طالعتنا مجلة "الآن" (المغربية)، في عددها (56/ 2013)، بعنوان سافر وجارف "الملك ليوطي المغربي". والظاهر، أو شبه المؤكد، أنه جرت العادة أن ننظر إلى الصحافة المستقلة أو الحرة على أن هدفها الأساس هو "الثراء" و"الإثارة" وكأن الصحفيين المنتسبين لهذا النوع من الصحافة لا صلة لهم بالصحافة كما في تعبير "صحفيون بدون صحافة". وحتى في حال الإقرار بانتشار هذه الصحافة، واكتساحها ل"السوق الثقافية"، فإنها لا ترقى إلى "التأثير" في "الرأي العام" وبالتالي "توجيهه". وكما أسلفنا فإن رأيا من النوع الأخير، وبجهامته الاستعلائية، قرين نظرة تراتبية لأشكال الخطاب. وهي نظرة غير مطابقة لمنطق الأشياء أبدا، ذلك أن مقالا في جريدة أو مجلة، ومن منظور "الخاصية المقالية" ذاتها، ودونما سقوط في التراتبية سالفة الذكر، يفوق في أحيان، ومعرفيا، دراسة تدعي الانتظام في "أطروحة" تسعى إلى الخروج ب"خلاصات" وبما في ذلك "خلاصات مغلقة". ومقالنا هذا يسعى إلى أن يحوم حول الفكرة الأخيرة، إلا أنه قبل ذلك لا بأس من التأكيد على شخصية في حجم شخصية الماريشال ليوطي التي أسهمت في صناعة التاريخ بالمغرب الحديث إلى جانب شخصيات أخرى مثل الملك محمد الخامس والزعيم علال الفاسي والمقاوم عبد الكريم الخطابي... وغير ذلك من الأسماء التي يدرجها البحث التاريخي ضمن مفهوم "الشخصية القاعدية". إلا ان الحضور الأبرز، ومن ناحية التأثير في التاريخ، كان للماريشال ليوطي بالنظر لعلاقات القوة التي كان ينتظم داخلها بل وكان يعمل على تدبيرها وترسيمها وسواء على مستوى الجغرافيا السياسية أو مستوى المخيال الاجتماعي والوطني وكل ذلك في إطار من التحكم في "التمثيل السياسي". وما لا ينبغي أن يخفى عنا، هنا، أن فكرة من هذا النوع، تستجيب لتصوّر متعين للتاريخ: تصور غير موسَّع بمنطق "التاريخ الجديد" أو تصور يتمحور حول "مفهوم الدولة". وفرنسا لم تستعمر المغرب إلا بعد عزل الدولة التاريخية وانهيارها، وعلى النحو الذي أفضى إلى "مجتمع مفتَّت ومسحوق"، كما قال المؤرخ المفكر المغربي الألمعي عبد الله العروي في مصنفه الهام "مجمل تاريخ المغرب" (ص587). و"التاريخ بمعناه العام يدور حول الدولة ظهورها وتاريخها" كما يقول العروي نفسه (ص515). وفي حال ليوطي يبدو هذا التصور "الأنسب" و"الأقرب"، وذلك من خلال هدفه المتمثِّل في "إعادة بناء نظام ملكي بالمغرب" في منطوق المجلة. والظاهر أنه يصعب استعادة جميع ما ورد في مقال المجلة الموقع باسم خالد الغالي، ذلك أن المقال الكثيف للمناسبة يعج ب"المعلومات" التي لا يخلو "جمعها" من "تنظيم" لا يخلو بدوره من "حس منهجي". لقد سعى المقال إلى تقديم صورة إجمالية عن الماريشال ليوطي اعتمادا على منظور "كتابي" يصل ما بين "البورتريه" الذي تضمن تفاصيل مثيرة تبدأ بقصة الولادة ونجاة الطفل وبأعجوبة من الموت بعد حادثة سقوطه من شرفة الطابق الأول... وتنتهي بدفن ليوطي بالمغرب، وتصدير قبره وبعد سنوات على موته (1934) وعلى وجه التحديد العام 1961، إلى وطنه فرنسا، وبطلب من الجنرال شارل دوغول، حتى يدفن في مبنى les invalids حيث يرقد عظماء فرنسا. ومعنى ذلك أنه تمّ نقض وصية ليوطي الذي سبق له أن قال "بقدر ما أحتك بالمغاربة، أجد نفسي أعيش في هذا البلد، بل أجدني مقتنعا أكثر بعظمة هذا الأمة". وهذه القولة مثبتة تحت تمثال ليوطي الموجود بداخل القنصلية الفرنسية بالدارالبيضاء. غير أن البيوغرافي، وعلى