بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    إسدال الستار على الدورة الحادية عشرة لمهرجان "فيزا فور ميوزيك"    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        منظمة الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    إفريقيا تنتقد ضعف التمويل المناخي    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ عامة        انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعمار الكولونيالي.. لم نستطع صيانته فدمّرناه!
لماذا تعاملت الدولة مع المعمار الكولونيالي بطريقة وظيفية وليس باعتباره ثراثا إنسانيا؟
نشر في المساء يوم 07 - 01 - 2015

أنْ نفكِّر في المدينة في منعطف القرن 20، وأن نظهر، وبسمو إنساني رفيع ومُسترسَل، مفاهيم التعمير الوليد، هو منحى جديد في اللغة المعمارية التي تصل ما بين العلوم الاجتماعية وفروع علم الجمال. ومن خلال ما لازمه من «حلم دائم لبناء مدينة» سيكون المارشال ليوطي قد أسهم في إنتاج الحداثة، ومن ثمّ يتبدى ذلك المطمح الذي عادة ما لا يتصوَّره معاصرونا نابعا من الفن ومن نهج الحكم العسكري ذاته.
إن آثار الحداثة، وعلى نحو ما تجسّدت في ممارسة السلطة لدى المقيم الجنرال، بدت في الدار البيضاء، وبشكل ملموس، وأكثر من أي مكان آخر. 1912 1925، ثلاث عشرة سنة يمكن اختزالها في عقد من الزمن فقط ما دام أن هذه السنوات كانت مخترقة بانقطاع جذري ناجم عن الحرب العالمية الأولى. وبالنسبة لمهندس مثلي «إنشاء مدينة» في عقد من الزمن عمل ينبع من معجزة؛ لكن الدار البيضاء، المرسومة والمصمَّمة، نضجت قبل الأوان وأخذت بسرعة تمشي بمفردها على رجليها.
عسكري سلم، وليس حرب، سيصل هذه الأراضي التي كانت حتى تلك الفترة في غاية من اضطرابات التمرد مع سلطة مركزية مفتتة ومسحوقة نتيجة هجوم قبائل متمردة وموزّعة «بين الجهاد ورفض الأجنبي». 27 أبريل 1912، وفي آن واحد الشاب الضابط الصاعد المختوم بذلك البند الطويل حول «الدور الاجتماعي للضابط» الذي سيذيع صيته، وتلميذ الاستعمار على نحو ما وضع مفاهيمه الجنرال غالييني (Gallieni) صاحب خطاطة «لعبة بقعة الزيت» (Tâche d'huile)(5)، ومتذوق الجمال الحساس بجمال الناس والمناظر الطبيعية الذي وضع رجله على أرض المغرب، سيتقلّد مناصب عالية. بطاقة بيضاء حقيقية تلك التي منحته إياها السلطات الفرنسية على امتداد انتدابه مقيما، ذلك أن الفرنسيين كانت لهم هموم أخرى ذات أولوية. لقد ذهب وقتذاك إلى «النظر في عمله كمشروع إصلاح مستعجل أو مشروع تجديد محافظ: ومن أجل تهدئة المغرب، ينبغي إعادة خلق دولة، وإرجاع السلطة السياسية والدينية للسلطان، وإعادة الثقة في النخب».
كيف لا نستكشف رقة المفارقة تجاه فرنسا الجمهورية التي منحته سلطات شبه تقديرية في أقواله التي تختصر اللقاء بين بلد ما واعتقاداته الشخصية، وبين ابتهاج الروح حين تحضر في الفعل ويكون شعاره: إن ابتهاج الروح يكمن في الفعل.
كان يريد ميناء كبيرا يفتح هذا البلد على العالم بالنظر إلى الأطلسي ك«طريق عالمي للتجارة». والموقعان اللذان سيستقطبان هذه الإرادة هما الدار البيضاء (هذه القرية الصغيرة من 5000 فرد)، حيث إن خلق ميناء حديث بها سيكون قرين خلق مدينة صناعية، والموقع الثاني هو الرباط؛ وكلاهما متموقع في واجهة الأطلسي. ولذلك أصدر مرسوما يقضي باستقبال الرباط للسلطان ووسط ضجة كبيرة، السلطان الذي كان منعزلا في قصره المسيج بفاس، وهذه العملية العظيمة ينبغي أن تجذب رمزيا السلم للمغرب وتعيد إعطاء أساسٍ للمملكة. لم يتردد في مقارنة الرباط بواشطن من خلال تثبيته للهيئات المؤسساتية للبلاد. وكذلك، مع الدار البيضاء والرباط، ومثل الولايات المتحدة ومن قبل ريو دي جينيرو وبرازيليا، أدرك ليوطي الثنائية الحديثة بين العاصمة الإدارية والعاصمة الاقتصادية. حسنًا، وحول مفهوم «المغرب النافع»، فقد تصوّر أسس الشراكة بين المغرب وفرنسا من خلال ترسيم منطقة ساحلية تمتد من ميناء ليوطي إلى مازاكان (القنيطرة إلى الجديدة)، أرض مستوية خصبة سيركز فيها على تطوير البنيات التحتية وخاصة بناء خطوط الاتصال الكبرى. هنا، أيضا، المقاصد واضحة: خلق شروط النمو الاقتصادي التي توفر فرص الشغل، وتجلب المجموعات وتضمن استقرارا أحيانا يتم شجبه لأنه يركّز على إقليم دون آخر أو أنه يقابل بين مغرب نافع وآخر غير نافع؛ وهذا التصور ل»الإقليم القاطرة»، «جالب» النمو، قد استمر إلى أيامنا هاته.
