توطئة: عرف إقليمالناظور ، والذي يوجد في الشمال الشرقي من المغرب، فن القصة القصيرة العربية في آواخر السبعينيات(1979م) من القرن العشرين، وذلك مع محمد شكري في روايته:” مجنون الورد” المطبوعة بدار الآداب ببيروت اللبنانية. وبعده، أصدر محمد منيب البوريمي مجموعته القصصية ” الأسوار والكوريدا” في سنة 1984م. ثم، نشر محمد شكري مجموعته القصصية الثانية” الخيمة” سنة 1985م. وبعد ذلك، طبع بشير القمري مجموعته الأولى :” المحارب والأسلحة” سنة 1995م ، والتي صدرت عن مطبعة البوكيلي بالقنيطرة في مائة صفحة من الحجم المتوسط.أما ميمون كبداني فلم يوزع مجموعته القصصية:” الرجل الذي أتى بالنبإ العظيم” إلا في سنة 2002م، في نفس الفترة التي نشرت فيها المجموعة القصصية لعبد الحكيم معيوة تحت عنوان: ” فوق المياه الزرقاء” سنة 2002م. وتبعته فاطمة بوزيان بمجموعتيها القصصيتين، وهما:”همس النوايا” سنة 2001م و” هذه ليلتي” سنة 2006م، فعمر والقاضي بمجموعتيه القصصيتين:” سوء الظن” سنة 2004م و” آبار الليل” سنة 2009م ، ثم علي أزحاف بمجموعته القصصية” نخب البحر” سنة 2008م، ثم حسن محمد الحسني بمجموعته:” الصيحة الخضراء” سنة 2008م،ثم المختار الغرباني بمجموعته القصصية:” فتنة المساءات الباردة...!” سنة 2009م... ويمكن الحديث عن بعض الكتاب الذين استقروا بإقليمالناظور، إلا أنهم ينحدرون من المنطقة الشرقية ؛ وذلك بسبب مهنتهم تعيينا وتوظيفا. وينطبق هذا الحكم على بديعة بنمراح التي ألفت مجموعتها القصصية الأولى” ورود شائكة” سنة 2000م ، و” ليلة غاب فيها القمر” سنة 2006م، وعبد الله زروال بمجموعته القصصية الأولى ” ذلك النشيد” سنة 2008م، وعبد القهار الحجاري بمجموعتيه:” خنازير الظلام” سنة 2006م، و” قهوة الروح الجديدة” سنة 2008م، وعبد القادر الطاهري بمجموعتيه:” البرتقالة الوحيدة للموتى” سنة 2006م، و” الحب في شارع المارشال” سنة 2008م... إذا، فهناك بإقليمالناظور تقريبا ثمان عشرة (18) مجموعة قصصية قصيرة ، والأغلب منها نشر في سنوات الألفية الثالثة . وثمة أيضا أربعة عشر (14)كاتبا قصصيا، وهم: محمد شكري، ومحمد منيب البوريمي، وبشير القمري، وعبد الحكيم معيوة، وعمر والقاضي، وميمون كبداني، والمختار الغرباني، وعبد الله زروال، وعبد القهار الحجاري، وعلي أزحاف ، وحسن محمد الحسني، وعبد القادر الطاهري، وبديعة بنمراح، وفاطمة بوزيان... وهناك كتاب آخرون بالإقليم يكتبون القصة القصيرة، بيد أنهم لم ينشروا أعمالهم بعد كنرجس الخضر وميمون الحرش... هذا، ويمكن الحديث في مجال القصة القصيرة جدا عن مجموعة ” ميريندا” لفاطمة بوزيان باعتبارها أولى كاتبة كتبت هذا الجنس في منطقة الريف، ويعقبها في ذلك جمال الدين الخضيري بمجموعته ” فقاقيع”، والتي ننتظر صدورها قريبا إن شاء الله، ومجموعة جميل حمداوي” كتابات ساخرة”، والتي تنتظر بدورها الطبع في أقرب الآجال. إذا، ماهي المميزات والخصائص الفنية والجمالية والدلالية التي تميز هذه الأعمال القصصية القصيرة ؟ q القصة القصيرة البيكاريسكية: 1- محمد شكري: (مجنون الورد/ الخيمة): يمكن القول بأن محمد شكري بروايته” الخبز الحافي” ، وبمجموعاته القصصية كمجموعة” مجنون الورد”، ومجموعة “الخيمة” ، قد ترك آثارا واضحة وندوبا جلية وبصمات ظاهرة على مجموعة من كتاب منطقة الريف بصفة عامة وكتاب إقليمالناظور بصفة خاصة. إذ ساهم هذا المبدع المتميز عالميا في نشر كتابة بيكارسكية ، تجسد عهارة الواقع العربي والمغربي على حد سواء ، وتؤكد تعفن المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات، وتصوير انهيار القيم الإنسانية والأخلاقية في ظل مجتمع الرأسمال الكمي، والاستلاب الحضاري، والتحنيط البشري والمادي، وانبطاح المجتمع وجوديا ونفسيا وواقعيا وثقافيا. ناهيك عن تناوله للطابوهات والمحرمات في قصصه القصيرة بكل شجاعة وجرأة، وذلك من أجل نقد المجتمع المؤدلج، والتنديد به تنديدا سلبيا، قصد تعريته وتغييره رأسا على عقب.