يشهد المتتبعون لكرة القدم في العالم، بأن الدورة الأخيرة لبطولة كأس العالم لكرة القدم، التي أقيمت بدولة قطر، كانت دورة استثنائية بكل المقاييس، فضلا عما حققته من نجاحات وجاذبية، ومتعة، ومن إقبال جماهيري عالمي واسع، فكرة القدم، هي اللعبة الأكثر شعبية في العالم، بشكل جعلها تساهم في تشكيل "هوياتنا الوطنية"، حسب تعبير أستاذ الفلسفة الإنجليزي سايمون كريتشلي، في كتابه "فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟". من المعروف، أيضا، أن لعبة كرة القدم، لم تبق حبيسة ممارسيها وجماهيرها، بقدر ما شغلت، كذلك، الأدباء والفلاسفة والمفكرين في العالم، حيث تفنن الروائيون في استيحاء هذه اللعبة الساحرة في بعض أعمالهم الروائية، يأتي على رأسهم الروائيون الإنجليز، تلاهم روائيون آخرون من جغرافيات أخرى، من الكتاب ولاعبي كرة القدم أنفسهم، في تزايد أسمائهم واتساع جغرافياتهم: سارتر، كامي، يفتشينكو، ماركيز، غاليانو، أورويل، هاندكه، العروي، وغيرهم، في تناولهم لقضايا وتفاصيل مختلفة، مرتبطة بإبراز أهمية كرة القدم في حياة الشعوب، وما تثيره من تنافس وشغب وتعصب وعنف، وإبراز معاناة اللاعبين والمشجعين، وتصوير مشاعر الانتصار ورمزية الصراع، وقصص الحب والكراهية والحسد واللذة والدراما والمشاعر الإنسانية، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة، من قبيل ما يتمخض عن هذه اللعبة من فساد مالي… وقد عرفت بعض روايات هؤلاء طريقها إلى السينما، فيما اتخذت أخرى منحى الرواية البوليسية، بل وظهر، في أمريكا اللاتينية، تيار يسمي ب "أدب كرة القدم". يحدث هذا، في وقت لم يخف فيه روائيون آخرون سخريتهم من هذه اللعبة وكرههم ورفضهم لها، من بينهم بورخيس وكويلو… وإلى اليوم، لازالت تفاعلات بطولة كأس العالم لكرة القدم التي استضافتها قطر، تثير المزيد من الاهتمام بها، وعلى مستويات مختلفة، وذلك بالنظر لخصوصية هذه الدورة، على صعيد مجموعة من المؤشرات المتضافرة فيما بينها، منها أنها تظاهرة تنظم لأول مرة على أرض بلد عربي، إلى جانب ما تميزت به من حضور كروي عربي لافت، ممثلا بالمشاركة المتميزة للفريق الوطني المغربي لكرة القدم في هذه البطولة، بما حققته مشاركته من نتائج مبهرة وغير مسبوقة، عربيا وإفريقيا، وهي مشاركة تنضاف إلى مشاركات أخرى مشرفة للمنتخب المغربي، في دورات سابقة لبطولة كأس العالم، بكل من المكسيك (لمرتين اثنتين)، والولايات المتحدةالأمريكية، وفرنسا، وروسيا، ثم قطر، مع ما خلفته مختلف تلك المشاركات من أصداء إيجابية، عربيا وإفريقيا ودوليا… وموازاة مع التنظيم الناجح جدا لهذه البطولة الكروية العالمية بدولة قطر، نشطت، في المقابل، حركة التأليف والكتابة بصددها، حيث صدرت، بهذه المناسبة الرياضية الدولية، بعض الكتب هنا وهناك… ويكفي أن نشير، على سبيل المثال فقط لا الحصر، إلى الكتاب الهام والممتع الذي أصدره موقع "العربي الجديد"، باللغتين العربية والإنجليزية، بمناسبة استضافة قطر لهذه التظاهرة العالمية، بعنوان "سحر كرة القدم"، من إعداد الكاتب والصحفي معن البياري، ومن تحريره وتقديمه، بمشاركة حسام كنفاني، رئيس تحرير "العربي الجديد"، والمعلق الرياضي علي محمد علي، وهو كتاب