخرى (انتظار ص50) راسما نفس الخط الذي يصل الأزمنة في لحظة ديمومة، وكأن مقولتي الزمان والمكان كتلة واحدة لا متناهية من الانتظار على مصطبة كونية.. أكيد أن الخطاب القصصي ليس خطابا متعاليا يحلق فوق الواقع بأجنحة من كلمات، ويجعل همه الأول والأخير البحث في الشرط الوجودي وصيرورة الإنسان في العالم، إذ لا معرفة حقيقية بالحاضر دون معرفة الماضي ولا بالمستقبل دون معرفة الحاضر.. من هذا المنطلق تحفر المجموعة ممرات إلى الواقع تسائله، وتعفر جبينه في تربة القص. وطبيعي أن عبد الجبار خمران -بوصفه كاتبا مقيما بالديار الفرنسية- لن يفوت الفرصة لمقاربة تيمة الهجرة، سواء من خلال التفكير فيها كفعل وحركة بين عالمين وواقعين، أو تدبر أحوالها كمعيش يومي في مدينة كوسموبولوتية كباريس يستحيل فيها الإنسان إلى جرذ كبير شغله تلمس ممرات المتاهة المصنوعة من إسمنت وقلق.على ان الأمر يكون أسوأ حين يصبح المرء مهاجرا سريا، فلا له في العير ولا في النفير.. منبتا لا أرضا أبقى ولا ظهرا قطع.. ممزقا بين شقاءين ومهملا كفكرة معلقة في النسيان..يقول في قصة -مهاجر سري-: - دون شك تعرفون تلك الأم التي عندما سئلت عن أحب أبنائها إليها.. أجابت صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يشفى ومسافرهم حتى يعود، لكن ما لا تعرفوته -ربما- هو أن تلك الأم مدينتي.. وأني لا أستطيع العودة إليها حتى الآن (ص39). لكن عبد الجبار خمران لا يسائل الواقع إلا بقدر ما يسائل أدواته الإبداعية، ويسائل القصة التي تسائل الواقع.. يتحدث ميتالغة تضع الأدب أمام مرآة الجنس والهوية، وتخلص إلى أن قدر القصة هو الانفلات من أي تقعيد أو تنميط يجعل منها وصية تتوارث من جيل لجيل..كما هو الشأن في قصة -وصية فرناندو أيينسا الحادية عشرة للكاتب-. أما في -قصة مرقمة-، فتغيب المساحة بين العلامات والحياة، بين الدوال والمدلولات، وبين الرموز والأشياء، حيث تحيل علامات الترقيم إلى الحياة بامتدادها واصطخابها وعلائقها، وعلى الموت الذي يضع نهاية لحكايتها.. خصائص فنية في -قوارب بيضاء- (تنوع، مفارقة، تناص): القصة عند عبد الجبار خمران شكل منفلت وغير مستقر. وإذا كانت النصوص الموازية التي تصدرت المجموعة تؤشر على فضيلة القصر والإبيغرام، إلا أن الأمر ليس قدرا محتوما ولا رهانا وحيدا للاشتغال الإبداعي على جسد الق.ق.ج. فخمران يكتب الومضة والالتماعة الخاطفة التي لا تتعدى السطرين، كما يكتب الق.ق.ج. التي تقف على الحدود مع القصة القصيرة في صفحتين أو أكثر، بما يتيحه ذلك من سرد متأن متراخ وحبكة تأخذ بالأسباب والمسببات والتسلسل الزمني (قصص صديقنا المجنون، الامتحان أو صحراء بوش والقط الأسود). علامات الترقيم كانت موضوع اشتغال إحدى قصص المجموعة كتيمة أساسية.لكن خمران يستغني عنها كليا في قصص أخرى، ويصوغ بذلك قصصا ليست كالساندويتش بل هي أشبه بالقرص المغذي الذي على القارئ أن يبتلعه دفعة واحدة.. وهناك معطى ينبغي أن نستحضره أثناء قراءة المجموعة، هو أن خمران أتى إلى الق.ق.ج. من المسرح.. بما يجعل من حضور أية بصمة مسرحية مسألة عادية إن لم تكن منتظرة.. من قبيل الجمل الإشارية، الإظلام والإنارة والكورال والحوار المسرحي.. على الق.