نوستالجيا فرانشيسكو أرينازا الأمة التي تحفظ تاريخها، تحفظ ذاتها.. راشد رستم السيد فرانشيسكو ديل باريو أرينازاFrancisco Del Barrio Arenaza من الأصدقاء، الذين تعرفت عليهم قبل بضع سنوات، عبر إحدى الشبكات الإجتماعية. وقد تمتنت صداقتي ومعرفتي به مع مرور الوقت، نتيجة التواصل المستمر فيما بيننا. وهو في الأصل ابن أحد المستوطنين الإسبان الغجر، الذي كان يستقر بشرق منطقة الريف، إبان فترة الحماية الإسبانية على المنطقة. ولد بمدينة العروي سنة 1943، وتلقى دراساته الأولية بالمدرسة الموحدة للأطفال Escuela Unitaria De Ninos وبعدها بالمدرسة الإسبانية بالعروي El Colegio Espagnol، التي تحتل مقرها حاليا، مدرسة ابن زيدون الإبتدائية. ترعرع بالمدينة والمناطق المجاورة لها، إلى أن بلغ سنه الرابعة عشر، حيث غادرها رفقة أسرته بعد استقلال البلاد، ورحيل المعمرين . ولذلك، فهو مُتيم بحُب المدينة، وعاشق لها حد الجنون. يتحدث عنها بحب وشوق وحنين، وأحيانا بألم صارخ غير معلن. عارضا على جداره الإجتماعي، كنزا من الوثائق والصور التاريخية، الخاصة بالمدينة خلال عهدها الإستعماري وحتى بعده. صور تستعرض جانبا غنياً من أهم المعالم المعمارية الكولونيالية الإسبانية بمدينة العروي، سواء منها التي مُسحت مسحاً وطُمست طمساً. أو تلك التي لا زالت صامدة منها تقاوم وتصارع من أجل البقاء. وكذا النشاط الإقتصادي الذي كان سائدا بها، والحياة الإجتماعية للمستوطنين خلال تلك الفترة، وعلاقاتهم بالسكان الأهالي. ناهيك عن جوانب أخرى متعددة، من تفاصيل الحياة وتلاوينها. ولا زال الرجل من فرط حبه للمدينة، يتردد عليها في زيارات متواترة. مُنقاداً لِوَلعه وعشقه الكبير لها، ومتفقدا لأصدقائه القدامى بها، من الذين لا زالوا على قيد الحياة. تبادلتُ مع الرجل بعض المراسلات، حول جوانب من تاريخ مدينة العروي ومآثرها ومعالمها الكولونيالية. وحفزته على إمكانية جمع ما تختزنه ذاكرته من أحداث، وما يحتويه أرشيفه من صور ووثائق تخص هذه المدينة، وتوثيق كل ذلك في مؤلف ما، حتى لا يضيع هذا الإرث النفيس. علما أن الرجل متقدم في السن، ويمكن لرحيله في أي وقت، أن يمثل خسارة فادحة، ويؤدي إلى ضياع هذا الكنز التاريخي، الذي يهم المدينة. غير أن الرجل اعتذر بلباقة وإقناع، متحججاً من جهة بشيخوخته، ومن جهة أخرى بالتغير المستمر الذي يطرأ على مزاجه، وكذا افتقاره إلى الحيوية اللازمة، التي يتطلبها مثل هذا العمل. معرفة الرجل بتفاصيل المدينة وتاريخها الكولونيالي، وتطوراتها ومواقعها وشخوصها مثيرة للدهشة. فهو يعرف حكاية كل مَعْلم من معالمها، وقصة كل مكان من أمكنتها، ووقائع كل موقع من مواقعها وكل ركن من أركانها، بشكل يدعو إلى التعجب. ميزة الرجل أنه ليس كغيره من المستوطنين، حاملي الفكر العنصري الإستعماري. فهو يؤمن بأهمية التعايش بين الشعوب والأديان، والحضارات إيمانا شديدا. كما أنه ناقم على السياسة الإستعمارية الإسبانية في الريف، ومستنكر لها، ولحرب الغازات الكيماوية غير الأخلاقية، التي شنتها على ساكنة المنطقة. فقد قال لي مرة، في إحدى رسائله بالحرف: "في تاريخ الشعوب، دائما ما يوجد أحمق ما، يقود شعبه إلى الكارثة.. مما يشجع على اندلاع الحروب الملعونة". هذه الأخيرة، التي قال عنها أيضا: "الحروب هي الرعب للأمهات، اللواتي يعانين الأمرين (طبعا خوفا على فلذات أكبادهن)". لا يتردد الرجل في التأكيد على رفضه للإرث الثقيل، الذي خلفته السياسة الإستعمارية الإسبانية في حق ساكنة الريف. كما لا يكف عن التعبير عن حبه الكبير لمدينة العروي وأبنائها، بطرق متعددة. سواء من خلال عرضه كمّاً هائلا من الوثائق المصورة، لتاريخها وحاضرها ومعالمها وشخوصها، وحياتها متعددة الأبعاد، تِباعا على صفحته في الشبكة الإجتماعية، كما سبق. أو من خلال تعاليقه، وشروحه، وإضافاته الكثيرة المتعددة، إلى هذه الوثائق. أو من خلال زياراته التي لا تنقطع إليها كما سلف. فهو لا يتردد في نعت ساكنة مدينة العروي "بالأصدقاء الإخوة" "Amigos-hermanos". والتعبير عن ارتباطه الكبير بالمدينة. حيث يقول: "في سنة 1957 غادرت جبل العروي.. لا أستطيع نسيانها، ولا أريد نسيانها". "En el año 1957 sali yo de Monte Arruit.. No lo puedo olvidar y ni quiero olvidarlo." كما لا يكل ولا يمل من إعلان حبه وشغفه وعشقه الغامر لها، واعتزازه بها بقوله: "أحمل العروي في قلبي"، "Llevo a Arruit en mi corazón" . "لن تنمحي من ذهني سوى بعد مماتي"، " solo se borrará de mi mente cuando muera". لكن الرجل أيضا، لا ينفك يعبر عن حزنه الدفين، وألمه البالغ، لما آل إليه حال معالمها التاريخية الكولونيالية بالتحديد. ولو أنه ألمٌ وحزن مضمر غير مُعلن، يعمل على لملمته وكتمانه. لكنه يحاول التعبير عنه، كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك، من خلال عقد مقارنات لحال بعض تلك المعالم، في مختلف الأمكنة، بين الماضي والحاضر. اعتمادا على الصور، باعتبارها أكثر تشخيصا ونطقا بحقيقة ما وقع. كل مكان بصورتين متباينتين، لحال المَعْلم التاريخي سابقا، ووضعه الحالي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عقده مقارنة معبرة جدا، بين صورتي الكنيسة الكاثوليكية للعروي، التحفة الهندسية الكولونيالية الرائعة من جهة. ومن جهة أخرى، مركز بريد المغرب بالمدينة الذي حل محلها، وبُني على أنقاضها، بقسوة جارفة لا تحتمل. في صورة غاية في التأثير والبشاعة. ومقارنات أخرى لأمكنة متعددة، إن كانت لا تكشف عن إجهاز صارخ على المعالم التاريخية للمدينة، فهي تكشف على حجم الندوب الكثيرة التي لحقتها. والناتجة عن الجهل والإهمال واللامبالاة. مع أن المجال الترابي والوعاء العقاري للمدينة كان، ولا زال، واسعاً مترامي الأطراف، يسمح بإمكانية إقامة مختلف المرافق الحديثة، دون المساس بإرثها التاريخي، وتعريضه للمسح والمسخ والتشويه والاتلاف. نوستالجيا الرجل لماضي المدينة وتاريخها ومعالمها، حرك في قلبي ووجداني وأعماقي، فيضاً من الحنين والشوق إلى ماضي المدينة البسيط والجميل. وغير قليل من الأشجان والآلام والمواجع، تجاه ما لحق إرثها المعماري التاريخي الكولونيالي، الذي كبرنا في أحضانه، وترعرعنا ونحن صغارا بين معالمه. ما لحقه من إهمال وتدمير وإجهاز. شوق وحنين إلى ماضي المدينة التليد الرائع، وأيامها الخوالي، على بساطتها، ورتابتها، وسكينتها. أيام مرحلة الطفولة والمراهقة في الستينيات والسبعينيات. حنين لمدينة كانت تتنفس عبق التاريخ، وتحيى طمأنينة باذخة، على إيقاع بساطة أهلها، وطيبوبتهم الصارخة في ذاك الزمن الجميل. مدينة صغيرة، هادئة، حالمة حد الإلهام. كانت أشبه ما تكون بقطعة من أحياء مدن أندلسيا Andalucia الإسبانية. لا في تصميمها الجميل، الذي تتخذ فيه الشوارع الواسعة نسبيا، أشكالا متوازية ومتعامدة. كما كان ذلك يتمظهر بجلاء، في الحي الكولونيالي، الواقع بين السوق الأسبوعي غربا، والكنيسة/البريد شرقا. والمقر السابق للقوات المساعدة وشارع الحسن الثاني شمالا، و"درب اليهود" جنوبا. ولا في معالمها العمرانية المتعددة، ذات الطابع الإقتصادي، والإجتماعي، والديني، والأمني.. التي كانت تعج بها، إلى جانب المعمار المحلي البسيط آنذاك، الذي كان يحيط بالأحياء الكولونيالية في شكل حزام محدود محتشم.. كما حرك حنين الرجل وأنينه تجاه المدينة في نفسي، من جهة أخرى، أشجانا ومواجع تنهش الفؤاد. مردّها ما آل إليه هذا الإرث التاريخي، من تخريب وإتلاف وإجهاز وضياع. حتى أن معظمه أصبح أثرا بعد عين. وما بقي منه، لا زال يصارع أخطار الجهل واللامبالاة وانعدام المسؤولية، من أجل الصمود والبقاء. وذلك، نتيجة تظافر و"تواطؤ" عوامل الطبيعة وعوادي الزمن المختلفة من جهة. ومن جهة أخرى، تسلط الإنسان وعبثه وإصراره على الإهمال والتهميش. وتربص بل تهافت لوبي العقار وأطماعه وجشعه، الذي لا يميز بين ثقافة ولا تاريخ ولا تراث. هي معالم تاريخية كانت تؤثث مواقع المدينة وأركانها المختلفة. ألفناها خلال مرحلة طفولتنا وصبانا. واعتدنا رؤيتها، كجزء من طوبوغرافيا معمار المدينة ومآثرها، وتركيبتها الحضرية. وأحببناها ببراءة وصدق. برغم أنها كانت ولا زال ما بقي شاهدا منها تحكي ألما حارقا، وترمز إلى جرح نازف، بالكاد تمت لملمته بعد استقلال البلاد. جرح عهد استعماري