حاوره - يحيى بن الوليد رشيد الأندلسي أحد أهم المهندسين المعماريين بالمغرب وأحد أهم الباحثين المعماريين في الوقت ذاته. وهو، في مجاله، وعلاوة على مهارته وموهبته اللافتتين، يستند إلى "مرجعية" متفرِّدة ومخصوصة جعلته بمفرده يحيل على تيار أو مدرسة معمارية قائمة بالمغرب. والأهم، في حال تجربته، أن المعمار، وفي إطار من ارتكازه على قياسات "العلم" وترميزاته، لا ينفصل عن ألغام الهوية ومشكلات الذاكرة... أو الثقافة بصفة عامة، على النحو الذي يجعل من استثمار مكتسبات الدرس الفلسفي والعلوم الاجتماعية أمرا واردا وملحا في الوقت ذاته. واسم رشيد الأندلسي مرتبط بمنجزات عديدة، سواء في المغرب أم خارجه، ويكفي أن نحيل هنا على معلمة "المكتبة الوطنية" بالرباط، التي كان وراءها إلى جانب المهندس المعماري عبد الواحد منتصر. والحوار معه من نوع الحوارات التي لا يمكن لها إلا أن تطول وتطول كما يقال. وقد بدا لنا، في هذا الحوار، أن نركز على محور واحد يتعلق بالهوية المعمارية الكولونيالية بالمغرب في إطار إشكالية التعاطي لها من منظور الفكر المعماري الرائج والسائد الآن، على أمل أن نعود إلى محاور أخرى مثل التقنية/ الوظيفة والتشكيل والمقروء والأساتذة والجنون المعماري وأداء المثقف... وهذه المحاور جديرة بإعطاء نظرة مركَّبة ومتكاملة بخصوص رشيد الأندلسي. وميزة هذا الحوار أنه الأوّل، ربما، باللغة العربية بدلا من "لغة موليير" التي يبدو فيها رشيد الأندلسي مألوفا ومتداولا. - أود أن أنطلق من آخر بحث أكاديمي فلسفي لك، في إحدى المجلات الفرنسية، حول «المعمار الكولونيالي بالمغرب» وتحديدا من خلال ما راكمه أوّل مقيم عام بالمغرب الجنرال لويس هوبير غونزالف ليوطي في مجال المعمار. ليوطي الذي كان تأثيره بارزا على مستوى تشكيل المغرب الحديث ككل. وقبل ذلك يهمني أن أسألك عن هذا البحث في ضوء «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي»، التي يصوغها أبناء العالم الثالث (الجديد)، وبنسبة 80 في المائة، في عواصم الغرب الرأسمالي، ومن خارج نظرية التبعية أو نظرية المؤامرة. ما رأيك؟ أولا، لما أكون أفكر في هذا الموضوع أعتبر نفسي بأني أدخل مختبَرا. أتخلى عن الإحساسات التي لها ارتباطات وطنية. أنظر في المجهر بدون مراوغة ودون تقيد أو عصبية. الاستعمار الآن أكثر جاهلية كما يتأكد في العراق وبدون أدنى خجل. ليوطي له مميزاته، هو إنساني بالرغم من أنه رجل جيش ورجل قتال. جندي بوجه إنساني، له مقاربته، وحقّق حلما يتماشى وشخصه وتراكماته في «لاندوشين» ومدغشقر والجزائر. هذه المقاربة تعنيني وأهتم بها. إنسان مهتم بالتعمير والإعمار. السؤال الذي طرحه: بناء مدن تربط الإنسان بالمجال. في هذا الصدد يمثل ليوطي طروحات كبيرة. الرجوع إلى الوراء مهم. أنا بيضاوي، لي مرجعيتي، لي حدسي، وتقيّدت في جيناتي أشياء. تجربة البيضاء متفردة. جاء إنسان بإرادة إنسان. وكانت البداية. وبداية الشيء تشير إلى فلسفة قائمة بذاتها. وهي فلسفة العالِم المعماري والفيلسوف لويس كان (Louis Kahn) الذي كانت البداية العمود الفقري لفلسفته، لفكره. كيف نبدأ العمل. بداية الأشياء. نحن ننشغل بالنهاية في حين أن البداية مهمة. فتح باب المعرفة من خلال البداية، محور لا نفكر فيه. - كما أسلفنا، ليوطي بصم المغرب الحديث من خلال «مدرسته»، ولكننا نجد رأيين بخصوصه: رأي يقول إنه كان مغربيا أكثر منه فرنسيا. فيما نجد رأيا مضادا يقول إنه جاء إلى المغرب في إطار من علاقات القوة التي تقع في أساس الظاهرة الاستعمارية أو جاء إلى المغرب كباقي الغزاة. لا أظن ذلك. وبغض النظر عن هذه المواقف والانتقادات، فالأهم ضرورة البحث في جذور الأشياء. ليوطي جاء بفكرة المتحف الاجتماعي، مشاغل الإنسان. الإنسان كان يقع في محور انشغالاته، المعرفة والتقنية، حاجة البشر، حاجة الوجود، أشياء فيها قدر من الروحانيات، وكذلك وسائل العيش والراحة، الصحة والسعادة، الرخاء، العمل، والانخراط في الحياة. هذه الأعمدة أسست لهذا الفكر الذي وضع الإنسان في جوهر هذه الانشغالات. الإنسان يرغب في الأكل والصحة، الخروج من المرحلة الحيوانية والعبور من مرحلة إلى أخرى. فكره في حاجة إلى مصاحبة. الإنسان ليس في فضاء يسبح. هو يتمركز في موقع. وهذا الموقع الذي يتمركز فيه هو مرحلة أخرى. الإنسان البدائي شيء، وكما أن الانتقال من القبيلة إلى المدينة فرض شروطا وقوانين هي قوانين العيش الكامنة في جدلية الإنسان والمدينة حيث مراكز القوة ومفهوم السلطة. هناك علاقة بالزمن والمكان. وهناك تعلّق بالثقافة على نحو ما يتأكد من خلال أشياء مشتركة وليست اختلافية. - أجل في مجال المعمار، والطب كذلك، تتراجع النظرة الحدية والعدائية للاستعمار بسبب غياب العنف الذي يقع في بنية الاستعمار كما يقول فرانز فانون. ولكن مع ذلك كان ليوطي يخدم هوية معمارية كولونيالية تخدم المشروع الكولونيالي بدورها. لا بد من قدر من الحياد. لماذا؟ لأن مفهوم المدينة مرتبط بظاهرة الحداثة وظاهرة الثورات وتجمُّع المصالح المشتركة، ومرتبط بظاهرة الاستعمار كذلك. ليوطي أدرك القرن العشرين وليس القرن التاسع عشر. ومن هنا كان الفارق الذي يتأكد من خلال فكرة المدن والتجمعات الكبرى، ومن خلال الحفاظ على القواعد التي تؤطر العيش المشترك في المتروبول أو في الحظيرة. ولذلك، مباشرة، دخلنا عالما. ليوطي جاء كذلك في ظروف ملائمة، بعد ثورة صناعية وبعد جان جوريس وقضية درايفوس. جاء في سياق مخططات عالمية أثرت على المجتمعات. وهناك تقريب المواصلات التي لا ينبغي نسيانها. وهذا بغض النظر عما حصل في الاقتصاد. - وهل معنى ذلك أن الاقتصاد جوهر الاستعمار؟ كان له دور على مستوى تحسين شروط العيش. وإلا لماذا كان إنشاء الطرق والأوطوبيس والمحكمة. ليوطي وفق بين قطبين: القطب الاقتصادي الاستغلالي والانتهازي والرأسمالي والكولونيالي وغير ذلك من الأوصاف، وقطب الموارد البشرية التي يعتمد عليها لتقوية هذا القطاع. ومهما كان فهذا الاقتصاد رفع من مستوى العيش ومن شروط عيش الساكنة، خلافا لما حصل في الصحراء مع الاستعمار الإسباني وفي الجزائر وليبيا. كان الهاجس هو أخذ النفط، أي الموارد الطبيعة وترك الإنسان قبليا وبدائيا. ولذلك فالقذافي كان نتاجا طبيعيا لهذه السياسة الناتجة عن عدم التوفيق بين القطب الاقتصادي وقطب الموارد البشرية. ليوطي كانت له روح جعلته يخلق توازنا ويخلق قواعد بشرية، وجعلته يخلق المدينة بتعقيداتها، لكن مع التفكير في إيجاد التوازنات الملائمة. الأمر يتعلق بدخول في تصور جديد ومرحلة عصرية. تطور المدارس وتطور الحركات الفنية. أفكاره كانت تقدمية في مجال الفن كما في مجال التعمير. ليوطي