يتضمن واحدا وستين نصا، لأدباء من بلدان عربية وأجنبية، ممن كتبوا عن هذه اللعبة، وعن شغفهم بها وذكرياتهم معها… فضلا عن كتاب آخر صدر بالولايات المتحدةالأمريكية، بالمناسبة نفسها، بعنوان "فيفا 2022 قطر، الإرث"، لمؤلفه م. محمد عيسى، ويتوزع على ستة وعشرين فصلا، تدور كلها حول موضوعات عن كرة القدم، بمثل ما يتعرض الكتاب للجهد الكبير الذي بذل في سبيل إنجاح هذه البطولة الأولى من نوعها في المنطقة العربية… عبد الرحيم العلام رفقة الكاتب حسن بيريش بالزي الرياضي الوطني وإذا كان هذان الكتابان قد صدرا قبيل بداية بطولة كأس العالم بقطر، فإن كتابا آخر، قد صدر بعيد نهاية هذه التظاهرة الكروية بقليل، وعقب المشاركة المشرفة للمنتخب المغربي لكرة القدم فيها، وهو الحدث الذي حفز كاتب البورتريهات المغربي حسن بيريش، فانبرى لتخليد مشاركة الفريق المغربي، في كتاب جديد وأنيق، صدر مع بداية هذه السنة 2023، بعنوان "أسود المغرب في قطر: حلم فاق الخيال" . وبصدور الكتاب الجديد للشاعر والإعلامي والناقد الأدبي، حسن بيريش، ينضاف جنس "البورتريه" إلى فضاء الأجناس الأدبية التي اهتمت بكرة القدم، كالرواية والشعر. ويشهد للكاتب حسن بيريش، في هذا الإطار، بكونه من أهم كتاب البورتريه اليوم في المغرب، وله في هذا الباب مجموعة من الكتب / البورتريهات المنشورة، فضلا عن إنجازه لكتب أخرى ذات طبيعة خاصة، منها كتب مشتركة، وخصوصا مع الأديبة المغربية أسماء المصلوحي. كما يعرف حسن بيريش بكتابته لبعض السير الغيرية والمذكرات، وبكتب أخرى ذات طبيعة خاصة، بالاشتراك مع كتاب آخرين، من قبيل مذكراته مع الكاتب المغربي محمد شكري، الصادرة بعنوان "شكري.. وأنا"، وكتابه عن التجربة الفنية للتشكيلي المغربي أحمد بن يسف، بعنوان "بن يسف يتكلم"، وكتابه عن الإعلامي الراحل خالد مشبال: "خالد مشبال الإعلامي الذي لم يفقد ظله"، فضلا عن مجموعة من الحوارات، أجراها مع رموز الثقافة والإبداع المغاربة، كما في كتابيه الحواريين: "هكذا تكلم محمد شكري" و"المعيش قبل المتخيل/ حوارات مع محمد شكري"، إلى جانب مراسلاته المتبادلة مع كتاب آخرين، كرسائله مع أحد رواد الشعر المغربي الحديث، الشاعر عبد الكريم الطبال، الصادرة في كتاب بعنوان "رسائل الغواية"، وغيرها من الكتب ذات المنحى السيري والحواري والتراسلي والمفتوح، ولحسن بيريش كتب أخرى في الأفق، من بينها كتاب لا يخلو بدوره من أهمية، عبارة عن "أنطولوجيا كتاب طنجة: مائة عام من الإبداع"، يتضمن مائة اسم من الكتاب الذين أقاموا بطنجة أو عبروها أو كتبوا عنها، من المغرب وخارجه، بما يجعل اليوم من بيريش، بعد الراحل محمد شكري، حارسا أمينا لمدينة طنجة، وأحد مؤرخيها الجدد. ويعتبر فن كتابة البورتريه، أو البروفايل، من بين أهم الأجناس التعبيرية التي أدمن حسن بيريش على كتابتها، ليواصل إثراء هذا الجنس الأدبي (البورتريه)، بإصداراته المتواترة، التي خص بها كتابا مغاربة، من مختلف الأجيال والأعمار والاهتمامات الثقافية والسياسية والأدبية والإعلامية والرياضية، من الجنسين، بحيث يتجاوز اليوم عدد هؤلاء الذين كتب عنهم بيريش بورتريهاته، على مدى عشرين سنة خلت، ما مجموعه أربعمائة اسما (بورتريها)، موزعة