جاثم بغيض ولّى. وما واكبه من تسلط، واستغلال كريه مقيت. لكن برغم خلفيتها ودلالاتها الإستعمارية البغيضة تلك، كنا نريدها أن تظل صامدة شامخة، تحكي للآجيال الحالية واللاحقة، من أبناء المدينة والوطن عن قرب وكثب، حكاية وطن اغتُصِب ذات لحظة ضعف وهوان. وظل يدفع الثمن ردحاً مديدا من الزمن. مِن حريته، ودمه، وإنسانه، وآلامه، وخيراته، وفضاءاته، ومساحاته وأرضه. كنا نريدها أن تبقى كذلك، لأننا ندرك أن "الهندسة المعمارية، كما يوضح المعماري رشيد الأندلسي، تحكي كل شيء، تفضح جميع ما نريد ستره، يمكن قراءة التاريخ من خلالها.. إنها ذاكرة يجب الحفاظ عليها وإنقاذها..". عساها تحكي لأبنائها اليوم وغدا، حكاياتها ويومياتها الكولونيالية القاسية الأليمة. وعليه، كان ينبغي لمسؤولي بل وحتى لساكنة المدينة بجميع مكوناتها، العمل ليس فقط من أجل الحفاظ على موروثهم المعماري هذا، ولكن العمل أيضا على أن يدمجوه "في سرديات وحكايات هوياتهم وأفقهم المستقبلي، وفي مكونات تاريخ المدينة، وتراثها المجتمعي.." كما يقول الباحث الأنتربولوجي محمد الصغير جنجار، عن مدينة الدارالبيضاء. ذلك لأن العهد الكولونيالي للمدينة، هو بقوة التاريخ وحقائق الجغرافيا، جزء لا يتجزء من هويتها وإرثها التاريخي وسيرورتها. أتذكر كيف كانت مدينة العروي يومها، ترتدى حلة تاريخية رائعة، حتى ولو أن ذلك كان بألوان كولونيالية من بقايا استعمارية. وتعبق بنكهة ملاحم تاريخية، صنعها ذات لحظة غضب شعبي، وفورة روح وطنية عارمة، ورفض للوصاية الأجنبية، مجاهدو الريف الأشاوس. وتنتشي بعطر انتصاراتهم الفواحة. أتذكر يوم كنت آتي إليها في نهاية الستينات، وبداية السبعينيات من القرن الماضي من مدينة وجدة، التي هاجرَت إليها أسرتي أواسط الستينات، لاعتبارات ترتبط بظروف عمل والدي رحمه الله، لقضاء عطلتي الصيفية بأحد المداشر الواقعة في محيطها وضاحيتها. حيث مسقط رأسي وامتداد عائلتي. قبل عودة الأسرة من نزوحها المذكور، للإستقرار النهائي بها في بداية السبعينات. يومها، كانت محدودة المساحة والساكنة والعمران، لكن ممتدة متغلغلة في المدى والزمان. مليئة بالتاريخ، ناطقة بأمجاده وملاحمه وآثاره وتجلياته. قبل أن يبدأ التدفق السكاني زاحفا عارما عليها، نتيجة الهجرة القروية أساسا. خاصة من مناطق الريف، وغيرها من المناطق. مما أعطاها لاحقا، تنوعا ديموغرافيا مميزا، ونموا عمرانيا غير متحكم فيه. وبالتالي تهافتا غير مسبوق على العقار بها. وانتهاء بتهديد كل هذه المعالم الثقافية التاريخية بالإهمال والعبث، بل وربما حتى التلاعب، وبالتالي الزوال والإندثار. في غفلة، أو ربما تغافل وتواطؤ من المسؤولين والمعنيين بالأمر وقتها. يومها، لم يكن المجال العمراني للمدينة يتجاوز المناطق المحيطة بالسوق الأسبوعي، القلب الإقتصادي النابض للمدينة آنذاك. وكذا الأحياء الكولونيالية الإسبانية (الحي التجاري درب ليهود..) وبعض الأحياء الحديثة المتمددة في اتجاه غرب المدينة وشمالها الشرقي. وقتها، كانت المعالم التاريخية الكولونيالية، تمثل مظهرا طاغيا بارز الحضور والظهور، بالنسبة لمعمار المدينة العام، وحجمها وامتدادها المحدود. حتى أن المتأمل في هندسة وتوزيع مجموع هذا المعمار الكولونيالي، الذي كانت تزخر به وقتها. يقف على إزدواجية عمرانية فارقة، كانت تميز المدينة. وتمظهرت على عدة مستويات، خاصة المستوى الديني. حيث كانت الكنيسة المسيحية تنتصب كمعلم ديني أساسي بارز في أقصى شرق المدينة. يقابلها غربا في الإتجاه المعاكس تماما، مسجد المدينة المركزي. وعلى المستوى الإقتصادي تمظهر ذلك، في امتداد الحي التجاري الأوربي بدوره في أقصى شرق المدينة بجوار الكنيسة. بين بقايا محطة القطار ومساكن المستوطنين شمالا، ودرب اليهود جنوبا. بينما استقر السوق الأسبوعي في اتجاه الغرب، منفتحا بإحدى بواباته (الشرقية) على المسجد المركزي المذكور. وهو ما يعني أن الإدارة الإسبانية، كانت قد عملت على الفصل بين المَرافق الموجهة للإسبان والمستوطنين، ومثيلتها المخصصة للأهالي من المسلمين. ولم تشذ عن هذه القاعدة، سوى المقبرة الكاثوليكية، التي كانت تقبع في أقصى الطرف الجنوبي الغربي للمدينة، وترتبط عبر شارع "درب اليهود"، بالكنيسة الكاثوليكية في أقصى شرق المدينة. وكذا مقبرة سيدي علي موسى الإسلامية، الواقعة بدورها، في تناقض غريب، في أقصى شرق المدينة على ضفاف واد ثياوث. وإن هذا ليؤكد ارتباط السياسة الإستعمارية الإسبانية في بناء وتعمير المدينة، بهوية معمارية كولونيالية. هوية "تُصر على إقامة فوارق و"حدود" مجالية بين الفضاء الخاص بالمغاربة، والمدينة الرسمية التي كان يقطنها الأوربيون"، كما يشرح الباحث في علم الإجتماع الحضري عبد الرحمن رشيق. وقد شكلت هذه الأحياء والمعالم الكولونيالية المتناغمة الهندسة والتخطيط، بعد استقلال البلاد، النواة الأساسية لنمو المدينة واتساعها، لكن في الغالب الأعم بشكل عشوائي منفلت. واستقطاب الهجرة القروية بشكل مكثف، من المداشر والدواوير المحيطة بها. لتعرف لاحِقاً سيلاً جارفا للهجرة، من الريف ثم من مختلف مناطق البلاد. لينتهي بها الأمر بعد حوالي ستة عقود من الإستقلال، إلى تكدس متراكم للإسمنت، تميزه الهشاشة البنيوية والتعقيد، وتفاقم المشاكل المتعددة. وتجمع كبير لساكنة مختلطة ومتنوعة المشارب والإنتماءات. بالكاد بدأت، بفعل هذا الإختلاط والتنوع، تتجرد تدريجيا وببطء شديد، من خصوصيات الإنتماء إلى القبيلة، في إطار ما يورده عبد الرحمن رشيق عن فيرناند تونيز، من "خروج من العشيرة إلى المجتمع.. بما يعني استقلالية الفرد عن الجماعة"، بأنماط علاقات سلوكية اجتماعية جديدة، سِمتها الأساسية المميزة، هي طغيان "الفردانية واستبداد الحميمية، وهي سمة ملازمة للنظام الرأسمالي الجديد، الذي فرضته الإدارة الإستعمارية"، على حد رأي عبد الرحمن رشيق أيضا. وإن نظرة سريعة إلى طبيعة المعالم والآثار والتجهيزات الكولونيالية، التي شكلت الإرث التاريخي الإستعماري بالمدينة، أو على الأقل ما ظل شاهدا منها، إلى نهاية الستينات ومطلع السبعينات، أي المعالم التي شهدناها وعايشناها ورأيناها رأي العين، كانت تتوزع بين: مرافق دينية تتمثل في: الكنيسة المسيحية: شكلت إلى حدود نهاية سبعينيات القرن الماضي، مَعْلما دينيا مسيحيا كاثوليكيا فريدا وبارزا، قابعا في أقصى شرق المدينة. شاهدا على فترة زاخرة بالأحداث من تاريخها. ناهيك عن كونها كانت تمثل قطعة معمارية، وتحفة هندسية فائقة الجمال. تزين المدينة، وتحكي عن ماضيها الكولونيالي الإستيطاني، في جزء من أحداثه وتفاصيله. وبالنظر إلى أنها كانت علامة هندسية فارقة مميزة ومختلفة، وسط فضاء المعمار المحلي البسيط، الذي كان قد بدأ يتمدد في محيطها.. فقد ظلت تثير فينا ولدينا ونحن أطفالا ثم فتيانا، العديد من الأسئلة حول وظيفتها، ومحتوياتها، ودواعي تشييدها وسط مجتمع قروي مسلم بالكامل. من دون أن نكلف أنفسنا وقتها، عناء استدعاء والتوسل بمنطوق التاريخ ووقائعه وحكاياه. خصوصا أنه كان دائما يتناهى إلى أسماعنا من الراشدين، أن البناية إنما هي "مسجد النصارى": "ثمزييدا نيروميان" )كَليسياس(. وقتها، كانت أفواج المستوطنين الإسبان القدامى، وخاصة من قاطني مدينة مليلية السليبة، تأتي إلى مدينة العروي بكثافة كل يوم أحد، للتسوق من سوقها الأسبوعي التاريخي من جهة. ومن جهة أخرى، لتفقد معالمها الكولونيالية، ومنها الكنيسة المذكورة. مُنقادة لولعها وعشقها لهذه المدينة، التي قضت بها سنوات عديدة، ونسجت بها ومعها ذكريات لا تنسى. ومُنجذبة لحنينها وعشقها الكبير لها. لم يكن أحد يتخيل أو يتصور، أن تمتد أيادي الجهل والتخلف إلى هذه المعلمة، ذات بداية الثمانينيات، لتحطمها وتدمرها. وتطيح معها بجزء مهم من ذاكرة المدينة، وإرثها التاريخي والحضاري. لم تكبحها مهابة المكان كمقر للعبادة، ولم تردعها جمالية عمرانه الرائعة، ولا رونق هندسته البديعة. لم يكن أمام هذه الأيادي الآثمة، غير الإجهاز على هذه المَعْلمة الرائعة، لتوفير عقار بئيس، لتشييد مقر بريد متواضع، ومحدود الخدمات يومها. مع أن الوعاء العقاري للمدينة آنذاك، كان فسيحا واسعا، وممتدا في كل الإتجاهات . لقد كان قرارا مليئا بالغباء، مثخنا بالجهالة العمياء. ينم عن خضوع زمام الأمور بالمدينة ردحا من الزمان، لمزاج كائنات "صماء