ومن هنا، يمكن اعتبار محمد شكري المؤسس الحقيقي للقصة القصيرة البيكارسكية بالمغرب بصفة عامة وفي منطقة الريف بصفة خاصة. 2- عبد الحكيم معيوة (فوق المياه الزرقاء): من يتأمل مجموعة عبد الحيكم معيوة” فوق المياه الزرقاء”، والتي صدرت سنة 2002م في إطار منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالدارالبيضاء، فإنه سيجد أن هذه المجموعة الأولى نواة أصلية لروايته” بعيدا عن بوقانا”، والتي هي قصة قصيرة محورية داخل هذه المجموعة القصصية. ومن أهم التيمات التي تتوارد بكثرة في هذه المجموعة القصصية، نذكر: السفر، والبحر، والمكان، والذاكرة، والمجون. ويعني هذا أن قصص المجموعة تحمل رؤية وجودية عابثة ، ذات طابع بيكارسكي ، تحيلنا في تفاصيلها على كتابة محمد شكري الماجنة. ومن ثم، تصور لنا هذه المجموعة عبثية الشخصيات وانحطاط العوامل السيميائية التي تتحرك داخل هذه المجموعة، وهي عوامل متفسخة أخلاقيا ومنحلة قيميا، تجعل من الخمرة والجنس والسفر وسائل للنسيان والتذكر. وكل ذلك يعبر عن الفراغ الذي يعيشه الإنسان في هذا العالم المأساوي ، والذي يتحكم فيه الكبار، ويسحق فيه الصغار. كما يسرد لنا الكاتب مجموعة من التجارب الماجنة في الحانات والفنادق وشواطئ البحر ضمن الثالوث: الجنس، والخمرة، والبطالة. هذا، وتتسم المجموعة القصصية بطابعها البيكارسكي الكلاسيكي، مع تنويع الضمائر(التكلم والخطاب والغيبة)، وتشغيل منظورات سردية متنوعة( الرؤية من الخلف، والرؤية من الداخل، والراوي المحايد ، والراوي المشارك)،وتنويع السجلات اللغوية( السرد، والحوار، والمنولوج، والرسالة، واستعمال الفصحى واللغات الأجنبية، ولاسيما الإسبانية والألمانية). مع أن اللغة تنماز بالتشخيص الواقعي المباشر، والتي تذكرنا أيضا بالروايات الواقعية لدى نجيب محفوظ ومحمد زفزاف ومحمد شكري... 3-البشير القمري ( المحارب والأسلحة): ظهرت مجموعة البشير القمري (المحارب والأسلحة) في طبعتها الأولى سنة 1995م عن دار البوكيلي بالقنيطرة . وتتسم هذه المجموعة القصصية بطابعها البيكارسكي المجوني العابث، ناهيك عن سمة السخرية والمفارقة والانزياح عن القصة الكلاسيكية. ويصور الكاتب فيها مجموعة من التيمات كالاستبداد ، وانتقاد عنف السلطة ، والتنديد بسياسة الاعتقال ومصادرة حريات الإنسان، وتجسيد مجموعة من القيم الأخرى كتفسخ الواقع الاجتماعي، وانهيار القيم الأصيلة في مجتمعنا العربي بصفة عامة والمجتمع المغربي بصفة خاصة، وتصوير معاناة المثقف المأزوم ، والمحبط ماديا ونفسانيا واجتماعيا في عالم يطبعه العبث والتراجيديا والانهيار الحضاري والكينوني والوجودي. وأهم ما تمتاز به مجموعة البشير القمري أنها تتلاعب بالنص الموازي بشكل لافت للانتباه، وتستخدم البوليفونية الباختينية، والتهجين الأسلوبي، والباروديا، والتناص ، وذلك عن طريق تشغيل المستنسخات النصية بكثرة قصد إثارة السخرية ، وتوظيف التنكيت ، واستفزاز القارئ ذهنيا ووجدانيا وحركيا. 