فالدرس، هنا، أن مغرب ليوطي، وقبل أن يصير حقل تجربة على مستوى التعمير والهندسة المعمارية، فإنه ينبغي التوجّه فيه إلى مجال حماية الملكية العقارية والحفاظ على المآثر التاريخية: وحماية العقار ومسح الأراضي تولَّدا، وتمّ التعبير عنهما في الدار البيضاء، في ترابط مع القانون الإسلامي وفي ترابط مع الظهائر. وكذلك الدار البيضاء، واحدة من أوائل المدن الكبرى التي كان لديها سجل عقاري ومخطط للتعمير.
من قبل، تصوّر في ذهنه المدينة التي أراد إبرازها في المدينة العتيقة وأراد سماع نسيجها الصناعي. وهو المتحمس للتقنية والجمالية، لم ينس لهذا كله وضع الإنسان في قلب انشغالاته. إنه لمن الطرافة لكن الرمزية، أن ليوطي عند وصوله المغرب أثبت ساعة حتى يجعل المغاربة في علاقة مع الزمن. هي دائما هنا، بالدار البيضاء، لكن في غير مكانها الأصلي. وجدت أصليا في محور شارع مثل بوصلة للتوجيه. إنه البناء الأعلى للبيضاء، في شكل مئذنة يمكن رؤيتها من بعيد وتُمكِّن من حمل الناس إلى الباب الكبير للبيضاء «باب الكبير». تعطي تماما توجيها رمزيا جديدا مؤشرة على أن ليوطي اختار الموقع في محور ميناء الدار البيضاء.هي نسخة مطابقة للتي توجد في ساحة الأمم المتحدة، مدخل ساحة فرنسا.
المسألة الاجتماعية كانت في قلب حركته. مرة أخرى يهرب ليوطي من كليشه: «رجعي اجتماعي» (اشتراكي باصطلاح اليوم)! كم هو غريب أن يكون المرء «هجينا» كما هو الشأن بالنسبة لهذا العسكري الملكي، لكن المتأثِّر بنابليون، الذي خالط وانتقى أصدقاءه من المناضلين في واحد من الأمكنة الأكثر إنتاجية في المادة الاجتماعية: المتحف الاجتماعي الملهَم من قبل أحد الآباء المؤسسين للعلوم الإنسانية: فريديريك لبلاي (frédèric le Play). في كنف هذا النادي للتفكير، بلغة زماننا، طرحتْ جماعات الضغط هاته وقبل الأوان المسألة التعميرية وبالتركيز على الصحة والشروط الاجتماعية للطبقات الكادحة. في هذه الاجتماعات سيلتقي ليوطي بجان كلود نيكولاس فورستيير (Forstier)، المثقف ورسام الطبيعة.
وأوّل من سينعطف ليوطي نحوه هو فورستيير رسام الطبيعية، وعضو المتحف الاجتماعي. وفورستيير هذا هو من سيقترح على ليوطي استدعاء هنري بروست (Henri prost) ومن خلاله فريق عمل بأكمله من المصمِّمين ومهندسي الديكور. وهنري بروست، التعميري والمهندس، والحاصل على جائرة روما، سيكلِّفه ليوطي باقتراح نظرة شاملة لإبداع المدن الجديدة بالمغرب. الفكرة الأساس اقتضت إقامة، وبالقرب من المدينة القديمة، ومع تقديم خدمات الاحترام، تَمَفْصُلٍ (Articulation) مع المدينة الجديدة. حلم ليوطي استمر وهو «تشييد مدينة» في الدار البيضاء. كانت له طموحات كبيرة لهذا الموقع الذي أراد فتحه على الأجانب. وكان طلبه الأول لهنري بروست هو منطقة إدارية لليوطي... ساحة محمد الخامس الآن. ومثل جميع المهندسين الناجحين بدأ بروست من الفراغ: الساحة. والعمارة الأولى التي شيَّدها كانت البريد، لضمان تفعيل الاتصال (البريد، التلغراف، الهاتف) وبالتالي ضمان مجيء المستثمرين والعائلات الثرية. العمارة الثانية التي طلبها ليوطي هي المحكمة أو قصر العدالة لضمان الأمن لرجال الأعمال. ضمان الاتصال، وحفظ الأمن وتثبيت الثقة... من هذه الدينامية، ومع مثل هذا الدينامو، وعلى هذا البناء أو على هذا الأساس النووي، يمكن للحياة أن تجري... ومن خلال التحكم في المجال الحضري ومن خلال التطوّر الاقتصادي وبالانطلاق من الموطن ذاته: الميناء.