أهميته، ومساحته أيضا، لا يشغل إلا حيزا ممهِّدا ل"الأطروحة" التي يدافع عنها المقال. والفكرة الأساس، في الأطروحة، هي "إعادة بناء نظام ملكي بالمغرب" من قبل الماريشال. ولذلك ف"عندما جاء [ليوطي] إلى المغرب، أعاد بناء النظام الملكي ووحّد البلاد تحت رايته، وبفضله أصبحت الملكية هي ما عليه اليوم. كان ليوطي يعتبر نفسه خادم السلطان الأول، ولم يكن يخاطبه إلا ب"سيدنا" على نحو ورد في غلاف المجلة الذي زيّنته صورة لليوطي بلباسه العسكري الفرنسي وبنظرته التي تنم عن "ذكاء ثاقب" [كولونيالي، ابتداء]. ونقرأ، في المقال، أن تعلق ليوطي ب"الملكية"، وفي فترة كان لم يبلغ فيها سنته العشرين، يرجع إلى نوع من القناعة الفكرية الذاتية التي تأثّرت بالوسط العائلي والاجتماعي الذي نشأ فيه ليوطي: "تربّى ليوطي وسط عائلة أرستقراطية ورث عنها حب الملكية. في سن الثلاثين، ذهب إلى إيطاليا للقاء آخر المطالبين بعرش فرنسا، وحتى إلى البابا نفسه ليكشف أن الأخير جمهوري. عندما عين مقيما عاما على المغرب، عمل جاهدا على تثبيت دعائم الملكية في الإمبراطورية الشريفة". ومصدر تعلق ليوطي بالملكية، وحسب المقال، ما تمثّله هذه الأخيرة من "استمرارية" في مقابل ما يعكسه النظام الجمهوري من "قطائع متتالية". وقد شرع هوبير ليوطي في ترجمة "مطمحه الملكي" منذ وصوله إلى الدارالبيضاء في 13 ماي 1912 من أجل تولي منصبه الجديد بالمغرب. وحصل ذلك من خلال ما أسماه ليوطي نفسه ب"السياسة الإسلامية" التي اقتضت منه احترام كل ما يتعلق ب"الأهالي" من عادات وديانة... إلخ. وكان له ما أراده، وهو ما عبّر عنه من خلال قولته هاته (المتضمنة في المقال): "لقد حكمت المغرب بفضل سياستي الإسلامية. وأنا متأكد أنها جيدة. وأطالب بإلحاح أن لا يأتي أحد ليفسد علي لعبتي". والمرتكز الثالث، والداعم ل"أطروحة المقال"، هو مرتكز الصورة الفوتوغرافية. لقد تمّ تعزيز المقال بصور تصّدرتها صورة الغلاف سالفة الذكر وصورة ثانية مغايرة وكبيرة أيضا لليوطي تصدرّت المقال. ويبدو ليوطي ، في الصورة الثانية، وحيدا وجالسا ومنهمكا في قراءة ما يشبه "وثيقة" في قصر مؤثث على الطريقة الأوروبية وفيما يرتدي ليوطي أيضا بذلة أوروبية حداثية في دلالة على "لغة التخاطب". أما ما تبقى من صور فهي صغيرة الحجم، وتخص إحدى هذه الصورة الكونت دي شامبور أو هنري الخامس المطالب بعرش فرنسا فيما تخص الصورة المقابلة لهذا الأخير (ومن اليمين) البابا ليون الثالث عشر الذي دعا الكاثوليكيين الفرنسيين إلى الانصياع للجمهورية. أما الصورة الثالثة فهي لليوطي الطفل. أما الصور الموالية، وبعد "تكرار" صورة الغلاف، فيظهر فيها ليوطي مع المولى عبد حفيظ، ثم مع المولى يوسف الذي بدا الخيار الأنسب أمام ليوطي و"سلطات الحماية" بعامة. أما الصورة ما قبل الأخيرة فهي لليوطي مع "قواد المغرب الكبار"، وكان ليوطي (ورجلات فرنسا الاستعمارية بعامة) يتصورون أن فرنسا تحتاج لهؤلاء وليس هؤلاء من يحتاجون إلى فرنسا ("نحن من نحتاج إليهم، وليسوا هم من يحتاجون إلينا"/ المجلة، ص24). وصولا لصورة جثمان ليوطي، وفيما بعد لقبره. ولا داعي للتأكيد على أهمية الفوتوغرافيا، وضرورة اعتمادها، في "الكتابة التاريخية"... وكيف أنها تؤسس بدورها لمفهوم الوثيقة. ولذلك يمكن التركيز على أن صور المقال متعددة ومتغايرة... إلا أنها دالة وداعمة ل"أطروحة" المقال، وذلك عن طريق الحرص على ظهور