بكماء". عبثت وأطاحت بعدد من الشواهد التاريخية النفيسة للمدينة. ولم يسلم حتى هذا الفضاء، الذي كانت تحتله الكنيسة من أطماع لوبي العقار. فلا زال بعضه محط نزاع في ردهات المحاكم إلى اليوم. ففي صباح أحد الأيام الحزينة من سنة 1979، استيقظ ساكنة المدينة على وقع صدمة هدم التحفة المعمارية الدينية المسيحية الوحيدة بالمدينة، الكنيسة الكاثوليكية. بدعوى بناء مقر للبريد، الذي كان مقره السابق، يشغل إحدى البنايات الكولونيالية في شارع محمد الخامس بالحي التجاري الإسباني. هدْمها بقرار تافه غير مسؤول. لجهات لا تمثل الثقافة أو التاريخ، أي مكانة في تفكيرها أو حساباتها. كانت خسارة فادحة مدوية، لحقت ذاكرة المدينة. المقبرة الكاثوليكية: وكانت توجد في أقصى الطرف الغربي، وتحديدا الجنوبي الغربي للمدينة. حيث كان يدفن المستوطنون المسيحيون موتاهم. وقد شهدت أحداثا كبرى ميزت تاريخ المدينة. لعل من أهمها، حادث إخراج جثامين بعض الجنود الإسبان، المدفونة بها، ونقلها إلى مدينة مليلية سنة 1949. كانت المقبرة من بين الفضاءات التي شهدت مرحنا وشغبنا الطفولي، بداية وأواسط سنوات السبعينيات وما بعدها. حيث كنا نقصدها ونتسلق أسوارها، ونبحث في أرجائها عن أشياء تستحق العبث والإهتمام واللعب. كنا قد ألفنا وجودها في مجال منعزل بعيد نسبيا آنذاك، عن فضاء المدينة قبل انفجارها العمراني. قبل أن نتفاجأ باجتثاثها هي الأخرى، ومحو أثرها. بعدما تم تغيير وطمس معالمها بالكامل. بصرف النظر عن وظيفتها الدينية والإجتماعية، كانت المقبرة الكاثوليكية بدورها، تمثل مَعلما تاريخيا شاهدا، وذاكرة تحدث الأجيال عن جزء من تاريخ مدينتهم. وماضيها القريب، بكل آلامه وجراحه. لكن برغم ذلك، لم يقْوَ حتى الوازع الديني، ممثلا في التسامح بين المسيحية والإسلام، الذي يميز بلادنا وديننا. والذي يستوجب من ضمن ما يستوجب، احترام والحفاظ على التراث الحضاري لكل ديانة، تجاه الديانات الأخرى. لم يتمكن كل هذا، من وقف زحف آلة التدمير من القيام بعملها. كما لم يستطع الوازع الثقافي، الذي يستوجب الحفاظ على كل ما من شأنه أن ينعش الذاكرة، ويغني الإرث الثقافي والتاريخي والحضاري للمدينة والبلاد، لم يستطع منع حدوث الكارثة. لم تستطع كل هذه الإعتبارات، الوقوف في وجه أيادي التخلف الآثمة، ومعاول الجهل الهدامة، من الإجرام في حق تاريخ المدينة. والإجهاز على مَعلمة حضارية مميزة. وتحويلها بداية، إلى مزبلة لخوردة الحديد الصدئ المتآكل. تحويلها ويا للمرارة والحسرة والعار، من تراث تاريخي ديني كاثوليكي نادر، وناطق بجزء من تفاصيل تاريخ المدينة. إلى محجز بلدي للمهملات والمتلاشيات. قبل أن تشيد فوق المكان قاعة مغطاة، ويتعرض جزء غير قليل من الوعاء العقاري، الذي كانت تحتله لأسئلة محيرة.. يا لفداحة ما يفعله الجهل المركب، والتخلف المعشش في العقول، من كوارث ومصائب، حينما يمسك أهله بزمام القرار. ويتصرفون بموجبه، بغباء صارخ، في العبث بمصير المدينة وإرثها التاريخي!! علما أن "مدلول المدينة في مصطلحها الحديث، كما يوضح أدونيس، يعني أولاً، أنها تنطوي على قيم مشتركة عامة لا تُمس، ولا يمكن العبث بها. لأنها ليست مِلكا خاصا لأحد بعينه، وإنما هي مِلك عام لجميع السكان بالتساوي.. وتعني ثانياً، أنها تقوم على الديموقراطية للمحافظة على هذا الملك العام.. وتعني ثالثاً، التوازن الكامل بين هذا العام المشترك، وذاك الشخصي الخاص، أي التوازن بين الإجتماعية والفردانية..". إنه استخفاف تام بأبسط مقومات التسامح الديني، وعبث مقزز بموروث تاريخي، هو ملك لساكنة المدينة والبلاد، وليس مِلكاً لمجلس جماعي، ظل يسير دواليبه في ذلك الزمان أميون، فاقدون للأهلية والرشد الثقافي. من عديمي المعرفة بأهمية وقيمة التاريخ والحضارة. جاء أكثرهم إلى مواقع المسؤولية وقتها، بطرق يعرفها الجميع. حتى يفعلوا بها ما فعلوه، من تخريب وتدمير وإجهاز، على كثير من علامات ومساحات، ومعالم تاريخ المدينة. مع ما يعنيه ذلك، من إحداث شرخ في ذاكرتها. علما أن "التراث هو أيضا ذاكرة. وفقدان الذاكرة، يخلق ارتباكا في المسار العام للأشياء.." كما يشرح رشيد الأندلسي. المسجد المركزي: وقد شيد في الجهة الغربية من المدينة، بجوار السوق الأسبوعي، حيث كانت تنفتح بوابته الرئيسة عليه. واعتمد بناؤه على الطراز المعماري الإسلامي المغربي. لا في صومعته المربعة المطعمة بزخارف إسلامية. ولا في فنائه الداخلي الواسع. ناهيك عن البهو الإضافي الواسع، الذي كان يحيط به من كل الجهات الأربع. والذي كان يمثل فضاء لاستراحة المتسوقين، قبل حلول وقت الصلاة. وهذا طبعا قبل أن يتعرض لاحقا، لعمليات هدم وتوسيع وإصلاح، مرات عديدة، أجهزت على طرازه المعماري الأصلي الأول. وانتهت بتجديد هندسته التي استوعبت أنماطا وأشكالا من الهندسة المغربية الإسلامية التقليدية حاليا. مرافق اقتصادية تشمل: الحي التجاري: وكان يشمل شارع محمد الخامس (حاليا) الشارع الرئيسي في عروي العهد الإستعماري، في امتداده من شارع الحسن الثاني شمالا، وصولا إلى منعطف درب اليهود جنوبا، وكل الشوارع التي تتقاطع أو تتوازى معه (شارع عبد الكريم الخطابي شارع المسيرة الخضراء شارع المجاهدين..) وكان يتكون من متاجر عديدة متماثلة عمرانيا، هندستها ناطقة بمميزات العهد الكولونيالي. شكلت امتداداً لمتاجر المستوطنين المختلفة في العهد الإستعماري (بقالات حانات وراقات مخابز محطات وقود صالات حلاقة ..). وقد ظل هذا الحي، يلعب نفس الدور التجاري تقريبا بعد استقلال البلاد. كما ظل يحتفظ بخصائصه المعمارية الكولونيالية، إلى حدود نهاية السبعينات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. قبل أن تبدأ آلة الهدم والتشويه والتغيير عملها الدؤوب. الذي طمَس الوجه التاريخي لهذا الحي التجاري، وكاد يجهز عليه تماما وبالكامل. برغم بقاء بعض المتاجر والبنايات المعدودة المحدودة، ماثلة تقاوم عوادي الزمن والمناخ، وأيادي التخريب. وهي في معظمها حاليا مشبعة بالرطوبة والهشاشة، وفي حالة سيئة للغاية، أغلبها آيل للسقوط. من دون أن يحرك ذلك ساكنا، أو متحركا، لدى المعنيين بالأمر، سواء من أصحاب القرار المحلي، أو من غيرهم.. السوق الأسبوعي: لا زال يحتل مساحة واسعة، في قلب المدينة، تثير لعاب وشهية، بل وجشع لوبي العقار المتربص. ولا زال يلعب نفس الدور التجاري القديم، مع تغييرات استوجبتها التحولات والتطورات الحالية. خاصة على مستوى طبيعة الوظائف التي كان يؤديها، موازاة مع وظيفته التجارية. ناهيك عن بعض الإضافات المعمارية المشوهة والمقززة، التي أدخلت عليه، وأدمجت خلال الثمانينيات، والتي شوهت منظره العام، وأفسدت طابعه التاريخي. نظرا لهندستها غير المتناغمة، مع شكله وطرازه ووظيفته وروح معماره. ويتعلق الأمر أساسا بسوق السمك، الذي لا لون له ولا طعم ولا جمال. لا من الناحية الهندسية ولا البيئية ولا الصحية. لقد كان ولا زال، يمثل بؤرة عفن ونفايات متراكمة، ورائحة كريهة، ومنظر عمراني كئيب ومقزز. إنه كتلة إسمنت متراكمة، تبعث على الغثيان. فاقدة لأي حس جمالي، أو ذوق معماري. لا في منظرها، ولا في طبيعة الوظيفة التي تؤديها. تفتقر إلى أبسط شروط الصحة والنظافة اللازم توفرها. وبرغم بعض خصائص العمارة الإسلامية التي ظلت تميز هذا السوق، يبقى الطابع الكولونيالي حاضرا في معماره بشكل عام. وتمثل البوابة الرئيسية، أهم معالمه البارزة. وهي اليوم تصارع الأمرين، نتيجة الإهمال الذي تعرفه، وكذا الضغط الكبير الذي تتعرض له، بفعل الإلتئام الأسبوعي للسوق. وما ينتج عنه من شدة وحدة الإحتكاك الذي تخضع له البوابة على يد المتسوقين، ووسائل نقلهم وسلعهم وحمولاتهم المختلفة. ناهيك عن نفس الدور الذي يقوم به باقي التجار خلال باقي أيام الأسبوع. ويعرف السور المحيط بالسوق، وبعض المرافق الداخلية، من قبيل متاجر الجزارين، المصفوفة بمحاذاة المذبح البلدي، إضافة إلى المتاجر الممتدة في الجهة الجنوبية، والتي ظلت منذ مدة تخصص لبعض الحرف، ولتجارة المتلاشيات. تعرف نفس المصير من الإهمال واللامبالاة، وبالتالي الهشاشة والتدمير والتشويه. فالسور تعرض للتخريب والهدم، وطمْس هويته في كثير من أجزائه، حتى أصبح مظهره مشوها لا تناسق فيه، ولا تناغم مع محيطه، ولا حتى مع بوابته التاريخية. ودكاكين الجزارين بلغت درجة من الإهتراء