لقد شدَّد ليوطي بقوة، ومن خلال إستراتيجيته السياسية أيضا، على طبقة اجتماعية مغربية تمتلك الحرفة في يدها: الأساتذة الحرفيون الذين يُشيِّدون أيضا مستعملين الخشب، الجص، الزليج. لقد ألّح، وعلى مقربة من المهندسين، على جعل هؤلاء يشتغلون على جميع هذه العمارات. كانوا أساتذة ومن مهرّبي الفن التقليدي للتشييد. المغرب بمفرده حافظ، من خلال هاته السلالات الحاكمة، على هذا الميراث مثلما عمل على ضمان انتشاره. وبالموازاة جذبت البيضاء حرفيين: من كهربائيين، ومن رصاصين، مهنة جديدة من الحرفة اليدوية ممثلة من قبل الإيطاليين، والإسبان... استثمروا مع عائلاتهم في أحياء بأكملها.
دخل ليوطي الحداثة متألقا بدون إمكان التنظير ربما لمواقفه. لم يتردد في أي لحظة أمام وضعيات جديدة تظهر ثورية. وفي نهاية القصة، لقد وضع المفاهيم الكبرى التي تقود التعمير اليوم: التحكم في الهندسة، والنمو، والديموغرافيا... ليوطي فكّر وأنشأ مدينة... لكن بمهندسين كبار، وبأحسن هندسة، طلائعية بمقاييس تلك الفترة. نوع ما من الهجنة الهندسية، الكونية المحلية (أو الكونية على نحو خصوصي) (Glocalité) العزيزة على بول فيريليو (Paul Virilio)، طرحت هنا بشكل مفارق من قبل هذا الرائد السبّاق، وعلى حد سواء لخدمة المجموعة المحلية التي عرف كيف يفتنها ويغويها وكذلك المواطنين من العالم الذين توافدوا عليه... نتكلم عن الدار البيضاء مثل El Dorado [جنة أرضية] كما كتب عنها جان لويس كوهن (Jean Louis Cohen) ومونيك إليب (Monique Eleb).
فالمدينة، ومن خلال جمال بنيانها الحديث ومن خلال التنشيط الثقافي والفني أخذت تعرض على عيون العالم. الدار البيضاء بدأت تصنع حداثتها. ليوطي فسّر هذا من خلال فعل المدينة ذاتها حين تولّدت في الوقت ذاته الذي تولدت فيه الحداثة. الكلمة المفتاح للقرن العشرين تنطبق على البيضاء: السرعة. المدينة عاشت بكل امتلاء قرنها العشرين.
ترجمة - يحيى بن الوليد
«الإنسانشي».. مائة سنة من المعمار الإسباني بالشمال
إن «المدن الجديدة» التي شيدها المستعمر الفرنسي في المنطقة السلطانية، والإسباني في المنطقة الشمالية الخليفية، لا زالت بحق هي المراكز الأساسية للمدن التي نحيا في فضاءاتها اليوم، وتتركز فيها مختلف المرافق العمومية والتجارية والخدماتية بعامة.
وإذا كانت لكل من فرنسا وإسبانيا خصوصياتها ومبرراتها (التدخلية) في إنشاء مراكز حضرية بالمقومات الأوروبية، فإن المسؤولين، اليوم، لم يتعاملوا مع هذا الإرث المعماري باعتباره تراثا إنسانيا وجب الحفاظ عليه وصيانته وتصنيفه في عداد الآثار، بل إن كل سلوك المغاربة طبعه الاستعمال الوظيفي. وفي كل الحالات تعرض جزء كبير منه إلى الإتلاف والجرف من طرف المضاربين العقاريين، وتسهيلات قل مثيلها من طرف الجماعات المحلية ومختلف المتدخلين في مجال التعمير في بلادنا.
كما أن مجمل تصاميم التهيئة والمخططات التي أتت بعد الاستقلال لم تستطع خلق نماذج معمارية تستجيب لحاجيات السكان وحاجيات المكان، أي أننا لم نبلور أي رؤية للتعمير ما عدا ما ورثناه من قوانين سابقة، دون كثير تفلسف وعناء جمالي. لذا يظل المعمار الكولونيالي هو «الوجه الرسمي» ومورفولوجية الهوية الهندسية لكل مدننا ومراكزنا الحضرية.