ليوطي أو إظهاره بمظهر "الجدي" و"الخادم للسلطان المغربي". ولا داعي للتذكير بالعبارة المتداولة بخصوص الفوتوغرافيا التي تشدّد على أن "عين الإنسان هي التي ترى وليس الكاميرا". المقال مكتوب بلغة محكمة ولا تعلو فيها الكلمة على الشيء، وهو أيضا مفيد في منحاه العام. وكما أن المقال معزز ببعض الإحالات العامة ولعل أهمها الإحالة على المؤرخ المتخصص في تاريخ المغرب دانييل ريفي (Daniel Rivet) الذي خصَّ ليوطي بكتاب "ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب" (1912 1925) (ثلاثة أجزاء) لفت أنظار الباحثين المغاربة المعاصرين. يقول سمير بوزويتة وفي سياق قراءة الكتاب بأنه "من طينة الكتابة التاريخية التي تسترعي الانتباه إلى أسلوب قراءتها، حيث تحتضن محطات استراتيجية يستريح فيها السرد التاريخي من اشتغاله ليمارس نوعا من التفكير" (مجلة "المناهل"، العدد 87، يناير 2010، ص11). والمؤكد أن المقال يفرض نقاشا قد يطول ويطول بالنظر لشخصية الماريشال ليوطي (1854 1934). وكان هذا الأخير أوّل مقيم عام بالمغرب السلطاني على مدار الفترة الممتدة من 1912 إلى 1925، وهي مدة لم يقضها أي مقيم عام سيليه. ولقد أسهم في ترسيخ الاستعمار بالمغرب، وكما أنه طبع وبدهائه الكولونيالي التاريخ الكولونيالي للمغرب بطابع دال على شخصه وطبعا في إطار من السياسة الاستعمارية لفرنسا. وتقاريره ورسائله، وأقواله كذلك، دالة على ذلك. وعلى الرغم من أنه أمضى فترة قصيرة، أو أن مهمته انتهت مبكرا بالمغرب سنة 1925، فإنه بصم المغرب، بل كان "مبدع المغرب الحديث". وهذا ما سيشهد له به حتى بعض المستشرقين من الذين اعتبروا من "أصدقاء العرب" مثل جاك بيرك الذي غالبا ما يربط الجانب الإيجابي في الحصيلة (الاستعمارية) مع عهد ليوطي وخاصة مع ليوطي ذاته. فليوطي عرف كيف يتعامل مع خصوصية المجتمع المغربي. ولعل هذا ما جعل العروي يضعه على رأس المنظرين للحماية. وكان، كما يضيف العروي، يتفهم أن المغاربة تشكل لهن وعي وطني جد قوي رغم الأمية الواسعة... وأنه كلما كان هناك خطر العزلة، والاختناق، كلما تقوى المخزن (مجلة "Zamane "، أبريل 2012، العدد: 18، ص67). وسنضطر للتوقف عند هذه الفكرة ذلك أن شخصية ليوطي كما أسلفنا تغري بالحديث المسترسل. ولذلك، وفي سياق الرد على المقال، وتحديدا على "الوجه الآخر" لليوطي وعلى نحو ما سعت المجلة إلى الكشف عنه، فإن أول فكرة يمكن التشديد عليها هي أن أهمية دراسة شخصية ليوطي لا تكمن في عرض سيرتها فقط (وعلى أهمية هذا الاختيار) بل وكذلك في "الآثار" التي خلفتها في البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ل"مغرب ما بعد الحقبة الليوطية" كما اصطلح عليها البعض. وقبل ذلك إن الأهم أن ليوطي لم يكن يتحرك من تلقاء ذاته، لقد كان مرتبطا ب"المشروع الاستعماري الفرنسي". ومن ثم فإن ما أسماها ليوطي ب"السياسة الإسلامية" (La Politique musulmane) كانت تندرج ضمن "سياسة الحماية" تجاه المغرب. ولا تفهم هذه السياسة، التي سعت في في أحد وجوهها إلى الحفاظ على المؤسسات الاجتماعية والدينية للمغرب، إلا في مقابل "سياسة الضم والاندماج" التي كانت وراء ما عرف ب"شبح الجزائر". وهذا بالإضافة إلى أن ليوطي لا يعد الوحيد الذي فكر في الحفاظ على البنيات الدينية في البلدان المستعمرة؛ إذ أن المقيم العام بتونس كانت لديه الفكرة نفسها، إلا أن ليوطي تميز عن غيره من كبار المسؤوليين