التراث المعماري وحقوق الإنسان، عبارة مستقيمة في المبني، وليست كذلك في المعنى، ما لم يفصل فيها القول ويطول فيها التأمل. فالتراث المعماري يتقاطع مع مجالات عدة كالجغرافيا والسياسة المجالية والترابية، وعلم الآثار، والفنون والحضارة، وبالتالي فإنشاء حقل العلاقة (العلاقات) بين التراث المعماري وحقوق الإنسان مجازفة. وقد تبين في الآونة الأخيرة أن الخوض في الموضوع ممكن. ففي المغرب بدأت تتطور فكرة التراث المعماري وحقوق الإنسان، وتتمحور حول الحق في الحفاظ على أماكن الذاكرة، ذاكرة الاعتقال السياسي بالدرجة الأولى، وبعدها أماكن الذاكرة عامة. ولقد نظمت أوراش الدراسة والتأمل في هذا الشأن ونظمت الندوات، وفتح نقاش واسع في الموضوع. وكان لهيئة الإنصاف والمصالحة المغربية دورا تاريخيا في لفت الانتباه إلى موضوع الذاكرة المادية، في أماكن الاعتقال السياسي السرية، أكدز، قلعة مكونة، تزممارت، كرامة، درب مولاي الشريف، تكونيت...، وأماكن التي شهدت حدثا أو أحداثا انجر عنها انتهاك حقوق الإنسان في الماضي. وحسبنا أن لبعض مشاريع جبر الضرر الجماعي دورها في اعتماد التراث المعماري واحدا من أماكن الذاكرة، تلك هي الإرهاصات الأولى. وفي إطار تفعيل برنامج توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال الذاكرة والتاريخ والأرشيف (IER2)، وقفت ندوة مدينة ورزازات ليومي 21 من شهر يناير 2012 و 22 منه، عند ضرورة الحفاظ على التراث المعماري، لما له من علاقة بالذاكرة بالجنوب الشرقي المغربي، وهي ذاكرة الواحات. وإذا كانت الذاكرة غير مشروطة بالضرورة بالعدالة الانتقالية، إذ كانت لها علاقة بالأنساق الثقافية والفضاءات المعمارية بما هي جزء من تلك الأنساق، فإن الحق في الحفظ الإيجابي للذاكرة إن أخرج من نطاق العدالة الانتقالية يعد حقا من الحقوق الثقافية. وإذا أضفنا أن للمعمار علاقة بالهوية الثقافية، لاسيما إن كان ذا طابع محلي فإن الحق في الحفاظ على المآثر العمرانية أضحى صائبا. وبعيدا عن أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية التي وضعت بعض الأسس لهذا المجال الحقوقي، نسجل أن إرهاصات، أكثر من أن تحصى وتعد في هذا المقال، رسمت مسارا لإنشاء الوعي بهذا الحق الحقوقي، لما تبين، في أكثر من مناسبة، أن الحفاظ على التراث المعماري مطلب حقوقي. فمن جهة ظل المعمار على الدوام ذا صلة بكل ما هو حضاري وليس البناء فقط، لذلك فهو مرتبط بعدة مهارات كانت تطورت لدى الإنسان كأسلوب البناء، والذي يروم في الغالب استحضار الحفاظ على البيئة المحلية وإنتاج أشكال جمالية، لذا فالمعمار مسلسل طويل من التقدم والإبداع، كانت آخر أطواره أن الحق في معمار يضمن سلامة البيئة، والحق في معمار جميل، وفي الحفاظ على التراث المادي أهم من إقامة سكن اجتماعي. فالتراث المعماري هو الذي تمكن من إنشاء التقائية بين حماية حقوق الإنسان، حماية التراث المادي وغير المادي، والنهوض بثقافة حقوق الإنسان، النهوض بالتراث المادي وغير المادي في المناطق التي تعرضت للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفي مناطق أخرى كما سنرى. فلا مناص إذن من إدماج الحق في حماية التراث المعماري في السياسات العمومية وفي المخططات المحلية. ولبلوغ مستوى حماية التراث المعماري والنهوض بهذا الحق لا بد من إجراء تشخيص واسع لبيان مستوى الارتباط بين التجمعات السكانية، الأحياء العمرانية بالمدن المغربية والقرى الزراعية الحصينة. لأن ربط المنظومة المجتمعية بوحدة عمرانية متجانسة يمكن عدها أحد أماكن الذاكرة، بقطع النظر عن ارتباطها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي عرفها المغرب في السنوات الماضية مدخل لمجال العمران وحقوق الإنسان. ويقضي التشخيص كذلك بيان مدى تعدد المشارب الفكرية في التراث المعماري المغربي، ففضلا عن المؤثرات الرومانية، والعربية الإسلامية، هناك مؤثرات إسبانية وفرنسية. وفي مدينة طنجة ذات الوضع الدولي في الماضي الكولونيالي المغربي، تجد كل عناصر التراث المعماري الغربي قائمة تقاوم أحيانا جشع المضاربين العقاريين الذين لا يعنيهم التراث المعماري في شيء. وأما المعمار الأمازيغي برموزه فقائم بالأساس بالجنوب المغربي الذي خضع لسياسة التهدئة Pacification في عهد الحماية الفرنسية . ويقضي التشخيص أيضا بيان التحولات التي