وإذا كان المعمار الكولونيالي حظي بعدة دراسات، خصوصا في المنطقة الفرنسية، لانشغالات نخبتها بفلسفة وطبيعة هذا المعمار المتفرد، وخصوصا في الدار البيضاء، فقد بقي في الشمال في الظل، بل غير مرئي في الكثير من القوائم البيبيوغرافية المتعلقة بالمعمار، كما يقول الباحث الإسباني أنطونيو برافو نييطو Antonio Bravo nieto، مع العلم أن المعمار الكولونيالي بالمنطقة الشمالية له ما يميزه من حيث فن العمارة، وما يختزله من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية ترويها تفاصيل تصاميمه وواجهاته المتميزة. فما يعرف ب»الإنسانشي» El Ensanche أو «التوسع الحضري» أو النموذج المعماري الإسباني، عند دخول القوات الإسبانية وفرض ما يسمى بالحماية ابتداء من نهاية 1912، هو جزء من قصة تاريخنا المعاصر، وصيرورة انتقالنا من المدن المسورة بكل بنياتها التقليدية وأبراجها وتحصيناتها وأسواقها ومساجدها وزواياها وحماماتها وموانئها وفنادقها وساحاتها، كما هي منعكسة في بنية المجتمع التقليدي لما قبل الحماية، إلى مدن أوربية – عصرية «بوظائف طارئة» وحديثة وأنشطة صناعية وتجارية، انعكست على بنية المجتمع التقليدي و»حولته» نحو هذه المدن والمراكز المدينية حيث تتركز الحياة الجديدة بمختلف تعقيداتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
إن مقاربة الظاهرة المعمارية الإسبانية بالشمال أو ما يعرف ب»الإنسانشي» كفيل بأن يقربنا ويعرفنا على مختلف السياسات والاستراتيجيات الإسبانية كدولة (حامية) بكل تفاصيلها التاريخية، والمنطقة (المحمية) بكل مظاهر تحولاتها المجتمعية. لذلك ارتأينا تقديم نموذجي تطوان والعرائش، على اعتبار أن الأولى كانت عاصمة خليفية وعاصمة للحماية، وبنيت كمدينة جديدة للعب أدوار ووظائف إدارية في المنطقة الشمالية، والثانية كانت في المرتبة الثانية من حيث الأهمية السياسية والعسكرية، لكنها كانت الأولى اقتصاديا، لتوفرها على ميناء تاريخي، لعب أدوارا هامة من الناحية العسكرية وفي التجارة الدولية خلال مختلف العصور، وشكل نقطة تماس بين الأوروبيين وإفريقيا.
لقد عرف النموذج الكولونيالي الإسباني «الإنسانشي» في هاتين المدينتين عدة مراحل في نشأته وتطوره. وبحكم التقارب الثقافي والتداخل التاريخي لإسبانيا والمناطق الشمالية، لم يجد الإسبان صعوبة في تخيل المدن الجديدة التي ينوون إقامتها، وبعيدا عن البدايات ذات الطابع العسكري والدفاعي وتأمين الوجود ومحاولات التهدئة، لجؤوا إلى تصور تصاميمهم للمدينة العتيقة المسورة وتفاعلوا مع بنياتها المعمارية، بل استقروا بها بداية واعتبروها أنوية ضرورية لأي تمدد حضري، قبل أن يخرجوا خارج الأسوار، عكس فرنسا التي استفادت من تجربتها في تونس والجزائر، وأخذت مسافات كبيرة بعيدة عن الأسوار التقليدية لبناء مدنها الكولونيالية، معتمدة على هندسة اجتماعية تقيم الحواجز بين المجتمع التقليدي العتيق «باحترام» نمط عيشه وتراتبيته الاجتماعية ارتباطا بالوظائف التي يتيحها الفضاء العتيق، وبناء نماذج تستجيب لحاجيات الفرنسيين الاقتصادية والتجارية وتنزيل المخطط (التحديثي) دون خلط.
تلك هي ما عكسته رؤية المهندس هنري بروست Henry Prost، الذي عيَّنه المارشال ليوطي مديرا لمصلحة الهندسة وتخطيط المدن انطلاقا من سنة 1914 حتى سنة 1922.
قصة «إنسانشي» تطوان
في تطوان يرجع الدارسون الإسبان البدايات الأولى ل«الإنسانشي» إلى بداية القرن التاسع عشر، بتشييد الحي اليهودي في زاوية من الجنوب الغربي للمدينة سنة 1807، وبعد ذلك جاءت التدخلات أثناء ما سمي ب»الحرب الرومانسية» أو «حرب تطوان» 1860 – 1862، فتمت إعادة تأهيل وإقامة عدة بنايات بساحة الفدان وشقت حولها الطرق بتصفيف هندسي يتجه إلى عمق المدينة العتيقة، لتسهيل مأمورية وحركة الجيش والشرطة، حسب أنطونيو برافو نييطو. كما تم تشييد القنصلية الإسبانية غير بعيد عن الفدان، وكذا كنيسة البعثة الفرنسسكانية (1963)، ثم المجمع السكاني العبري المعروف بحي لونيطا Calle Luneta (1889)، الذي تميز بطابعه الأوروبي مقارنة بالمدينة الأهلية العتيقة.