والسوء والتردي، نتيجة الإهمال المطلق. ما جعلها تتداعى وتتآكل وتحتضر. وقد تحتجب وتختفي عن المنظر العام للسوق، في القريب المنظور. كما اختفت الكثير من المعالم التي كانت تؤثث السوق، والتي عهدناها خلال سنوات الستينيات والسبعينيات، مثل دكاكين بعض الحرفيين (الحلاقين..) التي كانت مصفوفة عند مدخل البوابة الشرقية، المنفتحة على المسجد المركزي، وكذا الحظائر التي كانت ممتدة على جانبي البوابة نفسها. والتي كانت تؤوي الدواب، الوسيلة الأساسية لتنقل القرويين وقتها، من المداشر المحيطة بالمدينة، إلى سوق "الحد" الأسبوعي آنذاك. إنه برغم ما يستوجبه التطور الذي تشهده المدينة، ونموها العمراني حاليا، من ضرورة نقل هذا السوق الأسبوعي إلى أطراف المدينة ومحيطها. بالنظر لما أصبح يمثله من مصدر تلوث، وعرقلة لحركة المرور بها. وإزعاج لساكنتها المجاورة له. وبرغم ثقل رمزيته، وقيمته التاريخية والإجتماعية. فهناك ضرورة ملحة اليوم، تستوجب على الأقل، الإبقاء على جانب من إرثه المادي، متجليا في بوابته التاريخية. وبعض مرافقه الداخلية وأجزاء من أسواره، وترميمها وتأهيلها، صيانة للذاكرة والإرث التاريخي. والعمل على الإستثمار الأمثل لوعائه العقاري الضخم، المتمركز في قلب المدينة، في خدمة تطلعات شباب المدينة وانتظاراتهم المختلفة. إن على المستوى الثقافي أو الرياضي أو الإقتصادي أو الإجتماعي.. ملحوظة: (في الوقت الذي كان فيه هذا المقال المتواضع مكتملا جاهزا للنشر، اتخذ قرار تجميد أنشطة هذا السوق الأسبوعي، ونقله مقره خارج المدينة، إلى جماعة بني وكيل اولاد محند المجاورة، والشروع في إقامة بعض المرافق كسوق السمك فوق الوعاء العقاري الذي كان يحتله. مما استوجب التنويه إلى ذلك) بقايا محطة القطار والسكة الحديدية: كان العروي خلال العهد الإستعماري، مَعبرا للخط السككي القادم من الدريوش، والواصل إلى مدينة مليلية، مرورا بسلوان والناظور. فقد كانت تتوفر به محطة للقطار ومختلف المرافق الملحقة بها، من مخازن للسلع ورصيف المسافرين. وكانت تتموقع شمالا، خلف مركز القوات المساعدة السابق.. قبل أن يتم الإجهاز عليها، بعد استقلال البلاد. وقد ظل المعبر السككي، الذي كان عبارة عن مسلك طولي، مرتفع نسبيا ومنزوع السبائك، ممتدا من المكان الذي كانت تشغله محطة القطار المذكورة، خلف مقر القوات المساعدة السابق، ومتجها شرقا بشكل منحرف عن واد ياو، نحو الشمال الشرقي. في اتجاه مدينة سلوان، ومنها إلى مدينة مليلية. كان إلى عهد قريب، بارزا شاهدا، يحكي عن معلمة اقتصادية كانت في المكان. وكان ساكنة المدينة وقتها، في تنقلهم إلى واد ثياوث، يمرون على طول هذا المسلك. قبل أن يتم محو أثره بالكامل وبشكل نهائي. وتحل محله كتل إسمنت متراص. وقد يكون من حسن حظ المدينة، أن أحد أحيائها لا زال يحمل إسم حي السكة، في إشارة إلى الخط الحديدي الكولونيالي المذكور، برغم الإندثار والإختفاء الكلي للمحطة والسكة معا. وهو ما يمثل إنعاشا مستمرا للذاكرة، حتى وإن كان ذلك بشكل شفوي رمزي. ولا زالت بعض المرافق والبنايات التي كانت ملحقة بمحطة القطار، موجودة تقاوم التآكل والإهمال وعوادي الزمن. وهي مدفونة وسط تكتلات الإسمنت والبنايات السكنية الحديثة. فيما يشبه مخابئ أو ملاجئ، لا تصلها حتى أشعة الشمس. تتكدس داخلها بعض الأسر تكدسا. ولا أحد يعرف وضعها العقاري الفعلي بالتحديد، ولا طبيعة ملكيتها الحالية. تتوفر على مدخل، هو أشبه بكهف منسي في أقصى شرق شارع الزهور، شمال مقهى المواعيد. الضيعات الفلاحية: كانت مدينة العروي محاطة بكثير منها، أغلبها كانت في ملكية المستوطنين الإسبان. تمتد في كل الإتجاهات، وبخاصة جنوبا وغربا وشمالا، تحيط بها السياجات والأسوار وتزين مداخلها بوابات كبيرة، تنتمي إلى الهندسة الكولونيالية. بل إن بعضها كان متاخماً لأحياء المدينة. قبل أن تتداخل معها بعد استقلال البلاد. وتختفي تدريجيا من المشهد منذ السبعينات والثمانينات، بفعل كثافة الهجرة القروية، والنمو العمراني السريع، والتمدد الحضري غير المتحكم فيه للمدينة، والإرتفاع الجنوني لأسعار العقار. ولعل من أشهر تلك الضيعات، التي أصبحت متداخلة مع أحياء المدينة، بل تشكل جزءا منها، والتي لا زالت بعض معالمها تقاوم عوامل التخريب، ضيعة فلامينكا La Flamenca التي مَنحت إسمها، في وقت من الأوقات، لكامل المنطقة المحيطة بها. حتى أصبحت دلالة اللفظ تعني حيّاً بكامله، يوجد غرب المدينة في اتجاه بلدة تزطوطين )حي فلامينكا(. وقد استمدت هذه الضيعة إسمها زمن الإحتلال الإسباني، بحسب ما ذكره السيد فرانشيسكو باريو، من كون المنطقة كانت تعرف عبور طيور النحام الوردي )الفلامنكو( Flamengo المهاجرة، فأختير لها إسم La Flamenca، المشتق من إسم هذا الطائر نسبة إلى ذلك. وعلى سبيل الإشارة، فلا زال هذا الطائر المهاجر، يتردد على المنطقة إلى الآن، وخاصة بمنطقة مرشيكا، التي يقضي بها جزءا من رحلته الطويلة، حيث أقيمت محمية خاصة به، وبأصناف أخرى من الطيور المهاجرة والمستوطنة بسبخة بوعرك. وإن تسمية هذه الضيعية ودلالتها في حد ذاته يثير، على سبيل الإشارة، مسألة أخرى غاية الأهمية، تخص جانبا مهما من تاريخ وتراث المدينة. ويتعلق الأمر بالتعاطي مع رصيدها الكبير والزاخر، من تراثها الطوبونيمي Toponymie الكولونيالي الغزير. الذي لا زال عالقا بالذاكرة الجماعية للساكنة، ويختزل أحداثا وتطورات عديدة. والذي لا زالت بعض الأماكن والمواقع والفضاءات والمؤسسات ناطقة به. حاملة لكثير من الأسرار والأحداث التي عاشتها وشهدتها المدينة والمنطقة المحيطة بها ككل. من قبيل: "فلامينكا"، "فابريكا"، "كرانخا"، "ديدينسيا"… وهو تراث يستوجب بحثه واستنطاقه، قبل اختفائه وتلاشيه وانمحائه من الذاكرة. وذلك بهدف إغناء تاريخ المدينة، وإزاحة بعض الغبار عن جوانب العطب والغموض فيه. كانت البنايات الملحقة بضيعة "فلامينكا" وغيرها من الضيعات، تمثل مَعالم معمارية واقتصادية تاريخية، تحكي جانبا من قصة الإستيطان الزراعي بالمنطقة إبان العهد الإستعماري الإسباني. وكان أصحابها من النفوذ ما كان يجعلهم، يملكون سلطة القرار داخل المدينة. واليوم، وبعد الإختفاء الكامل لمثيلاتها، تتوارى هذه المعلمة تدريجيا خلف البنايات العشوائية، التي تزاحمها وتلتصق بها كالقُراض. بل وتحتل واجهتها الأمامية ببشاعة، وكأني بها تصر على إخفاء رونقها، وجماليتها، وقيمتها التاريخية. ربما تمهيدا للإجهاز عليها وتدميرها كليا. علما أنها تمثل بعض آخر وأنذر مخلفات الإستيطان الزراعي الكولونيالي المادية بالمدينة، والتي لا زال معمارها يتميز بنوع من الجودة والمتانة والجمال، ناهيك عن القيمة التاريخية. وقد شهدت معالم كثير من الضيعات الفلاحية المحيطة بالمدينة، إجهازا وتدميرا شاملا، برغم بقاء بعض الشواهد ناطقة تحكي جوانب من الإستيطان الزراعي بالمنطقة. مرافق اجتماعية: الأحياء السكنية: شكل "درب اليهود"، الذي عرف في العهد الإستعماري ب "منازل الشركة" Casas de la campania نموذج المرافق السكنية المتماثلة والمتناسقة. وكان يمتد من شارع محمد الخامس شرقا، إلى مشارف ملعب مولاي رشيد غربا، لينعطف نحو الجنوب الغربي، في اتجاه المقبرة الكاثوليكية. فهو بذلك كان يمثل شريانا يربط المدينة، وخاصة الكنيسة المسيحية، بالمقبرة الكاثوليكية القصية عن المدينة. وإلى فترة نهاية السبعينيات، ظل هذا الدرب يحتفظ بهندسته الجميلة، التي تميزها البساطة وتعدد الأقواس الناتئة من البنايات، والتي تضفي على المنازل المصفوفة في شكل طولي، تناغما وتماثلا وجمالا. واليوم يشهد هذا الدرب احتضارا وموتا سريريا، ناتجا عن هجوم معاول التدمير والإسمنت المسلح. التي اجتثت جميع المساكن والبنايات التاريخية لهذا الحي تقريبا، بقسوة وعنف. وما بقي منها على قلته، هو آيل للسقوط، ومعرض لأشكال التغيير والتشويه والطمس.. الحديقة العمومية Parque: وكانت توجد قبالة المسجد المركزي في جهته الشرقية، وقد شيدت سنة 1950، وضمت أنواعا من النباتات والأشجار، تتوسطها بناية صغيرة كانت وقتها عبارة عن حانة ملحقة بها. إضافة إلى منصة مرتفعة دائرية الشكل، تنتصب على هوامشها أعمدة إسمنتية، متماثلة الإرتفاع، هي عبارة عن مكان لإقامة الحفلات. وقد استغل بعد استقلال البلاد، جزء من وعائها العقاري المقابل للمسجد المركزي، لبناء مقر