4- علي أزحاف: (نخب البحر): أصدر الكاتب الإعلامي علي أزحاف مجموعته القصصية الأولى سنة 2008م تحت عنوان” نخب البحر” عن دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع. هذا، ويستعرض الكاتب في مجموعته القصصية ” نخب البحر” مجموعة من التجارب الدونجوانية والمغامرات الشبقية في أمكنة مختلفة بإيقاعات متنوعة تعبر عن شطارية شخصيات المجموعة، وانسياقها وراء المتع الدنيوية لهفا وكلفا ورغبا، وإشباع نزواتها وغرائزها الجسدية، وذلك عبر معاقرة الخمر والتلذذ بالجنس، وإيقاع فتيات الهوى في شرك الحب واللهو والمجون. ومن ثم، فالشخصيات القصصية الرئيسية في المجموعة القصصية شخصيات مستهترة أخلاقيا، وغير مسؤولة قيميا وسلوكيا، حيث تتحول الحرية عندها إلى فوضى وجودية عارمة ، واقتناص للفرص من أجل الاستمناء الجسدي، والظفر بالحبيبة ،والفوز بلذة الكأس داخل حانات السكر وفضاءات العربدة. ويعتمد الكاتب في بناء قصصه الكلاسيكية على ترتيب سردي متسلسل منطقيا وسببيا، مع احترام الإيقاع الكرونولوجي الصاعد من الحاضر نحو المستقبل. أما الانحرافات الزمنية فهي قليلة جدا تحضر في شكل ذكريات بسيطة تمهد للحدث الرئيس، وتدغدغ وجدان المتلقي. ويستند الكاتب في صياغته التعبيرية كثيرا إلى السرد أو الأسلوب غير المباشر ، مع استخدام الحوار لتحريك الشخصيات، واستنطاقها لتعبر عن وجهات نظرها ،وتنقل مجمل صراعاتها الفكرية والإيديولوجية والذهنية. وعليه، فإن ” نخب البحر” لعلي أزحاف مجموعة قصصية ممتعة تطفح بالرؤية الوجودية العابثة، والواقعية الانتقادية الشطارية، وتوظيف المنظور الداخلي في نقل التجارب الذاتية، و التي تغمرها المغامرات الشبقية الإيروسية المعبرة عن شخصية متآكلة أخلاقيا وقيميا في مجتمع منحط ، تدهورت فيه القيم الكيفية الأصيلة ، وحلت محلها قيم كمية زائفة. كما أن هذه القصص بعيدة أيما بعد عن الرومانسية الفاضلة ، والخطاب الوجداني الحالم،وسعادة عالم الغاب ، ورؤى العالم اليوتوبي. ومن ثم، فهي قصص تغمرها المغامرات الجنسية الوردية ، وتطفح بالعربدة المجونية والنشوة الأبيقورية ، والقائمة على الافتتان بالجسد ،والتلذذ بمتعة الخمر، والانتشاء بمحاسن المرأة. إنها كتابة شكرية(نسبة إلى محمد شكري)، والتي تحضر كثيرا لدى كتاب الرواية والقصة القصيرة من أجل إثارة القارئ وجدانيا وعاطفيا، واستغواء المتلقي ذهنيا، وجذبه لمشاركة الكاتب في مغامراته الديونيسوسية الماجنة. ولم يكتف علي أزحاف بالواقعية الشطارية الإيروسية فحسب، بل كان يضمن نصوصه إشارات سياسية قائمة على تعرية المجتمع ، وتقويم النظام الحكومي على جميع الأصعدة والمستويات الفوقية والتحتية ، ونقد مجموعة من الظواهر السلبية في مجتمعنا عبر التلميح والإيحاء والسخرية والتهكم. 5- المختار الغرباني( فتنة المساءات الباردة!): أصدر المختار الغرباني مجموعته القصصية الأولى ” فتنة المساءات الباردة!” سنة 2009م عن التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع في طبعة أنيقة من الحجم الصغير في تسع وسبعين صفحة(79). تندرج مجموعة المختار الغرباني ضمن الكتابة البيكارسكية الواقعية ، والتي تهتدي بكتابات محمد شكري تناصا ومناصا وتوليدا وتحبيكا. ومن ثم، فقد تناول المختار الغرباني مجموعة من الظواهر السلبية في الواقع المرصود ، وذلك عبر تشغيل السخرية والمفارقة والنقد والباروديا والتنكيت الفكاهي، كتناول ظاهرة الخرافة كما في قصته” عروس المساء”، والسخرية من الملتحين كما في قصته” خليها على الله...” وقصة:” فتنة المساءات الباردة!”