وبعد هذا التاريخ لم تدخل القوات العسكرية إلى تطوان مرة أخرى، إلا سنة بعد الحماية، بتاريخ 19 فبراير 1913. وابتداء من هذا التاريخ بدأ وجه المدينة يتغير بتشييد مبان عسكرية داخل المدينة العتيقة وبمحاذاة أسوارها. ورغم أن نية الإسبان في وضع الثكنات بهذه المواقع كانت مؤقتة، فقد أسهموا في التوسع الحضري الجديد، كما شُيدت بين 1913 و1914 منشآت على خلفية الحي اليهودي الجديد لونيطا مثل ثكنة التموين والمستشفى ومنشآت ذات طابع عسكري في القصبة وباب التوت، فيما وزعت أخرى خارج المدينة. ورغم أن هذه البنايات شيدت بطريقة مستعجلة، فهي تعتبر الحلقة الأولى في سلسلة التوسع العمراني لما سيعرف مستقبلا بالحي الأوروبي/ الإنسانشي. وفي هذه المرحلة (1913/1914) سيخرج ما يمكن اعتباره «قانون بناء» بالنسبة إلى «الإنسانشي» الغربي بتطوان Reglamento Edificaciones del ensanche oeste de Tetuan، الذي صارت تشرف على تطبيقه إدارة الشؤون البلدية Junta de Servicios Locales.
في نفس المرحلة أيضا تم إخراج التصميم بإشراف المهندس العسكري أندريس فرنانديس أوسيناغا Andres Fernandes Osinaga، بمساعدة كل من المهندس العسكري في الشؤون البلدية رفائيل فرنانديس لوبث rafael Fernandes Lopez والمهندس المعماري الأول في مصلحة البناء المدني التابعة للأشغال العمومية كارلوس أوبيلو كاستيلو Carlos Ovilo Castelo. هؤلاء المهندسون الضباط وغيرهم هم من وضعوا تصاميم عدة منشآت ستأتي في اللاحق من التطور المعماري، إذ سيتم في نفس اللحظة القيام بأعمال «التطهير السائل» تحت إشراف المهندس الطرقي خايمي يورسسJaime Llorsés (نورد هنا أسماء هؤلاء المهندسين وصفاتهم لتأكيد أن المجهودات الهندسية المتعلقة بمشروع «الإنسانشي» كانت عسكرية ومدنية في آن واحد).
وتحت ضغط نزوح الإسبان نحو مدينة تطوان، الذين تهافتوا على اكتراء مساكن لهم بالمدينة العتيقة وبالحي اليهودي Calle Luneta، اتجهوا ب»الإنسانشي» انطلاقا من هذا الحي نحو الغرب حتى لا تؤثر التدخلات العنيفة على النسيج المعماري العتيق داخل الأسوار، وهنا حصلت عدة مفاوضات، بغرض حيازة الأراضي العارية المجاورة للمدينة، بين الملاكين الأصليين وإدارة الشؤون البلدية، حيث ظهرت لأول مرة شركة عقارية مجهولة الاسم، هي: أوليبا إنسانشي دي تطوان Oliva Ensanche de Tetuan
منذ هذا التاريخ امتد البناء نحو الشمال الغربي لعوامل تضاريسية ولوجود أسوار تحد امتداده في الجهة الجنوبية، ليمتد شكله الحالي ببناء ساحة مولاي المهدي أو «بلاصا بريمو دي ريفيرا» سابقا Plaza Primo de revera، التي صارت نقطة ارتكاز تتقاطع حولها الطرق الجديدة التي تربط وتفصل في آن الإقامات والوحدات السكنية ذات الأشكال المربعة والمستطيلة.
أبدع المعماريون الإسبان (عسكريون ومدنيون) في النماذج الجمالية الهندسية عبر ثلاث مراحل أساسية، حسب المهندس المعماري يوسف المرابط، وهي:
الهندسة المعمارية التقليدية من 1917 إلى 1931، التي تعتمد على التموضعات التقليدية الإسبانية، والتي طبعت جزءا كبيرا من البناءات في هذه المرحلة، وكانت أغلب التصاميم من توقيع المهندس المعماري البلدي كارلوس أوبيلو كاسطيلو carlos ovilo castilo. ومن أهم إنجازاته بناية محطة سكة الحديد بتطوان، التي صارت اليوم متحفا للفن المعاصر.
الهندسة الجمهورية: من سنة 1931 إلى 1936، وهي مدرسة تأسست على أفكار عصرية وتقدمية قادها مهندسون طليعيون في مرحلة عرفت دينامية إبداعية كبيرة بوعي جمالي يعكس تطلعات هؤلاء كمثقفين ثوريين، انتظموا في مجموعة غاطيباك Gatepac، التي تأسست سنة 1930 بسراغوسا، وتعني «مجموعة الفنانين والتقنيين الإسبان من أجل تقدم الهندسة المعمارية المعاصرة»grupo de artistas y tecnicos espanoles para el progreso de la arquitectura contenporania. وقد تعاونت مع السلطات الجمهورية الجديدة في تطبيق تصوراتها.
الهندسة الفرانكاوية: من سنة 1936 إلى سنة 1956، وتميزت بتدخل الدولة القوي في مجال التعمير بإقامتها عدة منشآت ومبان عمومية، وتميزت بمزيج من الأنماط المعمارية التي يتميز جمالها ب:
النمط الإسباني الخالص أو ما يعرف ب: برناكول وVernaculo Espagnol - النمط العربي الجديد Neoarabe - النمط الكلاسيكي - النمط العقلاني.