عن تنفيذ السياسة الاستعمارية الفرنسية، بأنه "فعل ما كان يقول". لقد حرص على تطبيق "السياسة الإسلامية" التي بلورها بنفسه دون تدخل أية جهات مسؤولة أخرى سواء كانت بباريس أو الجزائر(انظر: دانييال ريفي: السياسة الدينية للحماية في المغرب/ المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، السنة 4، العدد 13 14، 1991 1992، صص 149 151). كان ليوطي، وكما يلخص الباحث عبد الجليل حليم في مقاله "الثقافة والمجتمع"، يستجيب لأستاذه جوزيف جاليني (Gallieni Joseph) (1849 1916) صاحب التأثير الأعمق في تاريخ الاستعمار الفرنسي. وهذا ما جعله يستجيب لسياسة ألفريد لوشاتليي (Alfred Le Chatelier) (1855 1929) الذي كان وراء أول بعثة علمية للمغرب (طنجة 1904) (الثقافة والتحولات الاجتماعية، صص10 12). إنه كان كامنا في معادلة ال"نحن والآخرون" (Nous et Les Autres) (تبعا لعنوان الفيلسوف والقائل بالنزعة الإنسانية تزفتان تودوروف (T.Todorov). ال"نحن" في دلالة على "العرق الأبيض" المرتبط ب"أوروبا الرأسمالية الكولونيالية"... في مقابل "الآخرون" في دلالة على "العرق الأصفر و"الأسود" (بخاصة) المرتبط ب"قارة الظلام". غير أن ما سلف، وفي حال ليوطي نفسه، لا يفيد عدم الأخذ بمبدأ القوة؛ وهو المبدأ الذي تمَّ الاستناد إليه في التعامل مع المغاربة. والمشكل كان كامنا، فقط، في ذلك النوع من القوة عديم الفائدة. ف"التهدئة" كانت، في أساسها، قائمة على مزج القوة بالسياسة. وألم يكن ليوطي هو صاحب القولة الشهيرة: "أظهر القوة حتى لا تستعملها"؟ الظاهر، هنا، أننا بإزاء نوع من "المنفذ الثقافي" الذي استندت إليه فرنسا في التدخل في المغرب. وبكلام آخر: لقد راعت فرنسا الثقافة المغربية حتى تضمن أقل الخسائر الممكنة في تدخلها هذا. غير أن مراعاة البعد الثقافي لا يعني أي نوع من الاستجابة للخصوصيات الثقافية المحلية، بل إن الأمر يتعلق ب"منفذ" يمهد ويضمن استرسال الاستعمار. ومعنى ما سلف أن المغرب لم يعرف "الحدة الكولونيالية" التي عرفتها بعض البلدان. تلك الحدة التي كانت قرينة "الجنون الاستعماري" و"فاجعة الاستعمار" و"فضاعات الاستعمار"... وكل ذلك في المدار الذي أفضى إلى "ذبذبة الحالة الروحية"(31) أو ما تجاوز ذلك نحو "أعطاب نفسية" كتلك التي تحدث عنها فرانز فانون في كتبه وفي مقدمها "معذبو الأرض". الظاهر أننا لم نكن نعنى بالمقال لا لارتباطه بصاحبه وقبل ذلك بالمجلة فقط، المجلة التي هي آيلة للزوال. لقد أثارنا لأنه يرتبط بتصور قائم ومستقل هو مفعول نسق لا نرغب في أن يفترس أكثر، ونخشى من أن يبرئ الاستعمار من "جرائمه". وألم يكن ليوطي حين وعد أعضاء المخزن بأنه "سيحافظ على الهيئات والمراتب" مرددِّا وعود كل الغزاة في بداية عملية الاحتلال كما قال عبد الله العروي (ص588). المعارك من أجل التاريخ لا تزال متواصلة على نحو ما ورد في الكتاب اللافت "التاريخ الجديد" (ص44) الذي أشرف عليه المؤرخ جان لوغوف. وموقع الذاكرة في هذه المعركة لا يخلو من كبير أهمية. والنبش في الذاكرة وارد، وكما أن التطلع إلى "الذاكرة المستقبلية" (Mémoire –Futur) (تبعا للعبارة التي أطلقها محمد خير الدين في مجلة "أنفاس" (1968) وارد أيضا... غير أن الخوف من السقوط في التحرش بالذاكرة المغربية، وتجاوز جعلها متبدلة في ساحة الصحافة/ الثقافة نحو كسرها ونحرها وجعلها تنزف "ّدما" بتعبير الشاعر المفكر أدونيس.