، وتصوير خيبة الفنان وعبثيته الماجنة كما في قصة” خيبة/سفانكس”، وتشغيل الميتاقصة في قصته” الأبرق”، وانتقاد الزعامة السياسية ، وتشريح مظاهر الخيانة في مجال النضال الحزبي كما في قصة” الزعيم”، والتلذذ بالأحلام الرومانسية والانطباعية عن طريق استرجاع حكايات نونجا الأمازيغية كما في قصة” عواء”، والانغماس في تجارب دونجوانية إيروسية شبقية كما في قصة ” بازيليك في الدارالبيضاء”، وتمتاز كتابته القصصية في الغالب الأعم بالطابع الكلاسيكي تعاقبا وتسلسلا باستثناء قصة” أفول” ذات الطابع الشاعري ، مع استخدام لغة سهلة وسلسة، رشيقة بخاصية الحذف والإضمار والإيجاز، وناصعة البيان انسيابا وتمطيطا، صافية من كل شوائب التغريب والتعقيد والحشو الممل. كما يستعمل جملا محمولية بسيطة التركيب وسريعة الإيقاع والتكثيف. وينوع من سجلاته الأسلوبية ( السرد والحوار والمناجاة والرسالة، والعتبات)، والانتقال من منظورات رؤيوية مختلفة( المنظور الموضوعي والمنظور الذاتي). كما تمتاز كتابته القصصية بالشاعرية الإنشائية الإيحائية والانطباعية التشكيلية ، وتوظيف الموروث الحكائي الأمازيغي رؤية ولغة وهوية كينونة كما في قصة” عواء”. أضف إلى ذلك، فقد كان الكاتب كذلك منشغلا في مجموعته القصصية بمجموعة من الوقفات الوصفية المقتضبة ، وذلك عن طريق رسم لوحات تشكيلية،ووضع بورتريهات موجزة، واستعمال أفعال حركية وصور مشهدية موحية ومعبرة كما في قصة “بازيليك في الدارالبيضاء”، وتوظيف صور فانطاستيكية قائمة على التعجيب والتغريب وفعل التحول ، مع تشغيل المحكي الشاعري كما في قصة ” أفول”. q القصة القصيرة الملتزمة: 1- عمر والقاضي( سوء الظن) يتناول عمر والقاضي في مجموعته القصصية ” سوء الظن”، والتي صدرت في طبعتها الأولى سنة 2004م عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالدارالبيضاء، مجموعة من التيمات والموضوعات اللافتة للانتباه من خلال رؤية نضالية ملتزمة، وذلك بكشف الواقع المر، وتعرية سراديبه المظلمة، وفضح خوابيه الدفينة، وانتقاده من أجل تغييره بشكل أفضل وإيجابي. وهكذا، ينتقد الكاتب عنف السلطة والدولة، ويندد بسياسة الاستبداد، ويرفض ما يمارس من ظلم وجور واعتقال ضد المناضلين والأبرياء، وليس لهم من تهمة سوى التعبير عن آرائهم بكل صراحة وجرأة. إنها تراجيديا السلطة والسياسة والعنف. إنها مأساة سنوات الرصاص التي حصدت كل شيء باسم الحفاظ على النظام الحاكم. كما تطفح المجموعة بقصص تتغنى بالأحلام والذكريات، وتحتفي بالأمكنة المنسية التي تذكر الشخصيات والقوى الفاعلة بماضيها المقصي، وذلك بفعل القهر والسبي والتنكيل. زد على ذلك، يصور الكاتب علاقته اللاشعورية والأبيسية مع أبيه بعد موته، والذي حمله مسؤولية الأسرة، وهو يعاني وجوديا وواقعيا واجتماعيا من الضياع والبطالة وسنوات السجن والاعتقال والتمزق النفسي والذاتي. وقد استعان الكاتب في مجموعته القصصية بكتابة واقعية سياسية ملتزمة، ترتكن إلى الطريقة الكلاسيكية من حيث التسلسل المنطقي والكرونولوجي، مع تنويع المقدمات والخواتم القصصية، أو تكرارها للإحالة على دائرية الزمن وانغلاقه كما في قصة” 56!”، دون أن ننسى تنويع المنظورات السردية والسجلات الأسلوبية. كما أنه يستعين ببعض الإشارات المجونية العابثة التي تحيل على عالم الخمرة والجنس والمرأة ، ولكن ليس بالطريقة الفاضحة الكاشفة كما نجد ذلك في كتابات القصاصين البيكارسكيين كمحمد شكري، وبشير القمري، وعلي أزحاف، و عبد الحكيم أمعيوة... 