على ستة كتب، متوسلا في كتابتها بما يمتلكه من كفاءة وخبرة وعين لاقطة، وبما يعرف عنه من ذكاء كتابي وحرفي خاص، وملكة لغوية ونقدية وتعبيرية جذابة، ورصيد ثقافي ومعرفي مرجعي، إنساني وتاريخي وثقافي ورمزي، عن مختلف "الشخصيات/ الأسماء" التي كتب عنها، واستعاد تفاصيل حيواتها، وجوانب من حضورها الرمزي، وإنجازاتها وأنشطتها المختلفة، في مختلف مجالات الكتابة والاهتمام التي عرفت بها تلك الشخصيات، بما تستلزمه كتابة البورتريه عنده، من "صدق واستحضار لدواخل وجوهر الإنسان، والتحلي بالحس النقدي"، كما قال الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال، متحدثا عن تجربة حسن بيريش مع كتابة البورتريه… وتلك كتابات، في تنوعها واختلافها، تستلزم من حسن بيريش، ركوب مغامرة الكتابة عن مجموع تلك الأسماء التي تفاعل معها في بروفايلاته، مدركا صعوبة الإقبال على ذلك، هو القائل، معرفا البورتريه، بكونه "جنس أدبي مسكون بالجموح. إبان أول دهشة، تتوهم أنك قادر على ترويض جموحه، والسيطرة على زمام توثبه، وخلال آخر عبور، تكتشف أنه هو من يملك مهارة ترويضك، وذكاء الإمساك بأعنة قلمك، بين دهشة عبورك أنت، وعبور إدهاشه هو، يدركك اليقين، يكتبك هو، وتصهل أنت"، وذلك بشكل جعل حسن بيريش، اليوم، أحد من أصلوا كتابة البورتريه في مشهدنا الثقافي والأدبي المغربي، وعمل على ترسيخه إبداعا جديدا قائم الذات، ما فتئ يحظى بتلقيات أوسع، وهو ما جعله يتوج بجائزة أفضل كاتب بورتريه في الصحافة المغربية سنة 2016، من المنظمة المغربية للإعلام الجديد، كما صنفته الدكتورة كوثر جابر من ضمن أكبر وأهم كتاب البورتريه في العالم العربي، في أطروحتها من جامعة حيفا بفلسطين… ومن بين آخر مغامرات حسن بيريش مع كتابة البورتريه، والتي تمكن من كسب رهانها، بروفايلاته المنشورة التي مزج فيها بين الأدب والرياضة، والصادرة في كتاب أنيق عن "أسود الأطلس"، وهو كتاب تمكن بيريش من كتابته في ظرف زمني قياسي، في حوالي شهر، إثر الإنجاز الرياضي التاريخي الذي حققه فريق كرة القدم المغربي، في بطولة كأس العالم بقطر. يقع الكتاب في 212 صفحة من القطع الكبير، ويضم ثلاثين بوتريها. ففضلا عن بورتريه خص به الكاتب، الملك محمد السادس، تتعاقب في الكتاب بورتريهات مختلفة، لكل من فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، ووليد الركراكي، مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم، فلاعبي المنتخب المغربي، الرسميين والاحتياطيين، ممن خص كل لاعب منهم ببروفايل خاص به… ومن شأن قارئ هذه البورتريهات الجديدة عن "أسود الأطلس"، أن يكتشف وجها آخر يتميز به كاتبها حسن بيريش، وتحديدا على مستوى حرصه على كسب رهان الكتابة عن شخصيات (عن "لاعبين" هذه المرة)، قد يتبين لنا، للوهلة الأولى، أن معرفته بهم محدودة، قبل أن يتملكه تدوين بروفايلاتهم في كتاب، وهم غير "الكتاب"، ممن يكون بيريش، في كتابته عنهم، قد استأنس بمعرفتهم سلفا، وبكتاباتهم وأحاديثهم، وبتجاربهم مع الحياة والكتابة، وأيضا على مستوى قدرة بيريش على النفاذ إلى أعماق كل من يكتب عنهم بروفايلاتهم، من لاعبين وغيرهم، متوسلا في ذلك بمعرفته المسبقة بهم، سواء من خلال تفاعله مع