يدل مصطلح (الحداثة) الذي يتردد كثيرا على ألسنة النقاد والأدباء والمفكرين، على القَطْعِ مع الماضي، ونَبْذِ (القيم المحافظة الموروثة): يقول رولانْ بارث! وإنْ كان هذا ضربا من الخيال، لأن الماضي، بإيجابياته وسلبياته، يسكننا، أحببنا أم كرهنا! كما يدل على بحثنا المتزامِنِ والدائم عن شكل جديد للتعبير الفني في الكتابة والرسم والغناء والنحت والتمثيل والرقص والتعمير والصناعة…وكان ظهور الحداثةِ الفعلي ما بين الحربين العالميتين (1928 الأولى 1914 1918 والثانية 1939 1945)! ويمكننا أن نرى الحداثة من زاوية التاريخ أيضا، أي قبل الحربين، إذ يعتقد الكثيرُ أن العالَمَ، شهد، أولا، عصرَ النهضة (القرنان الخامسَ والسادسَ عشرَ) وثانيا، عصرَ التنوير( 1687إلى1789) وثالثا، ظهورَ الحداثة وما بعدها! فالتحضر، والتصنيع، والتطلع إلى المستقبل، والتفاعل مع عالم متغير، وتدميرُ الحربِ السائدَ والجاهزَ من الأفكار والتقاليد والسياسات والمعمار… كل ذلك، أدى إلى التفكير في التحديث، وتجاوُز الماضي! وكانتْ رواية الكاتب الإيرلندي جيمس جويس (يوليسيس) 1922 إيذانا بفجر الحداثة في (الآداب). فهي ترتكز على تقنية (تيار الوعي) التي تتمرَّد على رتابة التفكير، ونظام التعبير، وتستعمل الدَّفْقةَ العقلية، أكثرَ من الخيال والوجدان . ولغتها ذات معانٍ ودروبٍ شتى، لا صلة بين هذا المعنى وذاك، كالمتاهة أو السَّرابِ، فضْلا عن الشكل التجريبي، والسرد غير الخطي، ومفارقات السخرية، والغموض المتعمد للمعنى…ما يجعل القارئَ العاديَّ، الذي لا يدَّخِر خلفيةً لغويةً وأدبيةً وثقافيةً، لا يَصِلُ إلى كُنْهِ النصِّ المقروءِ! قبل أشهرٍ، كنتُ في لبنان، فسألتُ شاعرا (حداثيا) عن المعاني الكامنةِ بين ثنايا قطعةٍ شعريةٍ قرأها عليَّ، لأنني أجهدت نفسي، ولملمتُ كلَّ طاقتي، كي أتذَوَّقَها فنيا، وأستَسيغَ أبعادَها فكريا، فلمْ أُفْلِحْ، كأنَّها من الطَّلاسِمِ! فردَّ عليَّ باسِما: هذه هي الحداثةُ الشعرية، فأنا نفسي لا أعي ما كَتَبْتُهُ، لأنَّ قصيدتي نظَمْتُها في لحظةِ اللاشُعورِ! وبَرَّرَ ذلك الغُموضَ المَقْصودَ بأنَّهُ يريدُ أنْ يتركَ لكلِّ قارئٍ حُرِّيةَ التَّذَوُّقِ والفَهْمِ والتَّفْسيرِ، انطلاقا من قناعاته الفكرية، وذائقتِهِ الفنية، وليس ضروريا أنْ نجتمِعَ على رأيٍ واحدٍ . والشيءُ نفسُهُ، ينطبق على تقييمِنا للوحاتِ التَّشكيليةِ، والعروضِ المسرحية، والرقص..! وهذا التَّوَجُّهُ، شمل الآدابَ والفنونَ الغنائيةَ والمسرحيةَ والهندسةَ المعماريةَ، وإذا ذهَبْنا بعيدًا فيه، شمَلَ حتى الحركاتِ السياسيةَ والعسكريةَ والاقتصاديةَ، التي تخلَّصتْ كلُّها من الأشكال الوراثية، والمفاهيم المتداولة للمنظور والنمذجة والتفكير، لتوجِدَ أخرى معاكسةً ومخالفةَ لها تماما! وكمثالٍ، فقط، نلحظ في الهندسة المعمارية، التركيزَ على الإطار الفولاذي، والاستغناء عن الزخرفة، والاستعانة بالأشكال الزجاجية في المباني الشاهقة ! غير أن ما بعد الحداثة، ستكسر هذه الرؤية (الحداثية) وتُدير