ومن أجل توازن الفضاء الحضري الجديد «الإنسانشي» ترتبت عن تطور البناء إقامة عدة ساحات جسدت ميادين للحياة العامة، وحلقات ربط بين مختلف الشوارع والإقامات السكنية، مقيمة فقرات للتوازن العمراني، ومعطية بذلك هوية جمالية للمدينة. وهكذا نشأت ساحات بتصاميم متجانسة مثل: ساحة الجلاء، ساحة العدالة، ساحة 9 أبريل، ساحة بئر أنزران، ساحة الجامعة العربية وساحة مسجد الحسن الثاني (هذه هي أسماؤها الحالية)، إلا أن أهم ساحة من حيث القيمة التاريخية، والتي أريد لها أن تجسد دور «التعايش والتآخي» الحضاري، الذي اعتمدته السلطات الإسبانية كفلسفة احتلال للمناطق الشمالية، من خلال التوسع العمراني، هي: ساحة الفدان التي أطلق عليها اسم plaza de España، والتي شكلت في الواقع وفي تطورات الهندسة المعمارية الكولونيالية صلة وصل بين المدينة العتيقة بدلالتها المجتمعية الأهلية وبين المدينة الجديدة بأعماقها وأهدافها الكولونيالية، وكذا مجاورة حقيقية دون قطيعة كذلك، وصورة نموذجية لمجتمع انتقالي، مما أدى إلى ضرورة تمفصل النسيجين العتيق والعصري بخلق فضاءات مشتركة كهذه الساحة التي صارت مركزا للتجارة والإدارة والترفيه والنزهة، وملتقى لمختلف الأزقة الرئيسية المؤدية إلى مختلف الاتجاهات. لذلك تم هدم الأسوار المجاورة للساحة وبناء القنصلية الإسبانية العامة لتصير فضاء مفتوحا وأكثر تمثيلية عبر ضم المحكمة والزوايا وطريق المشور. وقد ألهمت هذه الساحة العديد من الكتاب والفنانين التشكيليين بجماليتها المتفردة، حيث عمدت السلطات الإسبانية بعدما صارت لها هذه الوظائف إلى القيام بعدة تغييرات عرفت انتقادات كثيرة من طرف الإسبان أنفسهم. وإلى جانب المهندسين المعماريين ساهم الفنان العالمي ماريانو برتوتشي في تأثيث الساحة على الصورة التي صارت عليها. وقد أقام هؤلاء كل تجهيزاتها وبناءاتها على طريقة إمارة بني نصر بغرناطة أو ما يعرف بأسلوب «النصرية الجديدة» Neonazari، مضافة إليها الحدائق والمسلات ومصطبات العروض الفنية، مزينة بفنارات متماثلة، محاولين تمثيل فضاء قصر الحمراء. وقد امتدت مرحلة التزيين والإضافات التأسيسية من 1914 إلى 1929، مما جعل هذا الفضاء يمثل روح الفلسفة التي أريد لها أن تعبر عن «التآخي والتقارب الثقافيين».
وبالفعل صارت هذه الساحة ذاكرة التطوانيين ومفخرة لهم لعدة عقود، إلى أن تم جرفها بعد انتفاضة 1984، التي وقعت بمختلف مدن الشمال بقرار من الحسن الثاني كانتقام من الأهالي «المتبجحين» بالكثير من الخصوصيات الثقافية التي ينصهر فيها التأثير الإسباني بشكل عميق ومؤكد.
الآن وبعد «المصالحة التاريخية» للملك الجديد مع أهل الشمال، خصص جانب قرب أسوار المدينة لإعادة بناء هذه الساحة.
بعد ذلك ستأتي تهيئة ساحة مولاي المهدي بين 1931 و1932 كمركز ومفترق مختلف الطرق الرئيسية، التي لا زالت تلعب أدوارا حيوية إلى الآن.
في هذه الفترة ظهرت مدن الصفيح التي أقامها الإسبان النازحون (نذكر هنا باريومالكا). لقد تعددت التدخلات وتنوعت التصاميم، حسب الضرورات الحياتية والتغيرات الإدارية والسياسية، وهو ما تحكيه مختلف المباني والساحات والحدائق والشوارع الجديدة والوثائق والحوليات، حيث سيعرف «الإنسانشي»، بقرار سياسي، تحولات أخرى. كما سيوضع تصميم تهيئة سيتخذ شكله النهائي سنة 1944 ليساير «العهد الجديد»، حسب تغييرات إدارة الحماية آنذاك.