2- عبد الله زروال( ذلك النشيد): أصدر عبد الله زروال مجموعته القصصية الأولى ( ذلك النشيد) في سنة 2008م عن مطبعة اقرأ بمدينة الناظور. وتمتاز مجموعته القصصية القصيرة برؤية واقعية اجتماعية ملتزمة بالتصوير والكشف والتعرية والنقد. وهكذا، يتطرق الكاتب إلى مجموعة من الظواهر الاجتماعية والآفات السلبية اللافتة للانتباه كتجسيد الواقع المنبطح قيميا، وتصوير أزمة المثقف الذي يعاني من الانهيار النفسي والاجتماعي والوجودي، والذي يحاول جادا فرض قيمه الأصيلة، ولكن يواجه بخيبة الأمل في تردده بين الذات والأمل على غرار البطل الإشكالي الذي نظر له لوسيان كولدمان. هذا، وينقل لنا عبد الله زروال في مجموعته القصصية الجميلة مجموعة من الحكايات المحبكة دراميا ، وذلك بعفة الصياغة ، وطهر الكتابة. فيستعرض لنا شخصيات بشرية مسحوقة كبواب المدرسة، وبوعلام البناء، والكاتب المقهور، والفنان الضائع، والمدرس المسحوق بغلاء المعيشة وروتين الفصل الدراسي . و ما يتحمله أيضا من تبعات الأسرة الثقيلة، وما يعانيه من مشاغل الأدب والكتابة ، وما يقاسيه من جراء عناء البحث عن الذات والمعنى.بل، يلتجئ الكاتب في بعض قصصه إلى ممارسة الميتاسردي عبر فضح لعبة الكتابة القصصية صياغة ودلالة ومقصدية ، وتفكيك آليات النقد، ولاسيما توظيفه لنظرية جمالية التلقي كمناص في قصته الممتعة” أفق الانتظار”. هذا، وقد اعتمد الكاتب في نسج قصصه على طريقة كلاسيكية في بناء الحبكة السردية استرسالا وانسيابا ، سببية وتزمينا. كما استعان بكتابة واقعية ولوحات اجتماعية تطفح بالمأساة، وتراجيديا الاضمحلال البشري، وانبطاح الواقع الإنساني. وبالتالي، فرؤية الكاتب إنسانية تقوم على ثنائية الألم والأمل. ومن جهة أخرى، ترفض كتابة عبد الله زروال توظيف معاجم العبث والمجون وتفسخ الأخلاق والبيكاريسك. فكتابته واضحة الرسالة، وناصعة البيان، وهادفة المقصد، وإسلامية الروح والجسد. ترمي إلى تصحيح الواقع المنهار، وتغييره بواقع أكثر سموا وعدالة. ولم يهتم الكاتب في مجموعته القصصية بالشخصيات العابثة الماجنة في مجموعته القصصية، بل اهتم بالشخصيات المقهورة اجتماعيا، والمسحوقة سياسيا، والمنخورة نفسانيا، ليترك للقارئ مساحة واسعة لتصور الحلول ، وملء البيضات، وتخيل المقاربات لمعالجة هذه الشخصيات، ومداواتها ذاتيا وموضوعيا. وفي الأخير، أنصح كاتبنا ، الملتزم على مستوى الصياغة والمضمون والرؤية ، بعد امتلاكه لسحر البيان والإفصاح، أن يبحث عن طرائق تعبيرية جديدة سواء أكان ذلك بالانفتاح على السرد الغربي أم غربلة كتب التراث السردي للبحث عن صيغ تعبيرية أكثر بلاغة وفصاحة وحكيا وسردا. q القصة القصيرة التوجيهية: 1- حسن محمد الحسني( الصيحة الخضراء): نشر حسن محمد الحسني مجموعته القصصية القصيرة الأولى ” الصيحة الخضراء” سنة 2008م ضمن منشورات مطبعة تريفة ببركان. وهذه المجموعة القصصية عبارة عن حكايات تربوية توجيهية من سجل معاناة البيئة. كما أن هذه المجموعة في حقيقتها أقرب إلى أدب الأطفال، حيث تقدم لنا لوحات بيئية في شكل نصائح وتعليمات إرشادية للحفاظ على البيئة، والابتعاد أيما ابتعاد عن تلويث المجال الإيكولوجي. بيد أن الكاتب صاغ حكاياته القصصية في قالب سردي فانطاستيكي ورمزي تأثرا بكتابات عبد الله بن المقفع، وخاصة كتابه ” كليلة ودمنة”. وتتسم قصص المجموعة بالبساطة واليسر، وتمتاز أيضا بسهولة العرض والتناول، واستعمال عنصر الإثارة والتشويق، وإيراد القصة لتصيد العبرة، واقتناص المغزى. بيد أن القصص التي تتضمنها المجموعة تطفح كثيرا بالجانب العلمي والأخبار الإيكولوجية الموثقة، والتي تقرب حكايات المجموعة من