كسحت معالم التراث المعماري في كثير من المواقع فضلا عن الارتجال في توظيف المجال مما نتجت عنه خسائر وتشويهات. ولًإِن كانت الأماكن المعلقة بالرمز كالأضرحة والمزارات والزوايا والمساجد قد حافظت على نفسها وحافظ عليها الزمان لارتباطها بالمقدس والمحرم، فإن بعض المشاريع التنموية التي تفتقر إلى المقارنة الحقوقية لا تفتأ تضرب هذه المساجد وتكسح البيانات القديمة بدون حذر ولا انتباه. ويروم التشخيص كذلك الوقوف عند التراث المعماري وذاكرة الأماكن والطوبونيميا. ذلك أن كثيرا من الأسماء تشوهت، ولم تعد ذات دلالة من مثل، سجلماسة (سيك ألماس) التي تعني الإشراف على الواحة ، وفم لحسن وهي فم الحصن (إمي ن أوكادير)، التي تكاد أن تفقد معناها، وكرسيف أي (أكرسيف) والتي تعني بين الوادين ووجدة (بوإيجدا)، أي مدينة الأقواس. وهناك أسماء أماكن معمارية تجهل الآن دلالتها. وقد تحيلنا ذاكرة الأماكن إلى التراث الشفاهي والتقاليد الشفاهية. ذلك أن جل الوحدات المعمارية المتجانسة تشتمل في الغالب الأعم على ساحات الفرجة وهي في الواقع تشبه الفوروم (Forum) في المدينة الرومانية. ولا شك أن ما ألقي في هذه الساحات من أشعار، يستدعي جمعه وربطه بذاكرة المكان بما هو فضاء معماري. فمن ذلك، ساحة جامع الفنا، ساحة بوجلود بفاس، ساحة لهديم بمكناس. وقد تحيلنا ذاكرة الأماكن إلى تتبع المسار الذي يسلكه التراث المعماري المغربي، ففي تاريخ ما قبل استقلال المغرب إهمال المدن القديمة، ذلك أن سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب رغبت عن تكرار تجربتها في الجزائر، وأقدمت على بناء مدن عصرية جديدة إلى جانب المدن القديمة. إن تجربة استيطانها المدن القديمة بالجزائر جرت على المعمرين الأجانب بعض الكوارث. فإذا كانت المدن القديمة قد تضررت ولحق جمالها المعماري بعض الفساد في عهد الحماية الفرنسية فإن المدن التي بناها المستعمر الفرنسي بجنبات شتى المدن القديمة، أصبح جمالها المعماري يختفي بالتدريج بفعل غفل المجالس البلدية وعدم اهتمامها بالتراث المعماري. فهناك عمارات اختفت وبنيت بموضعها عمارات أخرى فأضحت شوارع المدينة مشوهة معماريا. ولم تكن الرغبة قائمة في التراث المعماري الغربي بالمغرب لغاية التذكر، بل إن هذا التراث يحتوي على بصمات أندلسية مغربية، وإذا مررت بشارع محمد الخامس بالرباط أو شارع الحسن الثاني بفاس ستبدو لك معالم من التراث الأندلسي في الأبناك والبريد، أقواس ونقش وألوان ذات ارتباط بالتراث المغربي. وهناك طوبونيميا وإن ارتبطت بالحماية الفرنسية فهي ذات علاقة بالذاكرة، مدينة اليوسفية (لوي جونتي) التي ارتبط اسمها بأحد الجيولوجيين الباحثين عن الثروة المنجمية بالمغرب، ساحة لابروال (َAbreuvoir) أي مشرب خيول جيوش الاستعمار، عمارة لوربان (Urbaine) بفاس، روش نوار (Roches noires) الصخور السوداء، وكاريان سونترال بالدار البيضاء...إلخ. وأما المساجد فقل ما تحافظ على معمارها القديم فما أكثر المساجد التي كسحت وبنيت بمواضعها بنايات عصرية، خصوصا بعد صدور مذكرة توقيف وظائف الكثير من المساجد القديمة بد انهيار أحد المساجد بمكناس على المصلين في شهر فبراير 2010. وحسبنا أن مسجد مدينة السمارة وسع بشكل عصري، ولم يراع في ذلك الحفاظ على المعمار القديم. خلاصة القول، لَإِن كان استرجاع الذاكرة مطلبا أساسيا نشأ في النقاش الواسع الذي فتحته هيئة الإنصاف والمصالحة، فإن الوقت قد حان للخروج من مواضع الانتهاك إلى أماكن الذاكرة بشكل عام، لأن الذاكرة الحفاظ عليها غير مشروط بالعدالة الانتقالية، وإنه من المفيد نقل موضوع التراث المعماري إلى المدارس المغربية وإدراج فصوله في مناهج دراسية أملا في النهوض بحق الإنسان في الحفاظ على ذاكرته المادية، ونقله كذلك إلى السلطات العمومية أملا في نهج سياسات تعيد التقدير لهذا التراث وتحرص على الحفاظ عليه. ولا بد من متابعة تلك السياسات وتمييزها. ويبدو جليا غياب السياسة الثقافية التي ستحتضر التراث المعماري وأهميته. وإن إقدام المغرب على إحداث ثلاث متاحف في إطار برنامج تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال الذاكرة والتاريخ والأرشيف (متحف الداخلة، متحف الريف، متحف الواحات) إجراء تجريبي يشكل مدخلا لإنشاء حقل حقوقي واضح المعالم عنوانه الحق في الحفاظ على التراث المعماري.