جماعة تزطوطين، قبل ترقية مدينة العروي سنة 1992 إلى جماعة حضرية. ليتم الإجهاز لاحقا، على جزء آخر من فضاء هذه الحديقة الإسبانية، بعد إعادة بناء وتوسيع مقر البلدية على حسابها. واليوم يحتل مقر بلدية العروي الجزء الغربي منها، بينما اتُخذ القسم الشرقي في البداية كمحجز بلدي. ثم كمرآب لسيارات وشاحنات ومتلاشيات البلدية فيما بعد. حيث أصبح المكان يعرف فوضى عارمة، نتيجة تكدس المتلاشيات والمهملات، غير المستعملة في أغلبها. أتذكر كيف تعرض المكانفي نهاية السبعينات، قبل حدوث هذه التطورات على الحديقة، يوم كان يحتفظ ببعض رونقه وبهائه وبريقه وعبقه التاريخي، كيف تعرض لعملية طمس وتشويه وتغيير لأصله وشكله الكولونيالي. بفعل ما زُعم وقتها أنها أشغال تحويل المكان إلى مقهى ترفيهي. ومقر لفريق "لوطا" لكرة القدم، الذي كنتُ وقتها لاعباً في صفوفه، وعمري آنذاك سبعة عشر عاما. مع أن قرار القيام بهذا التدخل في هذا المعلم التاريخي يومذاك، لم يكن صادرا لا على جهة منتخبة، ولا على سلطة وصية. بل كان تدخلا فرديا عشوائيا لأحد النافذين وقتها. مما أخل بطابعه وقيمته التاريخية إلى حد بعيد. وفي سياق تفسير أسباب هذا التدخل، لا يمكن استبعاد الاعتبار المرتبط بقيمة العقار المعني وأهميته، بالنظر لموقعه الحيوي في قلب المدينة. وهو ما يسيل له اللعاب. خزان المياه Posito : وكان يتمركز على السفح الشرقي للتلة المرتفعة "ثعرورث" El Monte، التي استمدت منها المدينة اسمها، كما تذهب بعض الروايات. وتحديدا غرب المقر القديم للمكتب الوطني للكهرباء، (طبعا ليس المقصود خزان المياه الحالي، الموجود عند قمة التلة). وكان يزود الأحياء السكنية والتجارية، بالمياه المضخوخة عبر القنوات من بعض الآبار، الموجودة بالمنطقة التي يشغلها حاليا حي وزاج. والتي كانت وافرة المياه وقتها. واليوم اختفت معالم الخزان بشكل كامل، وحلت محله بنايات سكنية وتجارية. غابة الكاليبتوس: لايمكن استثناء المجالات الخضراء، من سياق الحديث عن التراث الكولونيالي بالمدينة. فهي كانت مكملة للأحياء السكنية والتجارية، ومتنفسا لساكنتها، وطوقا بيئيا يلطف أجواءها. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى غابة الكاليبتوس، التي كانت تغطي مجالا واسعا، ممتدا جنوبالمدينة، فوق القسم الأكبر من التلة التي تستمد منها هذه الأخيرة إسمها، وصولا إلى واد وزاج. كانت بمثابة متنفس بيئي، يمثل امتدادا طبيعيا للمدينة، وإرثها المعماري الكولونيالي. كنا ونحن صغارا، نقصدها للعب واللهو واصطياد الطيور والبحث عن أعشاشها والعبث بها. وكانت من الكثافة، ما كان يجعلنا نهاب التغلغل في أعماقها، فنكتفي بالتحرك على أطرافها. وفي بداية الثمانينيات اجتثت الغابة بالكامل، وتحولت إلى كومة أخشاب متراكمة، وأراض وعقارات عارية تماما. شهدت زحفا معماريا جنونيا سريعا، حولها بالكامل وفي ظرف قياسي، إلى غابة إسمنت متراصة، أو بالأحرى إلى حي صناديق إسمنتية مغلقة، وتراكمات عمياء. لا أثر فيها لمتنفس بيئي أو جمالي أو فني. وإن التعاطي مع الفضاء بهذا الشكل القاسي، أي تحويله بالكامل من متنفس أخضر، إلى مساحات شاسعة للبناء الأصم الأبكم. اعتمادا على هندسة الآجور والإسمنت المسلح، ليُعتبر بتعبير أدونيس، "نوعا من تدمير فضاء المكان، إنه نوع آخر من استهلاك المكان. وليس المكان خارج الإنسان، وإنما هو داخله. ولهذا فكل عبث بالمكان، إنما هو عبث بالإنسان نفسه". وقد ساهم مثل هذا الزحف الذي عرفته المدينة على فضاءاتها الطبيعية والتاريخية، إلى أن ينسحب على العروي وصف أدونيس لبيروت: "مشهدٌ لا مدينة.. لأنه لا إنسان حيث لا طبيعة.!" مرافق ثقافية : المدرسة الإسبانية : التي احتلتها بعد الإستقلال مدرسة ابن زيدون، ضمن عملية واسعة من عمليات الإستغلال الوظيفي. التي قامت بها الدولة في أغلب المدن، لكثير من المعالم الكولونيالية في عدد من القطاعات، كأول مدرسة ابتدائية عمومية بالمدينة. والتي ظلت تحتفظ بهندستها التاريخية، وبعض تجهيزاتها، قبل أن يتم طمسها وتغيير كثير من ملامحها الداخلية والخارجية، ومعالمها القديمة بالكامل، بفعل عمليات الترميم العشوائية المتعاقبة. قاعة السينما : ظلت تمثل مَعلما ثقافيا يتيما موروثا عن العهد الكولونيالي بالمدينة، وتؤدي وظيفتها الترفيهية، قبل أن تجهز عليها كما أجهزت على غيرها، التطورات التقنية المتسارعة التي شهدها مجال الإتصال، ومنها الإنتشار الواسع للوسائل السمعية البصرية الحديثة.. كان شباب المدينة وأبناء الدواوير والمداشر المحيطة، يقبلون عليها بشغف كبير منقطع النظير. حتى أن عملية اقتناء تذكرة الدخول قبل انطلاق عرض الفيلم، لم يكن أمرا هينا ومتيسرا آنذاك. فقد كان شباك التذاكر اليتيم، يعرف تزاحما وتدافعا كبيرين، وأحيانا نشوب خصومات بين المرتادين، وخاصة خلال أيام السبت والأحد. حيث كانت المدينة تستقبل أفواج القادمين منهم من المناطق القروية والفلاحية المحيطة للتسوق. وكانت الأفلام الهندية، وأفلام الكاراتيه الصينية، والأفلام البوليسية خاصة الفرنسية منها، أكثر ما يُعرض في القاعة. لقد ظلت هذه القاعة اليتيمة، من خلال ما يعرض فيها من أفلام، وكذا ما ينظم بها بين الفينة والأخرى، من سهرات فنية وترفيهية، أداة ربط شباب المدينة بالعالم، بل أداة بلورةٍ وتشكيلٍ لوعيهم وثقافتهم إلى حد بعيد. بالنظر إلى أنها كانت تمثل طيلة ذلك الزمن، المَعْلم الثقافي الأساسي بل الوحيد بالمدينة، إلى جانب المدارس الإبتدائية المعدودة. وقد كانت أيضا، بمثابة ذاكرة لجيل الستينات والسبعينات والثمانينات. واليوم قد أغلقت هذه القاعة أبوابها، واستسلمت لقدرها المقدر، واستكانت لمصيرها المحتوم، وهي تعرف تآكلا حثيثا، وهشاشة وتدهورا كبيرا. حتى أنها قد أصبحت آيلة للسقوط والهبوط. أمام مرأى ومسمع الجميع، من دون أن يحرك الأمر ساكنا.. مرافق مختلفة: المقر القديم لمركز القوات المساعدة: كان هذا المَعلم يمثل تحفة معمارية كولونيالية جميلة، واقعة على طول الشارع الرئيسي للمدينة. استغل لسنوات طويلة وظيفياً، كمقر لمركز القوات المساعدة. تعرض خلالها، لعمليات "ترميم"، شوهت ملامحه الهندسية الأصلية، وغيرت ملامحه التاريخية الجميلة بشكل تام. وبعدما تم نقل مركز القوات المساعدة، إلى المقر الجديد، بجوار الباشوية، تعرض لعملية نهب لتجهيزاته )نوافذ – أبواب..( في وضح النهار. تمهيدا ربما لهدمه والتصرف في وعائه العقاري، الذي يسيل له لعاب لوبي العقار. بالنظر لموقعه وقيمته التجارية بالغة الأهمية. ولولا يقظة وتدخل بعض فعاليات وجمعيات المجتمع المدني على الخط، عبر الإحتجاج والتنديد، لكان مصيره مُشابها لمصير الكثير من المعالم والشواهد الأثرية الكولونيالية، التي شوهت ثم اجتثت بل ودفنت دفنا. في استخفاف تام ومقزز بموروث المدينة التاريخي. ومع ذلك فقد كان مصيره إتلاف هويته التاريخية ببشاعة، بعدما حل الإسمنت والآجور محل أبوابه ونوافذه الجميلة، ليتحول إلى بناء ميت، بلا شكل ولا هوية ولا روح، ولسان الحال أبلغ من المقال. النصب التذكاري : وهو عبارة عن بناء مربع الشكل تتمظهر فيه بعض خصائص الهندسة المعمارية الإسلامية، من حيث شكل الإعمدة والأقواس والزخرفة، كان يقع شمال شرق المقر القديم لمركز القوات المساعدة. ولعل أكثر ما كان يثير فضولنا فيه يومها ونحن صغارا. هو قدوم زوج من اللقالق سنويا إليه، للتعشيش فوق سقفه. قبل أن يتم مسحه من على الخريطة مسحا، من طرف أدوات الجهل والتخريب، لتحل محله تراكمات الإسمنت البشعة. مركز مراقبة واد ثياوث: وهو عبارة عن بناية كولونيالة، منتصبة على الضفة اليسرى لواد ثياوث، ومطلة على السواقي الممتدة على قعر النهر، المخصصة لتوريد خيود الجنود الإسبان. كانت مهمتها مراقبة وتنظيم هذه العملية وقتذاك. وظلت هذه البناية محتفظة بمتانتها وخصائص معمارها الكولونيالي ورونقها، إلى حدود نهاية السبعينات. لكن إهمالها وتهميشها، ناهيك عن موقعها المنعزل عن المدينة، جعلها ملجأ للمشردين والمتسكعين والعابرين للمكان، خصوصا أن موقعها مجاور للطريق الرئيسية رقم 36 العابرة للمدينة. مما أفقدها جمالها وطابعها الأصيل، وقد بلغت من الهشاشة والسوء، ما جعلها آيلة هي الأخرى للسقوط في كل حين. ملاحظات وتوصيات ما أكثر المعالم التاريخية، ذات الطابع الإقتصادي والأمني والإجتماعي، التي كانت تغص بها هذه