قصة «الإنسانشي» بالعرائش
للإسبان مع مدينة العرائش قصص كثيرة ومعرفة كبيرة، ذلك أن العرائش عرفت أكبر احتلال إسباني خلال القرن السابع عشر (من 1610 إلى 1686)، كما عرفت عدة حملات أوروبية لاستراتيجية بنائها من الناحية العسكرية والتجارية، لذلك عرفت، منذ نزول القوات الإسبانية سنة 1911 بها، تدخلات اعتمدت فيها على البنية المعمارية، التي كانت قائمة قبل هذا «الدخول» كمركز تاريخي مسور ومحصن بالكثير من القلاع، التي شيدت عبر الحقب التاريخية الوسيطة إلى حدود القرن التاسع عشر. فحول هذا المركز وانطلاقا منه كانت تتفرع الطرق نحو الجنوب الغربي، حيث تضم البطاريات الدفاعية الساحلية، وطريق القصر الكبير في الجنوب الشرقي، تتصلان عند باب المدينة والساحة النصف دائرية التي تتخذ شكل مروحة.
هذه الخطاطة هي التي شكلت الصورة السالبة «نيجانيف» لما سيحدث للمدينة الأوربية العصرية (الإنسانشي).
في مرحلة مبكرة من الاحتلال سارعت القوات الإسبانية إلى إيجاد مساكن لقواتها العسكرية بالعرائش، وبالتالي شق الطرق وتسهيل الاتصال، ولهذا الغرض قاموا بإصلاح المباني الأكثر رمزية وغيروا وظائفها كدار الباشا التي تحولت إلى مقر ل»الكومادانسيا» أو المقيمية العامة (مندوبية الثقافة والمعهد الموسيقي حاليا)، وبرج القبيبات أو سان أنطونيو San Antonio الذي صار مستشفى مركزيا، وبرج اللقلاق الذي صار مقرا للقوات المدفعية El parque de artilleria. كما قامت القوات الإسبانية ببناءات سريعة بمحاذاة الأسوار العتيقة للمدينة، وبعد ذلك وبعيدا عنها أقامت غربا «مخيم قمة المنار – الناظور Campamiento punta nador»، وشرقا أقامت تجمعا للثكنات المدفعية والاستعلامات ومختلف أنواع المعسكرات حسب تركيبة الجيش الإسباني آنذاك.
من هذه المواقع كانت المدينة مراقبة كليا ومتصلة بشكل وثيق بمركز المدينة، حيث إدارة المقيمية العامة، وحيث التجمع السكاني الذي كان في حدود 5000 نسمة، وفي مصادر أخرى لا يتجاوز 10000 نسمة.
هذه التمددات العسكرية هي ما يعتبره الباحث أنطونيو برافو نييطو الانطلاقة الأولى للتوسع العمراني لمدينة العرائش والانطلاقة الأولى ل»الإنسانشي»، حيث عرفت تلك الفترة ما بين 1913 و1914، بالإضافة إلى العسكريين، نزوحا «قويا» للمهاجرين الإسبان (كانوا في غالبيتهم فقراء) ليمارسوا ضغطا أحرج سلطات الحماية ودفعها نحو إخراج تصاميم متسرعة ومستعجلة ستعرف فيما بعد عدة تغييرات. كما عرفت هذه الفترة أيضا تقنينات صادق عليها باشا المدينة «تمنع» الأهالي من البناء داخل الأسوار إلى حين آخر، لتنطلق أشغال بناء ساحة إسبانيا (التحرير حاليا) كمركز للمدينة المزمع بناؤها.
بالمقارنة مع مدينة تطوان كانت أشغال التوسع الحضري، التي عرفتها مدينة العرائش في هذا الوقت، تتم من طرف مهندسين معماريين ضباط ومهندسين للأشغال العمومية ضباط ومهندسين بلديين. هؤلاء «افترسوا» المجال العذري للمدينة خارج الأسوار بإبداعية كبيرة وتجاوزوا أخطاء نظرائهم بمدينة تطوان، حيث أقاموا توسعهم «الإنسانشي» كشعاع ينطلق من الباب الرئيسي للمدينة نحو مختلف الاتجاهات ب90 درجة. لقد ساعدت طبيعة الموقع وتضاريسه على شكل هضبة، المحدود بأسوار المدينة العتيقة المحاذية للأطلسي، وكذا القرب اللصيق لوادي اللوكوس، هؤلاء المهندسين الضباط على إخراج تصاميم متطابقة مع طبيعة الموقع. كما عملوا على احتواء المباني العشوائية التي صارت تلقائيا خارج القانون الجديد، وهنا يعلق أحد المهندسين المسؤولين في الأشغال العمومية El Fumento بأن «العرائش ستصير المدينة الوحيدة للحماية التي تتبع خطط التعمير العصري (...) وستقطع بشكل حاسم مع باقي المدن». وبما أن الجهود كانت متداخلة ومكثفة بين مختلف الهيئات – مدنية وعسكرية – لإخراج مدينة عصرية تخدم أهداف الحماية وتكرس وظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد صمموا ما يمكن أن يصبح متحفا معماريا، خاصة في ساحة إسبانيا (التحرير حاليا)، تتعدد فيه لغات الهندسة «العربية الجديدة» أو ما يطلق عليه دون تدقيق علمي «المعمار الموريسكي»، حيث أراد الإسبان أن تكون هذه الساحة عنوانا للمعمار الكولونيالي الإسباني المعروف ب»الإنسانشي».