الأبحاث العلمية والمخبرية والميدانية. ويعني هذا أن المجموعة يتقاطع فيها العلم والفن، والجانب الفني الأدبي والجانب التوثيقي الإخباري المرجعي. وتقترن هذه المجموعة القصصية أيضا بالخيال العلمي في استشراف المستقبل ، واستحضار العوالم الممكنة، وتوظيف الحكاية والخرافة وتشغيل الأسطورة وأدب الأطفال، والإكثار من صور المجاز والرمز والانزياح، واستعمال خاصية التغريب والتعجيب بشكل لافت للانتباه ، وذلك قصد تقديم معلومات علمية وإيكولوجية تتعلق بكوننا وأرضنا وبيئتنا . q القصة القصيرة الحلمية: 1- عمر والقاضي( آبار الليل): كتب عمر والقاضي مجموعته القصصية الثانية ” آبار الليل” سنة 2009م، والتي تتخذ على مستوى التركيب والقالب طابعا حلميا. لذا، تتموقع معظم قصصها بين الشرود والصحو، فيستغرقها منطق السنة والنوم، ثم تتأرجح بين الغفلة واليقظة، أو بين الواقع والحلم. ويعني هذا أن زمن انكتاب هذه القصص القصيرة هو زمن اللاشعور الحلمي، وتفتق اللاوعي بعد تحرر المكبوت من سلطة الواقع والأنا الأعلى ، وانعتاق الرغبة شعوريا ولاشعوريا. ويلاحظ أن أغلب هذه القصص تحضر فيها لازمة الحلم إما في البداية كما في قصة” بلح الشام وعنب اليمن! ” كما في هذا الشاهد النصي: ” ...حين استيقظ على غير عادته منقبض النفس مع خفقان سريع للقلب، متفقدا أسفله، مطمئنا على عضوه، واضعا يده عليه بدل أن يضعه على قلبه، لعن المتسبب في إيقاظه... لعنه سرا وعلانية !” (ص:71)، أو في قصة” شهادة الوفاة”: ” إنه يتذكر الحلم جيدا، قد يحتفظ به لنفسه لافتقاده إلى الزمان والمكان، لكنه حلم يمكنه التحرر من متى وأين؟” (ص:65)، أو في قصة” خيول الرهان” (ص:49)، أو قصة” مجرد دخان” (ص:35). وإما ترد في وسط القصة كما في قصة ” نهاية حلم”: ” من ذا الذي سيعلن أمام الملأ أنه يستحضر كل ليلة في منامه أشياء من قبيل المستحيلات! قد يوجد لكن لن يفعل ذلك!” (ص:18). وإما تحضر بنية الحلم في نهاية القصة كما في قصة ” مابعد الحياة” حيث يقول فيها السارد:” كنت أعرف كل شيء، كما يحدث في الحلم”(ص:92)، أو كما في قصة ” بلح الشام وعنب اليمن!” التي يرد فيها الحلم بداية ونهاية :” في طرفة عين أصبحت واقفا، غسلت يدي بالصابون. أطلقت دفقة الماء التي كدت أنساها ، دفقة أيقظتني من حلمي، لكن الشيء الذي آلمني هو: لماذا يسمونه بيت الراحة؟ !” (ص:76)، أو في قصة:” البئر”:” في الصباح وجد نفسه في فراشه في كوخه الصفيحي. تأكد أنه لم يطل من سطح عمارة، ولم يسخره أحد كدلو في بئر مهجورة! هو المتعلم العاطل عن العمل!(ص:62). وتحضر النهاية الحلمية أيضا في قصة ” ثالثة الأثافي” تحت عنوان فرعي: استيقاظ . (ص:57)، أو في قصة” نفع واستنفع” (ص:43)، أو في قصة ” حكاية” (ص:26) كما تدخل الشخصيات القصصية الرئيسية في صراع مع الذات أو الموضوع ، فيشتد الصراع الدرامي داخليا وخارجيا، ويتأزم توترا وتحبيكا، ولا تنفك الأزمة وتحل إلا باستيقاظ الشخصية من غفوتها أو نومها. ويعني هذا أن الشخصية القصصية تغوص في آبار الليل العميقة والسحيقة، فتجد نفسها أمام الكوابيس المخيفة سواء أكانت علوية أم سفلية، واقعية أم فانطاستيكية، كوقوع الشخصية الحلمية مرة في المشنقة، والتي سرعان ما تحولت حبالها إلى أفعى أو حية كابوسية مخيفة ومفزعة كما في قصة ” بلح الشام وعنب اليمن!” . ومن القصص الحلمية المثيرة للمتلقي واللافتة للانتباه قصة” مابعد الحياة” ، والتي يصور فيها الكاتب عبثية الحياة، وفلسفة التقاعد، والإشارة إلى المعاناة الإنسانية بعد عمر طويل من العطاء