المدينة الكولونيالية العروي. والتي إما تم الإجهاز عليها كليا، أو في أحسن الأحوال تخريبها وتشويهها. والتي لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولذلك فقد اكتفينا فقط، باستعراض بعض المعالم التي عايشناها في طفولتنا وصبانا، والتي شهدنا وشاهدنا انتصابها في سماء وفضاءات المدينة، ونحن آنذاك صغارا قاصري السن والفهم، محدودي المعرفة والإدراك بقيمتها التاريخية والحضارية. كما شهدناها وهي تطمس طمسا، وتذبح وتجتث اجتثاثا أحمق، بغباء صارخ وجهل باذخ. على يد من يُفترض أن يكونوا حماتها، من القائمين على شأن المدينة المحلي، وغيرهم من بعض الساكنة. وحتى التي نجت منها، طالها التشويه والتغيير والعبث والمسخ. هذه المعالم والشواهد التاريخية الكولونيالية، التي كانت المدينة زاخرة بها إلى عهد قريب، هي نفسها التي أثارت أشجان السيد فرانشيسكو أرينازا وأحزانه، ومعه أشجان كل الغيورين على الثقافة والإرث التاريخي للمدينة. نتيجة ما لحقها من إهمال وتخريب وإجهاز ومحو، وربما حتى سطو. أثارت أشجان مواطن منحدر من الضفة الشمالية، لا يربطه بالمدينة سوى حبل حب قديم، وعشق متجذر متقادم. في الوقت الذي لم تتحرك فيه طرفة عين مَن كانوا سبب هذه المذبحة الثقافية. فقد برهن الرجل أنه أكثر وفاء وإخلاصا وغيرة على المدينة، من بعض أبناء جلدتها. لكن، قد يقول قائل، أن الرجل إنما أغدق على المدينة من حبه وعشقه، بالنظر إلى حنينه إلى عهد استعماري استيطاني بغيض ولى وأدبر وانتهى. فقد يكون في الأمر شيء من الصحة، لو كان في ماضي الرجل، ما يشي بما له علاقة بذلك. ولكن واقع الحال يؤكد أن الرجل، لم يكن أبدا مستوطنا مكتمل الأركان، يوم رحل عن المدينة، وخلفها وراء ظهره. حتى يأسف على ذلك، ويحن إلى مدينة كان ينتفع من خيراتها ومزاياها. ولكن الرجل كان يربطه ويشده إلى المدينة حب طفولي راسخ إلى مراتع الصبا، التي فتح فيها عينيه، وقضى بها أجمل أيام طفولته البريئة. فهو لم يكن قد بلغ أشده بعد، يوم غادر المدينة رفقة أهله، بعد نهاية مرحلة الوجود الإسباني في البلاد. حاملا معه بين ضلوعه وجوانحه، عشق المدينة وذكرياتها الجميلة. فظلت ربوعها وفضاءاتها وأشخاصها وأهاليها، ظل كل ذلك عالقا بذهنه وروحه وكيانه. ولا عجب أن تتحرك اليوم مواجعه وحنينه، حتى وهو قد أصبح شيخا طاعنا في السن، وبلغ من الهرم عتياً، إلى ماضي المدينة التليد، قبل أن تمتد إليه وتعبث به أيادي الجهل والتخريب. ويتعرض للمد الأعمى وللزحف العمراني الجشع، الذي لا يُبقي ولا يذر. برغم أن الرجل لا يربطه بالمدينة سوى كونها مسقط رأسه، ومرتع طفولته، خلال عهدها الإستعماري البائد. فالرجل أحب المدينة وعشقها بشكل جارف، ولذلك كان حبه وعشقه لها، أقوى حتى مما كان يُكنه لها، بعض أبنائها العاقين، من عديمي الوفاء والإعتراف لها بالجميل. ممن توالوا على تحمل مسؤولية تدبير شؤونها المحلية، من ارتباط منفعي واهتمام مصلحي ضيق ليس إلا. وتحديدا من الذين عاثوا فسادا وخرابا، في ذاكرتها وإرثها التاريخي، عن جهل وغباء أو إصرار وترصد. لقد قدم الرجل بارتباطه وهيامه الكبير بالمدينة، درسا لكل الضمائر المريضة السقيمة، التي يُحركها ويَحكمها الجهل واللامبالاة. درسا في كيفية الوفاء بحب هذه المدينة الرائعة، والغيرة على جمالها ومعالمها ومرافقها، التي تمثل الفضاء الجميل، الذي يحضن جميع ساكنتها بدون تمييز. رغم اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم وألوانهم ومستوياتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم. ويتسع بسخاء نادر، لأفراحهم وأقراحهم وآلامهم وآمالهم وأوجاعهم. ويتحمل بصبر وأناة، حماقاتهم وتفاهاتهم وتجاوزاتهم. قدم الرجل، رغم رحيله عن المدينة منذ مدة ليست بقصيرة، وانفصاله الجسدى عنها، درسا في كيفية الإستمرار في الإغداق على المدينة التي احتضنته بدفئها لسنوات معدودات، بمَدد الحب والرعاية والعرفان، طول مشوار حياته. فقد عشقها عشقا جارفا، ولا زال هذا الحب يأخذ بتلابيبه، حتى وهو متغلغل في سن الشيخوخة بأميال وفراسخ..! فلنتعلم جميعا، من درس السيد فرانشيسيكو أرينازا، كيف نحب مدينتنا ونتعلق بها، بل كيف نعشقها ونهيم بها. ولكن أن نحبها، يعني قبل كل شيء، أن نمنحها جزءا من كياننا، وكثيرا من اهتمامنا وعنايتنا، وغير قليل من وقتنا. أن نعشقها، يعني أن نبذل لها الرعاية والإهتمام والعناية. وأن نحافظ عليها، ونصون معالمها وشواهدها العمرانية التاريخية. ونحمي فضاءاتها ومؤسساتها المختلفة. ونعمل على ترقيتها وتنميتها وتجميلها وتنظيمها وتنظيفها.. حتى نجعل منها ذلك الفضاء الجذاب الساحر، للعيش المشترك المُتساكن المطمئن للجميع. إن المذبحة الثقافية المخزية، التي تعرضت لها المعالم العمرانية التاريخية الكولونيالية بالعروي، عبر فترات متتالية، بداية من الستينات. وتعرية المدينة بل تجريدها بالكامل تقريبا، وخاصة خلال السبعينات والثمانينات، من جزء لا يستهان به من إرثها التاريخي، وذاكرتها الثقافية الجماعية. في غياب من ينتصب وقتها للدفاع عنها، ويشملها بالمرافعة والإحتجاج، وخوض معارك البقاء والوجود. في ظل غياب متطوعين بررة وقتها، يذودون عن مدينتهم غوائل القرارات العرجاء، يوم كانت الأمية والجهل يجثمان على أكثرية أبنائه وشبابها. يوم كانت مسالمة مستسلمة عزلاء، بلا قوة ممانعة تصد عنها غباوة الأغبياء، ولا فريق دفاع، يتولى دفع القرارات السخيفة والتافهة عنها. يوم كانت مكشوفة بالكامل، تحت رحمة عمليات تخريب وتدمير، على يد كائنات مدججة بالأمية والجهل المركب. ومعتدة بمواقعها الإنتخابية المغشوشة. يوم كانت وحيدة في مواجهة جحافلهم وقراراتهم العمياء، المليئة بالغفلة واللامبالاة. يوم كانت في مواجهة عقوق بعض أبنائها المستقوين بالسلطة وزمام القرار المحلي. إن كل هذا، ليمثل غصة حارقة، وألما متغلغلا في نفوس كل الغيورين على المدينة، وعلى ماضيها الغني بالبطولات والأمجاد. وحاضرها البئيس التعيس، المبتور تقريبا من هذا الإرث التاريخي. ومستقبلها غامض المعالم، الذي ينذر بكثير من المشكلات الحضرية المتفاقمة. غصة ناجمة عن وقوع "أكبر عملية "سرقة" تعرضوا لها، وهي سرقة الذاكرة..!" بتعبير محمد فجري. سرقة جزء من إرث المدينة المادي المكون لتاريخها. وتأتي فداحة هذه السرقة الرمزية من فداحة الخسائر المترتبة عنها، ومن استحالة استعادة المسروقات أو استرجاعها. مما قد يكون له الأثر الكبير في إحداث فراغات وفجوات، في تاريخ المدينة العام، وتاريخ معمارها الكولونيالي تحديدا. وبالتالي ثقوبا وندوبا في ذاكرتها، وأجزاء من سياقها التاريخي. ذلك لأن عملية التدمير والإتلاف التي تعرض لها المعمار المذكور هي ، بتعبير الدكتور محمد المدلاوي، "عملية تخريب تفوق الهدم الفيزيقي بالمعاول على الأرض، لأنها تستهدف الماهيات في الذاكرة". إنها إقصاء واجتثاث لمعالم وملامح تاريخية، مشكلة للهوية والثقافة والتاريخ. وإن هذا ليؤكد أن تدبير شأن المدينة المحلي وقتها، كان قد شهد فعلا منذ البداية، عبور بعض الكائنات المجردة من حس المسؤولية والغيرة. كائنات فاقدة للحس الثقافي والتاريخي، وعابثة برموز المدينة الثقافية والتاريخية، والتنموية إجمالا. ذلك أنه لم يحصل في تاريخ دورات المجلس العديدة، أن بَرمج القائمون على شأن المدينة المحلي منذ عقود، أو أدرجوا نقاشا ينصب حول حالة المعالم التاريخية والثقافية عموما بالمدينة. وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا التراث المادي، الآيل للزوال والأفول. والعمل على ترميمه وإنقاذه وتثمينه والتعريف به. مع أنهم ظلوا يَنظرون بلامبالاة وإهمال، إلى بقاياه تتآكل وتتهاوى وتُشوه أمام أعينهم. من دون أن يحرك فيهم ذلك ساكنا. بل كانوا يساهمون في الإجهاز عليه بشكل مباشر، من خلال منح رخص الهدم والبناء، التي أتت على الكثير من المعمار الكولونيالي فدكته دكاً. ولا عجب، فالثقافة هي آخر ما يُفكر فيه في هذه المدينة، وخاصة منها ذات البعد التاريخي. وهو ما يمثل مبعث تساؤلات واستفهامات عديدة لا تنتهي. فربما قد يكون الباعث والدافع إلى مثل هذا التهميش واللامبالاة التي شهدها الإرث العمراني الكولونيالي بالمدينة، نابعا من حساسية النبش في هذا الملف. وهو الذي يكون قد شهد عمليات عبث وتلاعب محتملة. فلا تزال لحد الآن، بعض الأسئلة المحيرة والمقلقة