وقد اكتملت هذه الساحة بكل معالمها الهندسية منذ 1914 إلى حدود الثلاثينيات بأقواسها وإدماجها لكل عناصر الهندسة المعمارية المستلهمة من مختلف المدارس، واتخذت شكلها الإهليليجي وتماثلاتها مع مختلف الواجهات ذات المرجعية العربية الجديدة الباذخة في التأثيث والتزويق والتوريق. هذه الأشغال قام بها مصممون كانوا في غالبيتهم ضباطا عسكريين، فأصبحوا نجوما متنافسين في إخراج أجمل التصاميم والأفكار المتجددة في الهندسة المعمارية، حيث تألق كل من خوصي لاروسيا غارما Jose Larrucea Garma وارتبط اسمه بالمباني الموجودة في ساحة التحرير، إضافة إلى كل من Enrique Blanch Roig، Herlenegildo Brancos Hugnet وأندريس غالماس نضال Andres Galmas Nadal الذي ارتبط اسمه بقصر السوق المركزي Mercado de Abastos وبناية البريد والفيلات الكائنة بشارع محمد الخامس إلى حدود الآن، حيث اعتمد على مفهوم «المنزل الحديقة» ليس لأن هذه الفيلات الصغيرة تحتوي على حدائق، بل لأنها توجد على طول الشارع الذي تحتله حدائق خطية ومتوالية (تم جرفها بمناسبة التأهيل الحضري، وحُولت إلى مواقف سيارات). وبنفس التصور تم إنشاء حدائق الشرفة الأطلسية المطلة على البحر، وحديقة الهيسبريديس عند أقدام برج اللقلاق.
إن «الإنسانشي» الذي اكتمل تصوره في 1914، ظل لوحده، بعد مائة عام، مركز المدينة وقلبها النابض، لأنه يجمع كل المرافق الإدارية والتجارية والخدماتية والترفيهية، فيما ظلت باقي التوسعات الجديدة وإلى حدود الآن تصب فيه وتنهل منه.
قصة نافورة
يحكي محمد اللعبي الباحث في العلاقات الإسبانية المغربية ورئيس جمعية دار العرايش قصة نافورة ساحة التحرير: ما إن أوشكت ساحة إسبانيا (التحرير حاليا) على الانتهاء أواخر العشرينيات، حتى حدث أن شارك الطابور الرابع من الجيش النظامي Regulares والمتشكل من مغاربة العرائش في استعراض احتفالي حضره الملك ألفونسو الثالث عشر، حيث أعجب بهم وبخدماتهم التي أسدوها في حرب تهدئة منطقة اجبالة، فوشحهم بأحد الأوسمة، مما دفع عمدة مدينة إشبيلية إلى إهداء نافورة فاخرة كتذكار، وهي تلك التي توسطت مركز «الإنسانشي» بزليجها الأصفر والأزرق المجلوب من طريانا (المنطقة التي تتجمع بها الصناعات والحرف التراثية بمدينة إشبيلية) وفسيفساء وزخارف نحاسية وأيقونات. كما طبعت على هذا الزليج فصول من رواية دون كي خوطي دي لامانتشا، والتي كان يمكن للقارئ المتجول أن يجد تفاصيلها في كل ميادين المدينة.
شكلت هذه النافورة ساعة شمسية تحيط بها اثنتا عشرة نخلة مقابلة للشمس التي تدور حول الساعة، فترسم بظل النخلة «كم الساعة».
في لحظة من لحظات الاستقلال، وبعد أحداث 1984 بمنطقة الشمال، صارت المدينة عمالة الإقليم، فجرفت هذه النافورة نهائيا، وبعدها هدم مسرح إسبانيا وانطلقت سلسلة التخريب وإغلاق القاعات السينمائية وتحويلها إلى قيساريات وعمارات، وهدم الكثير من البنايات الجميلة بسبب صعود طبقة من الأغنياء الجدد تعمل على تبييض أموالها في المضاربة العقارية. كما أن وزارة الثقافة وملحقاتها، إضافة إلى المجالس الجماعية المتعاقبة، لم تقترب يوما من هذا الموضوع وتعمل على تصنيفه كتراث إنساني يستحق ما تستحقه آثارنا المخلدة في الجارة الإسبانية، سواء لأسباب أثرية أو سياحية..
تحل هذه الأيام، الذكرى المائة لأول وثيقة تعميرية سطرت في المغرب، وهي بشكل أو بآخر اعتراف رسمي بالمعمار الكولونيالي ولو في جانبه الفرنسي، ومع ذلك فنحن نتمنى أن يشمل هذا الاعتراف كل أطراف هذا المعمار لأنه جزء من ذاكرة «المحميين والحامين». وكما علق الكاتب الجزائري كاتب ياسين على البوليميك الذي ساد في الجزائر حول التعريب وإلغاء الفرنسية، قائلا: «ألا يمكن اعتبار اللغة الفرنسية غنيمة حرب؟».
إعداد - عبد السلام الصروخ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.