والكد والجد ، والإحالة على عالم طافح بالقيم الإنسانية الزائفة، والتأشير على ضآلة الإنسان في المجتمعات الكمية التي تنحط فيها القيم الإنسانية الأصيلة، ويضيع فيها الكائن البشري أم الماديات الزائلة والقيم الفاسدة. كما تناول الكاتب ظاهرة فقدان الأولاد، وذلك بفعل الاعتقال والتعذيب، ومصادرة حريات الإنسان، وانتهاك حقوقه الطبيعية والمكتسبة. وكل هذه القصص الحلمية ما هي في الحقيقة إلا تعبير عما يعانيه الكاتب في الواقع من أزمات مأساوية كالضياع ، والبطالة، والخوف من الاستبداد، والنفور من النفاق الاجتماعي والسياسي، والتنديد بالشعارات السياسية الزائفة، والسخرية من المعارك الدونكيشوطية الحلمية الواهمة. وبالتالي، فهذه المعاناة في جوهرها تأشير على الفقدان والحرمان والنقصان والخسران وصراخ المكبوت المضمر. ومن ثم، يتم تعويض كل هذا الانفصال عن الموضوع المرغوب فيه على المستوى الواقعي بالاتصال به على مستوى اللاوعي الحلمي واللاشعور السريالي والفانطاستيكي. ومن الناحية الفنية والجمالية، يستعمل الكاتب مجموعة من المستنسخات التناصية والإشارات الإحالية ، وتوظيف الفانطاستيك كتحول حبة المشنقة إلى أفعى لعينة، والقيام برحلة معراجية إلى الفضاء العلوي الغيبي، وتشغيل الشخصيات المرجعية سواء أكانت دينية ( يوسف)، أم أدبية ( يوسف الخال، امرؤ القيس، وديك الجن..)، أم تاريخية(طارق البربري)، وتشغيل الشخصيات الواصلة كتوظيف ضمير المتكلم بكثرة اتساقا وإحالة، وتنويع المنظورات السردية من خلال الجمع بين الرؤية من الخلف والرؤية الداخلية، والانتقال من السرد إلى الحوار أو من السرد إلى الأسلوب غير المباشر الحر، والاقتصاد في الوصف تكثيفا وإيجازا واختصارا، وتسريع الحكي تعاقبا وتسلسلا وتسريدا، واستعمال الرموز الموحية والمفارقة الدالة( قصة حكاية)، وتمطيط الخطاب الحلمي ليصبح فيما بعد خطابا فنتازيا يجمع بين المأساة والكوميديا الساخرة. q القصة القصيرة النسائية: 1- فاطمة بوزيان( همس النوايا/ هذه ليلتي): من المعروف أن القصة القصيرة النسائية تتسم بخاصية التذويت بشكل بارز كما في هذه المجموعة القصصية لفاطمة بوزيان ” همس النوايا”، والتي صدرت سنة 2001م بدعم من قبل المجلس الإقليمي والثقافة والشؤون الاجتماعية بالحسيمة،. ومن هنا، فالقصة القصيرة النسائية من خلال” همس النوايا” ترتكز على معاناة الذات، وتصوير مشاغل الأنثى، وتجسيد صراعها ذاتيا وموضوعيا، واستكناه الوجدان الداخلي شعوريا ولاشعوريا، واستحضار الرجل باعتباره نقيضا حلميا عدائيا أو مشاركا حميميا، مع توظيف ضمير المتكلم كثيرا ، وتشغيل المنولوجات العاطفية والانفعالية، وذلك لاستقطار عذابات الذات ، وتجسيد ترنحها وجوديا وحياتيا وواقعيا واجتماعيا. كما تفضح الكتابة النسائية عوالم القصة ، وكشف طرائق انكتابها، وتحديد ظروف وسياقات التعبير والاستبطان الداخلي تأملا وتلذذا وتمزقا بوحا وتسترا ، مثل: قصته الميتاسردية: ” شبق الأوراق”. كما تلتقط الكاتبة بعض المشاعر والأحوال والحالات كالتركيز على الذات ، والحب، والقلب، والجسد ، والحلم، والأسرار، والهواجس، والغواية، والافتتان، والمرأة، والزواج، والعزوبة، والعنوسة، والأمومة، والطفولة ، والمرآة، والذكريات، والنسيان، والتبئير النرجسي، وتصوير العواطف الداخلية كالحنين والشوق والنشوة والأرق والسهاد والحزن والبكاء،والتطلع إلى فهم الرجل واستفزازه ، وإثارته تشويقا وغواية وافتتانا، والعزف على أنغام الألم والأمل. هذا، وتتناول الكاتبة نفس التيمات في مجموعتها