مطروحة، بشأن مصير بعض الأوعية العقارية، التي كانت تحتلها المعالم الكولونيالية، والإجهاز الذي تعرضت له، وكيفية انتقال ملكية بعضها. علما أن وضعيتها القانونية بعد الإستقلال، كانت تقضي بأنها في معظمها داخلة في حكم الأراضي والعقارات المسترجعة. وقد تكون طبيعة الوضعية العقارية غير المحفظة للأراضي التي كانت خاضعة للإسبان في مجموع المنطقة الخليفية بالريف، قد ساهمت بشكل أو بآخر، في الغموض والتعقيد الذي طال مصير بعض الأراضي والعقارات الكولونيالية بالمدينة والإقليم ككل. والتي من غير المفهوم كيف انتقلت ملكيات كثير منها. في وقت كان فيه الوضع العقاري في عموم الإقليم، وضعا مهلهلا، ومفتوحا على جميع أشكال التلاعبات والعبث. خاصة بعد رحيل الإسبان، مخلفين وراءهم فوضى عقارية عارمة، فيما يخص التسجيل والتحفيظ وإثبات الملكية. وهو ما يفسر الملفات والقضايا الكثيرة التي طرحت بشأن الترامي على مِلك الغير. وقد كان هذا العامل وحده، كافيا ومحفزا لقيام أشكال التهافت على كثير من العقارات والأراضي على الصعيد الإقليمي. كما قد يكون شهد آنذاك، تواطؤ بعض المسؤولين والمتدخلين وقتها. وهو ما يستوجب اليوم ربما، فتح ملف العقارات المنتمية إلى العهد الكولونيالي، والتدقيق في وضعيتها السابقة والحالية. وبالتالي، إن اقتضى الحال، فتح ملف محاسبة من ثبت تقصيرهم أو تورطهم، في كل ما قد يكون لحق هذا الإرث، من تدمير وإجهاز وعبث. إن السؤال المحير في الأمر أيضا، هو ما الذي جعل المفتشية الجهوية للمباني التاريخية بعد استقلال البلاد، تغط في نومها العميق. يوم كانت المباني الكولونيالية تُدك وتهدم بقسوة، وتتساقط تساقط أوراق الخريف. لتُحول إلى مبان بائسة باهتة القيمة والأهمية. وليس مؤكدا ما إذا كانت قد قامت وقتها أصلاً، بجرد وإحصاء لتلك المباني التاريخية الكولونيالية، وإدراج ذات القيمة التاريخية والأهمية الفنية والمعمارية منها، ضمن التراث الوطني المشمول بالحماية. ولكن لا عجب، فالدولة نفسها قد تواطأت منذ البداية على تهميش هذه المعالم، عبر تقاعسها ولا مبالاتها بالمعمار الكولونيالي عموما، وعدم اكتراثها بصيانته وحمايته. بل وتعاملت معه منذ البداية "بطريقة وظيفية، وليس باعتباره تراثا إنسانيا.. وجب الحفاظ عليه وصيانته وتصنيفه في عداد الآثار"،كما يبرز عبد السلام الصروخ. حيث قامت مؤسساتها المختلفة، باحتلال بناياته منذ البداية، واتخاذها مقرات لها، أو لمصالحها المختلفة، أو مساكن لمواردها البشرية. أو وضعَته رهينة في يد المنعشين العقاريين، ومختلف المتدخلين في مجال التعمير، الذين حولوه إلى صناديق إسمنتية بشعة. مع ما يعنيه ذلك، من تعريض هذه المعالم للتلاشي والإندثار والتآكل. وهو نفسه المصير الذي لقيته بعض المعالم الكولونيالية بالعروي، كما كان حال المَعْلم الجميل، الذي احتله مركز القوات المساعدة في السابق، والذي تم مسخ معالمه الأصلية عبر "الترميمات" العشوائية العديدة، التي تعرض لها خلال السنوات الماضية. قبل أن يتم الإجهاز عليه تقريبا بالكامل، بعدما تم نقل مركز القوات المساعدة إلى المقر الجديد بجوار الباشوية كما سبق. حيث بوشرت عملية هدمه ببشاعة، وبشكل يثير الريبة. مع أن هذا القرار، أي الهدم، لم تكن أي ضرورة تدعو إليه، ولا كان قد صدر عن جهة مَعنية أو مؤهَلة. بل كان قرارا عشوائيا فرديا تلفه الشبهات، وتحيط به الشكوك. بالنظر لقيمة الوعاء العقاري للمركز بالغ الأهمية، الواقع في قلب المدينة. ولولا احتجاج فعاليات المجتمع المدني بالمدينة، التي تمكنت من إيقاف عملية الهدم الكامل، الباطلة وغير المشروعة. التي كانت قد باشرتها جهات لا سلطة لها على المَعْلم، المندرج عقاره ضمن الأملاك المخزنية، لكان قد أصبح في خبر كان. ولكن، لئن تمكنت هذه الفعاليات الجمعوية المدنية بالمدينة مشكورة، من وقف عمليات الهدم الكلي للمَعْلم المذكور، فإنها للأسف لم تتمكن من إيقاف عملية المسخ والتشويه، الذي تعرضت له هوية المبنى وشكله وروحه. حيث أصبح مبعث نفور وتقزز. بعدما كان منبع جمال وجاذبية. فقد تم بتر أجزاء نفيسة تاريخيا من مكوناته كالنوافذ والأبواب، وتعويضها بجدران الآجور المبلط بالإسمنت الخشن، بشعة المنظر والمظهر. وعليه، ما أحوج المدينة إلى اصطفاف أبنائها وانتظامهم بهدف قيامهم، كما يقول يحيى بن الوليد متحدثا عن الدارالبيضاء : "بالتصدي لِ 'الهَضْمِ' أو النزيف المعماري الذي أخذ يفترس المدينة، على النحو الذي ينال من ذاكرتها". وخاصة ما يتعلق مما بقي من النزر القليل من الإرث الكولونيالي. ونفس عملية الإحتلال النفعي الوظيفي، تعرضت لها أيضا المدرسة الإسبانية بالمدينة El Colegio Espagnol، حيث أصبحت مقرا لمدرسة ابن زيدون. وكذا المَعلم الذي يحتله مركز الدرك الملكي، وغيرها من المقرات، التي إن لم تُجهز على هذه المعالم، فقد طمست صورتها وهويتها الكولونيالية الأولى إلى الأبد، وأفقدتها شكلها ووجهها التاريخي.. بهذه اللامبالاة تميز منهج الدولة عندنا، في التعاطي مع التراث المعماري الكولونيالي. مما عرضه لأشكال التدمير والإتلاف والإجهاز. بينما في كثير من البلدان، التي تحترم وتقدر وتُثمن تراثها المعماري التاريخي، أياً كانت هويته وأصله، وخاصة في بلدان أوربا. يوجد ما يسمى ب "أماكن الذاكرة"، وتشمل تراثا محمياً بقوة القوانين. ففي فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، تحرص القوانين حرصا شديدا، على حماية التراث القديم وترميمه وتعهده بالرعاية المستمرة. حتى أنك إذا كنت تقطن منزلاً، يدخل في نطاق التراث القديم. فإن الدولة بالإضافة إلى إعفائك من أداء الضريبة، فهي تتحمل مصاريف وتكاليف ترميمه المستمر. ولذلك، لا أحد يجرؤ على المساس أو إلحاق الضرر، كما عندنا، بالمعالم المعمارية التاريخية. ولعل أكثر ما يمكن أن تفخر به مدينة من المدن، في أي بقعة من العالم، لهو إرثها المادي، وتحديدا المعماري، وعلى وجه التحديد التاريخي منه. ذلك، "لأن المعمار هو المعيار"، كما يخلص المهندس رشيد الأندلسي، المعيار والمؤشر المادي لطبيعة ثقافات الشعوب وتراثها، وانتماءاتها الهوياتية. هذا بالطبع، إضافة إلى إرثها الرمزي في مختلف تجلياته. ولا عجب، "فهوية المدن من هوية هندستها المعمارية ومن تمدينها المنسجم.."، كما يقول الباحث يحيى بن الوليد. فهذا التراث هو ما ينطق بلسانها، ويكشف عن مختلف تطوراتها التاريخية، ويحدد هويتها وإرثها الثقافي، ومختلف أوجه الحياة التي تعاقبت عليها. ولذلك، لا غرابة إذا خصصت المجالس المسيرة لمثل هذه المدن، إمكانات مادية وتقنية وبشرية هائلة، للحفاظ على موروثها الحضاري المعماري، وإنقاذه من الضياع والإندثار والزوال. وتثمينه وإبرازه والتعريف به. عله يحكي لأجيالها اللاحقة، حكاية مدينتهم وتطوراتها التاريخية. ويساهم بشكل من الأشكال، في إنعاش ديناميتها السوسيو ثقافية والسوسيو اقتصادية. ناهيك عن إضفائه مسحة جمالية تاريخية خاصة على فضاءاتها وساحاتها المختلفة. فإنها لا تتحقق "متعة المكان"، بتعبير أدونيس ورولان بارث، فقط ببنايات متماثلة، هي أشبه بالقوالب التي تكرر نفسها. ولكن، لا بد من الإبقاء على التنوع المعماري، الذي تتداخل فيه انتماءات هوياتية وتاريخية مختلفة. وتؤثث زواياه وساحاته نتوءات فنية، وتمظهرات طبيعية جذابة. ذلك لأن "الأبعاد الجمالية، المتنوعة، كما يشرح أدونيس أيضا، يجب أن تحيط بالإنسان على نحو دائم، لا في بيته وحده، بل في أنحاء المدينة كلها". وعليه، فالحفاظ على الهويات المعمارية المختلفة للمدينة، لا يمثل ترفاً ثقافيا، بل هو في عمقه إغناء وإثراء لرصيدها الثقافي، ولمسة جمالية إضافية، تُرصع فضاءها العام. وعامل تحفيز وإنعاش اقتصادي. وهو ما يتطلب من كل الجهات المعنية، "العمل على أن تصبح جودة المدينة حقا من حقوق المواطن"، كما تدعو فاطمة ياسين. علما أن حماية الموروث التاريخي بكل تجلياته، يندرج ضمن عناصر ومكونات هذه الجودة. إن من سوء حظ هذه المدينة العزيزة العروي، أن القائمين على أمورها، كانوا السبب الفاضح المخزي، في حرمانها من أن تنعم وتفخر كغيرها من المدن، بقيمة وأهمية شواهدها المادية التاريخية، حتى ولو كانت شواهد كولونيالية غير متجذرة في أعماق التاريخ. وتكتسب ما يكفي، من جمالية تُحبب العيش والإستقرار والإرتباط بها. وذلك من خلال ما ألحقوه بنسيجها العمراني