كان على وعي بالتجريد. كان يقظا وفطنا في عقله كما في كواليس الدنيا. كان على علم بالأشياء. العلم ساعده على أن يكون على هذا القدر من الاستعداد العقلي والاجتماعي. كان يصارع الزمن، وكان يستبق الأحداث من خلال الوقت. وهذه الفكرة أتأملها وأدعو القارئ إلى تأملها: قرار في حجم بناء ميناء من أكبر المحطات في إفريقيا تجعل الإنسان يندهش لهذا الإنجاز الفرعوني. وهو ما لم يتكرّر إلا مع الملك محمد السادس من خلال ميناء طنجة المتوسطي وبعد 100 سنة. ليوطي كان يعكس مدرسة قائمة بذاتها، ولذلك كان وقع الميناء كبيرا على الحياة والاقتصاد والتنمية والتطوّر. الفينيقيون كانوا يهابون المحيط الأطلسي ويتصورونه الفناء بعينه. ليوطي فتح بابا جديدا على العالم، خلق دينامية، وجعل المدينة تتأهل. الميناء ترافقه الصحة والمصحات والقانون والعدل والعدالة والتواصل والبريد. ليوطي كان في أساس حركية اقتصادية كانت بدورها في أساس مدار الحياة الاجتماعية. لقد كانت له فكرتان: استقطاب رأس المال، واستقطاب اليد العاملة والأدمغة والموارد البشرية. ولفهم هذه الأفكار ينبغي مصاحبتها (Accompagnement) أيضا. أنا لا أحكم، وإنما أعتبر نفسي في المختبر أحلل وأشرح وأدرس وأقارن. والزمان هو الفيصل والحاكم. - ما قلته يبدو منسجما مع قناعاتك وخياراتك أو مرجعيتك بصفة عامة. ولذلك يهمني أن أطرح عليك هذه المرة سؤالا مباشرا وربما مستفزا. هل كان لوضعك الأسري البورجوازي والوطني كذلك، ولقرب عائلتك من المخزن في وقت سابق، ولإقامتك في فرنسا فيما بعد ما بين العام 1977 و1986، تأثير على مستوى نظرتك الإيجابية للاستعمار؟ ينبغي التأكيد على أن أفكاري عن الاستعمار ليست هي التي لوالدي وأسرتي. أنا لا أنتمي إلى جيل كان في اصطدام مع الاستعمار. وكذلك ينبغي الوعي بأن ليوطي كان يهيئ لفكرة الانفصال بطريقة مغايرة للجزائر التي حصل فيها انفصال دموي، حيث سقط مليونان من الشهداء. فكرتي عن الاستعمار لا يمكن أن تكون هي نفسها للجزائري الذي تأثر بالمدرسة الدموية. في حال المغرب حصل نوع من الوعي بالشعوب التي تطمح إلى الاستقلال، وكيف أنه على الجميع أن يتهيأ لكي تمر الأمور بسلام. ولو كنت طبيبا أو محاميا أو منظفا أو بائع زريعة أو أحذية... لن تكون نظرتي هي هي. ولأنني مهندس معماري، ولأن المعمار هو المعيار، فموقفي على هذا الشكل. - حقا أقدم ليوطي على إنجاز مشاريع عمرانية كبرى ذكرت أغلبها من ميناء وطرق وبريد وقصر عدالة وأحياء عصرية... ولكن الاستعمار شيَّد أيضا بوسبير، الذي كان تجربة معمارية ناجحة كما قال جاك بيرك، لكنه كان ولا يزال أحد «أماكن الذاكرة» التي تخدش المخيال الاجتماعي المغربي بالنظر لارتباطه بالدعارة الكولونيالية وبتلبية الرغبة البيضاء، إلى جانب رغبات جنود أفارقة كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي. بوسبير من الطابوهات. غريزة جنسية أكيدة. تدخل في إطار الرخاء والاسترخاء النفسي. التمتع طبيعة مفروضة وليس اختيارات. بوسبير كان لتلبية هذه الرغبة التي تطرق إليها ليوطي هي الأخرى بعد أن كانت في خانة مغلقة. كانت المرأة شيئا مهما. أوروبا تخطت هذه الحواجز ذات التأثير في نفوس الإنسان حتى لا يذهب إلى التطرف. لم نتطرق إليها حتى الآن. ليوطي كان سباقا للزمن، متبصرا، له راهنيته، ويعيش للمستقبل. وهذه أمور كبرى تطرقت إليها مدارس فلسفية كبرى، منها مدرسة باوْهاس (Bauhaus). - كيف لك أن توجز لنا الحديث عن هذه المدرسة غير المألوفة في مدرجات الفلسفة بالمغرب؟ هي تشكلت في ألمانيا، بعيدا عن برلين بحوالي 80 كلم. وبعد ذلك عادت إلى برلين. وقد تجسدت، في المعمار، من خلال أفكار المهندس المعماري الألماني والتر غروبيوس (Walter Gropius) في بداية القرن العشرين. وقد ناهضت هذه الفلسفة أفكارا مثل فكرة المرحاض الوسخ والنجس وفكرة الدرج أيضا... مما كان يقضي بجعلهما خارج المنزل. وكانت هذه الفلسفة وراء تصوّر شمولي للهندسة يستحضر ما هو اقتصادي وأنثروبولوجي وسوسيولوجي... إلخ. كانت هذه الفلسفة وراء ثورة أدت إلى مسح الطاولة طاولة الماضي والانفتاح على المستقبل والإنسان الجديد ومن جميع النواحي. وقد تبلورت أكثر في شيكاغو، بعد أن طالها الشر النازي، وأسهم فيها فلاسفة يهود ويابانيون وهنود. وهنا لا بد من إثارة موضوع الفلسفة التاوية أو الزن أو فلسفة الحق. وهو موقع أفقي مرتبط بالأرض والطبيعة والإنسان ودمقرطة الحياة. مع ال»باوهوس» لم تعد الشوكة بالذهب والفضة. صارت من معدن بسيط. وكذلك البراد والصحن. ولذلك صار بإمكان الفقير الاستفادة من هذا التحول. وكان للبورجوازية دور على مستوى تعميم هذه المفاهيم. ولقد استلهم كندنسكي (Kandinsky) هذه الفلسفة في الرسم بعد أن رحل إلى ميونيخ في الثلاثينيات حين كانت تجلب الفنانين. - فكرتك هاته تذكرني بتعريف من التعاريف التي أعطيت للعولمة من حيث هي «زمن الأغنياء وفضاء للفقراء». ولكن كيف يمكن أن توضح لنا هذه الفكرة في ضوء الفكر المعماري وفي ضوء المغرب أو الدارالبيضاء التي تستهويك؟ الفكرة الأساسية، هنا، تتعلق بالتبسيط في الهندسة. العلاقة ما بين الجمالية والأخلاقية: الإيتيك. الدارالبيضاء استوعبت هذه الأشياء أو استوعبت هذه التمثلات (Représentations). صرنا نجد فيها المتاجر. الأسطوانات التي كانت تبيعها وقتذاك هذه المتاجر. وصرنا نجد فيها البروليتاريا والمؤسسات والفئران. لندن التي هي مقر الثورة الصناعية بلغت هذا التحوّل، لكن بعد وقت طويل. ليوطي حقّق هذا التحوّل في زمن وجيز. - الملاحظ تركيزك اللافت على الميراث المعماري الكولونيالي للدار البيضاء كما أسلفنا. ولكن هل فعلا ترقى الدارالبيضاء إلى أن تكون عاصمة معمارية للمغرب، بالرغم من التجريف المعماري الذي يطالها الآن. بالنسبة لي، وفي حال الدارالبيضاء، هناك خط تحريري، هناك توجه، هناك عمود فقري، هناك ثوابت، وهناك عمل معماري (Œuvre Bâtie) في حاجة إلى قراءة تكون نتيجة ثقافة معينة ونتيجة تكوين محدّد. وقد حصلت لي قناعة بهذا العمل لما يتيحه من تنفيس ومن شاعرية أيضا. سبب وجود الوجود هو الحب. معرفة الأشياء ومعرفة الروابط التي تمثل شيئا. فالكتابة اللصقية موجودة في الهندسة.كما أن اللغة الهندسية فيها نحو هي الأخرى، وفيها تواصل. البناية تتكلم عن نفسها. وهناك من له قدرات القراءة وقدرات التغزل بالبناية. وهناك آخر لا يمتلك هذه القدرات، لكن له العواطف. المهندس والهندسة في خدمة البشر. الهندسة تؤدي إلى السعادة. - أفهم من كلامك أن الأمر، في حال الدارالبيضاء، ومن ناحيتك، يتعلق ب»الانتساب» (Affiliation) بمعناه الثقافي؟ الدارالبيضاء تتيح القراءات. والشارع أيضا كما الزنقة التي كانت متاحة لي. عشت ثقافة مزدوجة. درب السلطان كان مزدوجا. كان مفترق طرق. ومن هنا كان تأثيره. والزنقة طبعا بالمعنى الثقافي. بابا نويل، مثلا، كان بدرب السلطان عامي 1967 و1968. - نعود إلى موضوع الدارالبيضاء، وبالمناسبة كثيرا ما تشدد على ولعك وتأثرك بها في الحوارات التي أجريت باللغة الفرنسية. سؤالي مغاير: ألا ترى أن في انتسابك هذا نوعا من المبالغة؟ لا، لا.. المتعة بدلا من المبالغة. الدارالبيضاء تعلِّم وتكوِّن وتبني الشخصية من خلال التنوع الثقافي والمعماري والاجتماعي. تمازج، خليط، وأجناس، بما في ذلك بعد أمريكي. غير أن التمازج ليس في البشر فقط. هؤلاء تركوا معالم قائمة تتحدث عن نفسها وعن مهندسيها. هؤلاء لم يموتوا، لا زالوا موجودين من خلال الآثار. - وما السبب الذي جعل محمد المطالسي، إلى جانب سيليل تريال وجان ميشال رويز، لا يدرجون مدينة الدارالبيضاء ضمن المدن الإمبريالية بالمغرب في الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه (بالفرنسية)؟ لم يفطنوا إلى المشكل. يخصهم مسافة 100 سنة. المطالسي أحترمه ولا نتفق. لدينا رأي وتصوّر بخصوص النزيف الذي تعرضت له الدارالبيضاء، مما جعلنا نفكر في أن تدخل الدارالبيضاء في التراث العالمي. وقد تقدمنا لليونسكو بطلب في الموضوع حتى يتم الاعتراف بها، فطلبوا منا ملفا، وهو متضمن ضمن 150 ملفا لدى اليونسكو. - لعل في الجواب الأخير ما يفضي بنا إلى خطاطة المعمار والثقافة، وفي هذا الصدد تحضرني فكرة أودن التي يحيل عليها الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز في مقال له حول مدينة صفر. تقول الفكرة: «نمط معياري جديد يعني تغيرا في المفاهيم كلها». ومعنى ذلك أن المعمار مرتبط بمشكلات الهوية والذاكرة والأمة والسرد. والملاحظ، في حال المغرب ككل، انفجار معماري وتجريف معماري وتشويه معماري. وكان هذا الانفجار أحد عوامل السخط الذي فجّرت حريق الحراك الثوري العربي ككل. الملاحظ هنا غياب الدراسات المعمقة من الناحية الأنثروبولوجية والإثنولوجية والعلوم الاجتماعية بصفة عامة. تجاهل لمن نبني. نبني في وجدة أو الداخلة أو أسفي بنفس الشيء. الإنسان ثابت ومقولب مع أن المناخ ليس هو نفسه، ومع أن البحر ليس هو الجبال، ومع أن الجبال ليست هي الصحراء. الجغرافيا والبيئة والمناخ... عوامل لها تأثيرها. فقدنا العمل من داخل المختبر، وبعد خروجنا من مدن القصدير ينبغي التأمل في كل منطقة. هوية المنطقة وخصوصية الساكنة. تائهين في هذا الخطأ، مما يهدّد المجتمع والتركيبة الاجتماعية. نبني السكن دون التفكير في حاجيات الساكنة وفي نمط العيش. من هنا ضرورة تدخل دراسات العلوم الاجتماعية. المجتمع أو نظام المجتمع ينبغي أن يأخذ بيده. ومن هنا كذلك دور جمعيات المجتمع المدني حتى تجدّد الحاجيات من خلال المتطلبات، ومن خلال ثورة الديمقراطية ونظرة رئيسية للمجتمع حتى تتم المساهمة في صنع القرار. هذا ما ينبغي أن يكون اليوم. أخذ الكلمة ومراعاة المصالح المشتركة، بما في ذلك احترام الشجرة والرصيف. المطلوب إبراز الوعي وأخذ الكلمة. وهنا كذلك التربية والتعليم العمومي. عواقبهما ورطتنا. السلوك المدني والحضاري ضروريان. نحن لا نقرأ عن المدينة في المدرسة. التربية الإسلامية توجد. لكن السلوك المدني لا يوجد. هذا هو الأساس.