ق.ج. أن توظف كل ما يساعد على إنجاحها كشكل فني يسعى إلى الإدهاش. ولعل أبرز ما تسعى إلى توظيفه المفارقة وربيبتها السخرية والتناص... القصص الأربعة الوامضة في بداية المجموعة لا تتعدى السطرين في مجملها، لولا أن المتون القصيرة جدا تقف على طرفي نقيض مع العنوان الذي يتوجها جميعا في ادعاء ساخر -قصص طويلة جدا-. والمفارقة التي تصل العنوان بالمتون ليست سوى المحصلة النهائية لما يعتمل داخل جسد النصوص من مفارقات أساسها اللغة أو اللحظة التاريخية، مما يعمق الإحساس بالوضعيات القلقة التي تعيشها الشخصيات. يقول في قصة -قضية إرهاب-: - احتفل بكل براءة بيوم عيد ميلاده الذي يوافق الحادي عشر من سبتمبر- وفي -حدوتة فرنسية-: بلا أوراق إقامة اشتغل (en noir) فجمع مالا لأجل (un mariage en blanc) (ص12) وإذا كان التناص من المقومات الأساسية في السرد، فإنه في الق.ق.ج. يكاد يكون شرطا أساسيا لتعميق الرؤية ومضاعفة الأثر، بما ينفتح عليه من حوار بين النصوص وأشكال التعبير، وما يرسمه من خطوط تتوازى أو تتقاطع، لكنها تحفر جميعا في نفس المساحة الضيقة جدا المشكلة لجسد القصة. مع التناص يصير المقروء مادة للكتابة أيضا، لا مصدرا فحسب.. مادة ذات حضور فيزيقي يسهم في تشييد معمار النص وتوسيع دائرة إيحاءاته ومدلولالته. هكذا تصادفنا قصص وقد رتقت جلودها بخيوط متشابكة من ألف ليلة وليلة أو الجدارية وهاملت والملك لير أو القط الأسود أو الرقص تحت المطر.. كما يتمشى في فضاءاتها كتاب مختلفون من درويش إلى بورخيس فحسن البقالي وأبي حيان التوحيدي... يتخذ التناص أشكالا متعددة في المجموعة، كما تختلف درجات حضوره بين قصة وأخرى ليفصح عن أوج كثافته وسلطته في قصة -حلم-: - دخلنا في ضوء الممر اللولبي معا. ارتقينا أدراجا ومشينا (أرى السماء هناك في متناول الأيدي) الممر ضيق تماما. وأنا أرافقه كان (كل شئ واقعيا.كنت أعلم أني ألقي بنفسي جانبا... وأطير) الخطوات واثقة من ممرها. منسجمة مشيتنا مع الفراغ. تعرفت الآت فقط على الوجه والنظارتين ولون القميص السماوي. أسير معه تماما. اتسع الممر الضيق.... (ص21) هذه القصة التي تشارك كل من عبد الجبار خمران ومحمود درويش في صياغتها لبنة لبنة وجدارا جدارا، بحيث لا يمكن فصل المقاطع السردية الخمرانية عن المقاطع الشعرية الدرويشية التي اقتطعت من الجدارية لتوضع بين أقواس وتنتمي وظيفيا وبنائيا، جسدا ورؤية لفضاء القصة وحلمها.. يبدو أن الق.ق.ج. الطفلة حديثة الولادة وضئيلة الحجم لا تخشى الارتحال والسفر عبر الأشكال الأخرى للتعبير والكتابة، للتزود بالرحيق المصفى الذي يشكل غذاءها.. ولعلي أراها اللحظة شبيهة ب-رانيا- بطلة إحدى قصص مجموعتي -الإقامة في العلبة- التي تظل تسرح في الأزقة وبيوت الجيران غير هيابة من الوحوش والحكايات المرعبة. ويبدو أن عبد الجبار خمران حين أطلق قواربه البيضاء في وجه الريح لم يكن يخشى البلل، بقدر ما بشر بتجربة سردية ستشكل إضافة جميلة وممتعة لربرتوار القص القصير جدا المغربي والعربي. * هامش قوارب بيضاء (مجموعة قصص قصيرة جدا) -عبد الجبار خمران- منشورات سندباد للنشر والإعلام القاهرة 2010