التاريخي من تخريب وإتلاف. وإطلاق العنان بالمقابل، لفوضى البناء العشوائي غير المقنن. الذي أنتج نموا عمرانيا سرطانيا عشوائيا بشعا ومنفلتا. هو في مجمله عبارة عن تراكمات مشوهة للإسمنت المسلح الأعمى. أزاحت عن المدينة في المجمل، هيبة التاريخ، وطابع الإنتظام والجمالية، التي عرفتها منذ بداية ظهورها الأول مع المعمار الكولونيالي. علما أن هذا الأخير، كما يذكر عبد السلام الصروخ، هو "الوجه الرسمي ومورفولوجية الهوية الهندسية لكل مدننا ومراكزنا الحضرية، بما فيها مدينة العروي طبعا، حتى أن مجمل تصاميم التهيئة والمخططات التي أتت بعد الاستقلال، لم تستطع خلق نماذج معمارية، تستجيب لحاجيات السكان وحاجيات المكان، أي أننا لم نبلور أي رؤية للتعمير، ما عدا ما ورثناه من قوانين سابقة..". وهذا مما يبعث على الحيرة، ويدعو إلى التساؤل عن سبب الإنفاق الباذخ على وثائق تعمير، لا جدوى من تنظيمها وتأطيرها للمجال الحضري. ولا فائدة ترجى من ارتقائها بأوضاع المدن وبالتالي أوضاع الساكنة.؟! إن مبعث إثارة هذا الحديث اليوم، عن الإرث الكولونيالي لمدينة العروي، والشواهد العمرانية الموروثة عنه. وكذا عن المذبحة الثقافية التي استهدفت معالمه ورموزه. والدعوة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الإرث الكولونيالي. ليس تمجيداً للإستعمار ولا انبهاراً وإعجاباً بما فعله وخلفه في مدينتنا ووطننا. ولا تماهياً مع سياساته الإستيطانية التي أوجدت المدينة من العدم، ودفعت إلى ميلادها في ظروف عانى فيها مواطنونا، من الويلات والإستغلال والمظالم الإستعمارية متعددة الأشكال. ولا تباهياً انفعاليا مبالغا فيه، بإرث مدينة لا يتجاوز عمرها بالكاد قرنا من الزمان، أملته اعتبارات ونعرة الإنتماء الجغرافي والديموغرافي الضيق. كما وليس هدفه البكاء على أطلال متداعية، عفا عنها الزمان. حتى وإن كان فيه غير قليل من الإعجاب وحتى الإنبهار. ولكنها صرخة مليئة بالألم، نابعة من حب المدينة وعشقها. مدينتي التي، "بقوة هذا العشق وسيطرته، لا أقدر أن أراها إلا جميلة وكاملة. لا أقدر أن أتحمل ما يُضفي عليها البشاعة، أو يُحيل جسدها إلى مجموعة من الركام.."، مثلما قال أدونيس تماما عن مدينته بيروت. صرخة، مبعثها إدراك حجم الإجرام الذي تعرض له جزء لا يستهان به، من تراثها التاريخي، الذي هو مِلك لجميع ساكنتها، باختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وهوياتهم. مع ما يعنيه ذلك، من تشويش وتعتيم على صفاء الذاكرة ونقائها، بل ومحو لأجزاء نفيسة كاملة من مخزونها، ومن حلقات تاريخها المادي النفيس. وقد صدق المهندس المعماري رشيد الأندلسي، وهو يتحدث عن ذات الموضوع، فيما يخص التراث المعماري الكولونيالي الفرنسي بالدارالبيضاء، حيث يقول: أن "المغرب كان به معمِّرون، استغلوا ما استغلوه، ولكن لا ينبغي هدم ما بنوْه..". لا لشيء، سوى لأن هذا التراث، كما يخلص عبد السلام الصروخ، هو "جزء من ذاكرة المحميين والحامين" على السواء. "باعتباره قيمة نفسية ورمزية وهوية، قبل أن يكون قيمة مادية"، وفق رأي الباحث محمد بنعتو. وعليه، فإنه لا يستقيم أن تكون مدينة العروي بدورها، مبتورةً من تراثها الإنساني المعماري الكولونيالي، الذي يمثل جزءا من قصة ولادتها التاريخية. بل الذي شكل نواة وأساس ظهورها الأول إلى الوجود. ومُجردةً من معالم التأسيس الأولى، أيا كانت هوية هذه المعالم، وظروف إقامتها وتشييدها. فأن تفعل ذلك، فكأنما هي تعيش خارج سياق الزمن، زمن تأسيسها، ولحظة ميلادها. أو بالأحرى خارج سياق الزمن الإنساني، الذي أوحى بفكرة ظهورها وبروزها الأول إلى الوجود. إن معنى ذلك كله، هو تنكر للحظة الميلاد مع كل ما لها من أبعاد شعورية ونفسية، وانسلاخ عن وقائع التاريخ، وتواجد خارج لحظة الوجود الفعلي. فمدينتنا، شئنا ذلك أم أبيناه، هي كولونيالية المولد والظهور والمنشأ. وهذا طبعا لا يقلل أبدا من أصالتها وهويتها وروعتها. بل يمثل مُكوِن إثراء وإغناء كبير لرصيدها. ذلك أن أصالة وقوة المدن، تُستمد أيضا من تداخل وتلاقح هويتها مع هويات مختلطة، فرضتها تطورات التاريخ، وإرادة الجغرافيا. صحيح أن المدينة بالشكل الذي أوجدها به وعليه الوجود الإستعماري الإسباني، كانت امتدادا لا نقاش فيه، لمظاهر ومعالم التقليد المعماري الإسباني، المختلف تماما عن خصائص المعمار الوطني بالمنطقة آنذاك. وصحيح أن في ذلك، استعراض من هذا الوافد الإستعماري الجديد على المنطقة، لقدراته المتفوقة في هذا المجال، مقارنة بالمعمار التقليدي البسيط، الذي كان سائدا بالمنطقة. بل ومثل كذلك، امتدادا لثقافته ونموذجه المجتمعي السائد، اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.. ولا غرابة في ذلك، "فالمعمار ليس مجرد علم وتقنية فقط، فهو "بنيان فكري" أيضا"، كما يجزم الباحث يحيى بن الوليد. ولكن لم يكن كل هذا، ليُقلل من قيمة المعمار الوطني على بساطته. والذي كان يستجيب مع ذلك لمتطلبات الساكنة وقتها. كما لا يسحب من المعمار الكولونيالي، كونه المعمار الأول الأصيل، بالنسبة لظهور المدينة. حتى لو كان قيامه يرتبط بسياسة قمع الأهالي وتقتيلهم، وببداية الإستغلال الإستعماري للمنطقة، ونهب ثرواتها. وعليه، فإن الحقيقة التي ينبغي أن يدركها ويستوعبها الجميع، هي أن التراث المعماري الكولونيالي بالعروي، يعتبر بالنظر لنشأة المدينة وظهورها الأول إلى الوجود، هو الطابع المعماري الأصيل بالنسبة لها. لأن بروزها قد ارتبط بهذا الوجود الإستعماري الإسباني بالمنطقة والبلاد، بصرف النظر عن الصفة التي أتاحت هذا الوجود (الإستعمار).! إنه برغم كل هذه الأهمية التاريخية التي يكتسيها المعمار الكولونيالي بالعروي. من حيث أصالته، وكونه حجر الأساس لظهور المدينة إلى الوجود. فقد تمت تصفيته ببشاعة، وبشكل شبه كامل. ما يعني تصفية معالم مرتبطة بذاكرة المدينة وبداياتها الأولى. وفي ذلك تجرؤ على محو جزء من هويتها الثقافية، وإجهاز على جذورها التاريخية. بل وإحداث قطيعة جذرية مع ماضيها الكولونيالي. لربما قد تكون دوافع وأسباب هذه الرغبة، في إحداث مثل هذه القطيعة مع جذورها وأصولها، نابعة لدى البعض من جهلهم الباذخ الفاقع، بأهمية وقيمة تراثها الكولونيالي، ومدى مساهمته في أغناء تاريخها. ولا عجب، "فعدم فهم قيمة التراث، يكون سببا في ارتكاب أخطاء جسيمة"، كما يقول محمد بنعتو. أخطاء تتعلق بطريقة تدبيره وتثمينه، بل وأحيانا حتى عند التدخل لترميمه، الذي قد يذهب بطابعه التراثي ودلالاته التاريخية، إذا كان ترميما وتدخلا سيئا غير مدروس. يستتبعه سوء استخدام السلطة والصلاحيات، وسوء التقدير في توظيفها، عندما يتعلق الأمر بمقاربة هذا المجال. ومثل هؤلاء قد نلتمس لهم العذر. لكننا لا نلتمس لهم الصفح والغفران أبدا، بشأن ما تعرض له هذا التراث بالمدينة من إهمال وإجهاز. أو قد تكون دوافع كامنة لدى آخرين، في عمق الجروح والويلات المتراكمة، التي تجرعتها المدينة وأهلها تاريخيا، بين لحظة الميلاد، ومسار التحرر والإستقلال. وما تركه كل ذلك من ندوب وآثار في القلب والوجدان والذاكرة. وهؤلاء قد نلتمس لهم الصفح، ولا نقبل منهم العذر. لأنه مهما يكن الأمر قاسيا فادحا ومؤثرا في تاريخ الشعوب، فإن استمرارية الأمم وديمومتها، في إطار تعاطيها مع ماضيها، لا يقوم على أساس الإنتقام والشحن العنصري، القائم على تغذية روح العداء والقطيعة. ولكن على أساس تغليب روح التسامح، واستقاء الدروس والعبر والمواعظ. والنظر إلى المستقبل بروح الأمل والتفاؤل والإنطلاق. فلننظر إذن بعين العقل، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مدى الرفق والعناية البالغة، التي يتعاطى بها جيراننا الإسبان، مع الآثار الإسلامية في مدن الأندلس، رغم فداحة وفظاعة الجروح والقروح التاريخية المتراكمة بين الطرفين. كي نفهم المغزى والمعنى من الدعوة إلى حماية وترميم وإنقاذ ما تبقى من ذاكرة المدينة، وتراثها المعماري الكولونيالي التاريخي. استجابة من جهة، لمتطلبات الحفاظ على الهوية والذاكرة والتاريخ والتراث. ومن جهة أخرى، تناغما مع نوستالجيا فرانشيسكو أرينازا، الرجل الذي ألتهبت مشاعر حنينه الغامر تجاه العروي، وألهبت مشاعر أبنائها الغيورين على إرثها التاريخي. ذلك الرجل المتيم بحب المدينة وعشقها. نوستالجيا حاملة وحالمة بأكثر من رسالة وحنين.