ما كتب وقيل عنهم في الإعلام، بمختلف مكوناته، وعبر استعانته بشريط تتبعه لمسيرهم الكروي، ومشاهداته لهم في مباريات سابقة، داخل ملاعب مختلفة، وهو يراقب أدوارهم داخل رقعة الملاعب، وسلوكياتهم خارجها، مستندا في ذلك، وهذا هو الأهم، إلى معرفته بلعبة كرة القدم، في تفاصيلها الدقيقة، وهو ما مكن بيريش، أيضا، من إدراك حركات اللاعبين ووصفها واقتناصها وتحليلها وشرحها، على صعيد مختلف المباريات التي لعبوها ضمن بطولة كأس العالم بقطر، وغيرها من المباريات التي خاضوها خارجها… وتلك سياقات متضافرة فيما بينها، ساعدت الكاتب بيريش على كتابة بورتريهاته عن "أسود الأطلس"، بشكل جذاب وموضوعي، لكن بتلوينات ذاتية، تجلت في مختلف الآراء والتعاليق الموازية للكاتب، كما تضمنتها نصوص كتابه، والتي أضفت على بورتريهاته نكهة ومتعة إبداعية خاصة، جعلتها تتجرد من الطابع البيوغرافي المركز للاعبين، لترتمي في صلب أحاسيس الكاتب، وحدوسه، ومشاعره تجاه من يكتب عنهم وطريقة لعبهم، إلى درجة التماهي التام أحيانا، كما في قوله، متحدثا عن اللاعب جواد الياميق: "يا عزيزي الياميق: ثقتك العالية في النفس، التي أبنت عنها – بجلاء – خلال كل مؤتمر صحافي شاركتَ فيه، أنا عرفتها وحدي، ودون مصدر مقرب (…) ما أعلمه عنك، وعن علو طاقتك، لا يحتاج إلى مصدر" (ص 151). وهو بذلك إنما يعجن، في بروفايلاته، ما هو ذاتي، عبر توسله بضمير المتكلم في سردياته، بما هو غيري، بما يخلق لدينا نحن القراء شكلا من التماهي الممتع بين اللاعب وكاتبه، وشكلا من الحوار الضمني بين الكاتب وقارئه، كما في قول الكاتب متحدثا عن اللاعب "عبد الحميد الصابيري"، في إطار الشكل الأول: ("بربك يا عبد الحميد، "الله يرحم والديك"، أخرجني من جب حيرتي، وأجبني عن سؤال، راود يدي وهي تتشرف بالكتابة عنك، في لحظتي هذه المشتعلة بك وحدك": كيف أصبحت ضوء العالم كله، وأنت المعروف بأنك رجل الظل؟")، (ص 105)، أو متحدثا لقارئه في إطار الشكلين معا: "لو تدري يا قارئي، كم أنا مرتبك اليد، متوتر المعنى، مرعوب العبارة، مقصوص المجاز، في مواجهة لاعب من طراز خاص. لا لغتي قادرة على مراوغته. لا جنوني بمكنته أن ينتصر إزاء جبروت تعقله. ثم لا مهارتي في جنس البورتريه تستطيع أن تحرز واحدا في المائة من آلاف مؤلفة من براعته (ص66) … لذا، فكثيرة هي ميزات هذا الكتاب/ البورتريهات عن "أسود الأطلس"، من بينها على الخصوص، ما تحققه نصوص الكتاب لقارئه من متع مختلفة، وذلك بشكل يجعلنا نحن نرتمي، من جديد، في أحضان مونديال قطر، فنستعيد أجواءه الداخلية والخارجية، ومنافساته، وأفراحه، تلك التي حرص الفريق المغربي لكرة القدم على خلقها لنا جميعا، في المغرب وفي البلدان العربية، بل وفي العالم، ومن أهمهما، أيضا، أن كتاب بيريش، استنادا إلى المواقف المشهود بها للفريق المغربي ولجمهوره في ملاعب قطر، لم ينس، هو أيضا، أن يذكرنا بفلسطين الأبية، حيث رفع علمها شامخا، في جميع الملاعب الجميلة التي أجريت فيها مباريات المنتخب المغربي، وفي ذلك ما يدل على الرسائل النبيلة التي وجهها المنتخب المغربي وجماهيره، كعادتهم في مثل هذه المناسبات، إلى العالم، مذكرين بفلسطين الصامدة، وبقضيتها الإنسانية العادلة…