لها الظهرَ، لتعود إلى (الأصل بوجهٍ آخر) كاستعمال المواد والأشكال التقليدية والزخرفة، لكنْ، بطرق مختلفة عن الماضي، كأنَّها تُصْلِح ما أفسدتْهُ الحداثة، أو تحاول أن تجد حَلا للمأزق الذي سقطتْ فيه! فما بعْدَ الحداثة، لم تقبلِ الماضي ولم ترفضه، إنما شكَّكَتْ فيه، واعتبرتْهُ نسبيا . فأعادتِ النَّظَرَ والتحقيقَ والتدقيقَ في كلِّ الممارساتِ العلمية والفلسفية واللغوية السابقة…أي لا يوجد شيء اسمُهُ (الحقيقة) والحقيقة المطلقة، فما حققه العلم والتكنولوجيا ، على مدى عقود من الزمن، لا يُعَدُّ إيجابيا ولا سلبيا، لأن الفهم الخاطئ لهما، أدى إلى تطوير تقنيات التدمير، تدمير البيئة والبشرية والقيم… فينبغي أنْ نستفيدَ من الماضي الإيجابي، ونطعمه بالحاضر والمستقبل . أعطي مثالا بالمهندسة العراقية الراحلة سُها حديد، التي استقتْ تصاميمَها العالميةَ من أشكال الهندسة العربية القديمة، كالقبب والمُنحنيات وتموجات الخط العربي…! وهناك الكثيرون متحمِّسونَ للحداثة وما بعدها، لأنهم يعتبرونهما معا (المُنْقِذَ الوحيدَ) من الركود والتخلف، اللذين نتجا عن الحربين العُظميين!..وفعْلا، هُما كذلك، نستطيع أنْ نتفق (لحدٍّ ما) إلا أنَّ هناك من عَدَّ الحداثةَ (خطرا)!.. فالناقد (جورج ريتزر) يراها سيئةً ل(عقلانيتها المفرطة) وذهب المفكر (بومان) بعيدا، عندما نعتها ب(المحرقة) أي (التدمير الشامل للبشرية) وهو غالبا يقصد ما يرتبط بالسياسة والاقتصاد، كالوجبات السريعة، والأطعمة المُعَدلة وراثيا، والاحترار والتلوث، والعولمة والإنتاج الضخم والتصنيع والتكنولوجيا…ما يؤدي إلى تدمير البيئة والصحة والوجدان الإنساني . أما المُنَظِّر (يورجن هابرسان) فيَمْسِك العصا من الوسط، ويقول إنَّ الحداثة وما بعدها ما زالتا في طور التجربة، لا نستطيع أن نحكم لهما أو عليهما، لأنَّ أوروبا ما لبثتْ تحاول أنْ تستفيدَ من حصتها فيهما!..أي لم تكتمل تجربتُها، لترى مدى نجاحِها من فشلها، فهما مشروعان مستمران، لم ينضجْ نُمُوُّهُما بَعْدُ ! والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن : هل يستطيع الجيلُ الصاعدُ أن يستغني عن مزايا الحداثة وما بعدها، وهو الذي تعوَّد أنْ يَصْحُوَ، يوميا، على كلِّ جديدٍ، يوفِّر له مُتْعَةَ الحياةِ؟!..هل يحيا بدونهما، والعالم كله يسير في هذا الاتجاه، كقطار فقد فَرْملتَهُ ؟! إنَّ التعامل معهما يقتضي منا إعمالَ العقل في طبيعتهما فلا يمكن أبدا أن يكونا مُدمرين للحياة، لأنَّ لهما فوائدَ إنسانية لا تُحْصى، ولا يُسْتَغْنى عنهما، ولولاهما لبقي العالم متخلفا في كل مجالاته، ولَوَضعَ الساسةُ خطا أحمرَ في المرور إلى التفكير والتجديد والتطور . وفي الوقت نفسه، يجبُ التحذيرُ من السرعة المفرطة في تحقيقهما، فالكثير من منجزاتهما، أصبح خطرا على البشريةِ جمعاءَ، ومن ثمَّةَ، يفرض الواقعُ الحالي التفكيرَ المُتَّزِنَ والْعَميقَ في سُبُلِ نَهْجِهِما، دون حَماسٍ ولا تَهَوُّرٍ، لأنَّهُما يَمَسَّان الوجودَ البشري، حاضرا ومستقبلا!