القصصية ” هذه ليلتي”، حيث ترصد الكاتبة عوالم نسائية ورجالية من خلال منظور ذاتي أنثوي. مع استكشاف العوالم الرقمية والعنكبوتية ، وذلك للتأشير على عالم جديد في مجال التواصل والسيميولوجيا، وتبادل العلاقات والتفاعلات الوجدانية الشعورية واللاشعورية، والإحالة على الحب الرقمي الحاسوبي كمنطلق جديد لحب جديد وزواج جديد. ولم تنس الكاتبة أن تنقل لنا مجموعة من القصص من بيئتها الأمازيغية المحلية ، وذلك فيما يتعلق بتصوير وضعية المرأة الريفية ، ورصد علاقة الرجل الأمازيغي بالمرأة على المستويين الغرامي والاجتماعي ، وتصوير صراعه المرير مع واقعه الموضوعي والتاريخي. وعلى مستوى الكتابة، فقد وظفت الكاتبة تقنيات سردية جديدة، وخاصة تقنية التشظي وتوليد محكيات صغرى وفرعية نابعة من المحكي الأصلي، واستعمال المستنسخات التناصية والعتبات الموازية بكثرة لافتة للانتباه، كالانطلاق من المقتبسات في بداية القصص ومفتتحها السردي، وتقطيع النص بنيويا وسرديا ومحكيا،وتشذيره إلى حكايات نووية بعناوين داخلية ومقطعية متنوعة متناسلة ، ومفصولة بالبياض ونقط الحذف ، والتي تحيلنا على جمالية القراءة وطرائقها في ملء بياضات التلقي ، والبحث عن أفق الانتظار. كما تحيلنا المجموعة على عوالم التراث الوسيطي ، ولاسيما العوالم الفانطاستيكية لشهرزاد وشهريار. زد على ذلك، أن المجموعة القصصية تميل إلى الكتابة المنولوجية التي تتناقض فنيا وجماليا ووظيفيا مع تقنيات الكتابة البوليفونية التي نجدها جلية وواضحة في مجموعة بشير القمري” المحارب والأسلحة”. وعلى الرغم من ذلك، فقد شغلت بكثرة المنظور الداخلي والرؤية مع الذاتية، واستعانت الكاتبة كذلك بالجمل المركبة الطويلة تمطيطا وإسهابا وتفصيلا، كما وظفت صور المشابهة والمجاز الاستعاري والتشخيص المؤنسن، مع استخدام لوحات انسيابية انفعالية داخلية سردية ووصفية ومشهدية وحكائية تطبعها الرمزية والخاصية الانزياحية المجردة الانطباعية ؛ وذلك بسبب حضور الطبيعة الصامتة والصائتة بتقاطيعها الوجدانية والانفعالية والذهنية والحركية. وإذا كانت المجموعة الأولى لفاطمة بوزيان ذات منحى تجريبي وحداثي بسب التشظي والتضمين وخلخلة النصوص سرديا وحكائيا، فإن مجموعتها القصصية الثانية بقيت كلاسيكية القالب، على الرغم من تعدد مستنسخاتها التناصية والمناصية، واستعمالها لأسلوب رقمي حاسوبي ولغة في عمومها تنتمي إلى الشبكة العنقودية. خاتمة: تلكم نظرة موجزة ومقتضبة عن واقع القصة القصيرة المغربية بمدينة الناظور أرشفة وتوثيقا ونقدا، وذلك منذ ظهورها في سبعينيات القرن العشرين إلى غاية سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة. وقد وجدنا أن هناك تراكما نسبيا في مجال الكتابة القصصية ، وذلك على مستوى الإنتاج وعدد الكتاب. كما أن هذه المجموعات القصصية ترتبط على مستوى التناص والمناص والنص بأعمال محمد شكري امتصاصا واجترارا وحوارا. وقد تميز محمد شكري – ابن مدينة الناظور- بأعمال واقعية وبيكارسكية ماجنة وعابثة.ويعني هذا أن المدرسة الشكرية هي الحركة الفنية والتعبيرية المهيمنة بمدينة الناظور على مستوى الكتابة السردية روائيا وقصصيا. وبتعبير آخر، إن القصة القصيرة بالناظور قد خرجت بلا ريب من معطف” الخبز الحافي” لمحمد شكري. هذا، وقد وجدنا أن هناك أنماطا مختلفة من الكتابة القصصية، فألفينا الكتابة القصصية البيكارسكية، والكتابة القصصية الملتزمة، والكتابة القصصية التربوية التوجيهية، والكتابة القصصية الحلمية، والكتابة القصصية النسائية.