حين يستعرض المرء المسار الفكري والإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، كمثقف وكاتب، يجد نفسه أمام تجربة غنية في الكتابة والحياة. ويمكن القول إنه كان ويظل أحد رموز الثقافة المغربية الحديثة لمغرب ما بعد الاستقلال. فحضوره القوي، وفرادة تحاليله تجعلان منه شاهدا على عصرنا، ومتجاوزا لانغلاقه وأحاديته. الخطيبي، هذا العاشق المتيم بالعلامات والرموز، بالحروف والصور والأشكال، هذا الباحث المولع برصد جروح هذا المجتمع وانكسارات هذا الحاضر، كانت رغبته الدائمة هي تكسير الأنماط التقليدية والكلاسيكية المتداولة في الكتابة، بحيث أصبحت هذه الأخيرة، كما مارسها هو، في شكلها المتميز والاستثنائي، اختزالا لتدخلات وجودية وتاريخية وفنية واجتماعية متشابكة داخل النسيج النصي. ومن ثم بالضبط، أصبح صوته متميزا حتما ومنفردا. في هذا الحوار، الذي أجري في شهر دجنبر من السنة الماضية، نسترجع مع صاحب «الاسم العربي الجريح» آراءه الجريئة والثمينة عن الفن المغربي بمختلف تمظهراته، ليس باعتباره فنا معاصرا فقط، بل بصفته تراثا وثقافة، كذلك، منغرسين في عمق التاريخ ومعبرين عن الوجدان الجماعي والقلق الإنساني المميز لعلاقة الفرد بالوجود. نود أن نفتتح هذا الحوار بسؤال يهم ما تسمونه الفكر الفني بالمغرب، والرهانات التي تؤسسه؟ أبدأ أولا بالإشارة إلى أن مسألة الفكر أو التفكير في الفنون لا تزال تعاني من الكثير من النقص على مستوى الدراسات التي تقدم المفاهيم والمعارف المعاصرة. ومن جهتي حاولت في كتابي «الفن العربي المعاصر» تحديد العديد من المفاهيم مثل: التجريد، الفن التصويري، العلامة، النحت، الهندسة الخ. عادة ما يقال إن الفن، مثلا، ينقسم إلى فنّ تجريدي وآخر تصويري، لكن هذه تقسيمات، في الحقيقة، غربية خاصة بتطور هذا الفن في الغرب، الغرب المتمركز حول تجربته. أما في حضارتنا، التي هي حضارة عربية إسلامية، فإنها، كباقي الحضارات المشرقية الأخرى، يمتزج فيها كل شيء. مثلا في فنون الزخرفة والخط العربي والمنمنمات لم يكن هذا التقسيم واردا. كان فنا فيه الزخرفة والرسم وكل شيء. وحين انخرط الفن العربي الإسلامي في الحداثة كان قد اكتسب، عبر تحوّله الزمني، مهارات وموروثات أصبحت كلاسيكية. وإذا كان لنا أن نحدد الخصائص المميزة لهذا الفن الكلاسيكي، فإننا سنجد أنه يتميز بما يلي: استقلال اللون، صفاء الأشكال، الهندسة وقوة الزّخرفة، سواء في العمارة أو التزويق والتلوين المتعدد والمتنوع، أو المنمنمات والخط والفنون والحرف بتنوع موادها، من حجر و معادن ونحاس وجلد وورق وحرير الخ. إنها فضاءات عديدة للنظر والمعاينة، يعاد نسخها من قرن لآخر تبعا لصيغ تتميز بهذا القدر أو ذاك من الثبات والتغير. ولهذا، فهي وفرة من العلامة والتآليف لا ينقصها الجمال ولا تخلو من قوة غامضة باطنية. هل معنى هذا أنها تنخرط بقوة في الفن المعاصر بالمعنى الكامل للمصطلح؟ الفن المعاصر لا يتعدى ظهوره خمسين سنة، أي بعد الحرب، باعتباره نظرة جديدة للعالم وعلى العالم المتحول والمتقلب. أما المعاصرة فهي حاضر خاضع للتأجيل باستمرار وتعايش بين أنماط عديدة من الحضارات، إنها تشكل شبكة مكونة من عدة هويات تشكيلية، إنها نسيج من الصور والعلامات. لهذا تشكل المعاصرة في ذاتها شبكة مكونة من عدة هويات تشكيلية. إنها نسيج من الصور والعلامات. لنأخذ مثلا «التجريدية» التي يتسم بها الفن العربي الإسلامي، إن هذه التجريدية نابعة من حضارة للعلامة، حيث ظل الكتاب، بخطه وقوته الزخرفية، المعبد الكتابي الذي يمنح لكل معاينة أخرى معناها الفعلي؛ وهي بأشكالها الخالصة والهندسية، ليس لها نفس التاريخ ولا نفس التأليف الجمالي الذي يتميز به الفن التجريدي الغربي. هناك الفن العالم، والفن الساذج، شخصيا أعتبر أن السذاجة في الفن لا ينبغي أن تدوم.. قد تستمر لشهور أو سنوات قليلة، لكن أن تغدو سذاجة أبدية فهذا غير مقبول، لأنها مع الزمن تصبح حرفة وصناعة. لذلك ينبغي أن نحارب «التخلف الفني». أنا أعيش في المغرب، رغم أنني أعيش فيه بطريقة متصوفة بمعنى من المعاني، إلا أنني لا أريد له أن ينطوي على ثقافة متخلفة، في الفن، في الأدب، في البحث. فنحن إذن نحتاج إلى نقد فني بالمغرب، غير أنه ينبغي أن يخضع لمفاهيم ومناهج لتطوير الفنون المغربية وحتى العربية؛ وهنا يتعين قراءة ليس فقط الدراسات النظرية، نقرأ أيضا فنانين آخرين في السويد أو ألمانيا أو فرنسا الخ. فأنت عندما تقرأ «ماتيس»، على سبيل المثال، فإنه يعطيك رؤية واضحة عن الفن المغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إنني كثيرا ما أقرأ الفنانين قبل قراءة الدراسات والتحاليل، لماذا؟ لأن هناك فكراً باطنيا، العلاقة ما بين العمل في حد ذاته وبين الفكر المحايث فيه. هناك من يشرع منذ البداية، في الجامعة أو المعهد مثلا، في تقديم نظرية عامة عن الاستتيقا ثم «يطبقها» على الأعمال. وهذه منهجية، في نظري، غير سليمة؛ صحيح أنها مجهودات هامة لكن عامة. وعلى الأقل فأنا أسلك السبيل الذي سلكه كل من هيجل وكانت في حديثهما عن الفنون بصفة عامة بحيث لا يفصلان بين النظري والعملي. الفكر محايث للفن. الفن حرفة واقتصاد ومعرفة وحضارة، وفيه تخصصات؛ لذلك لا ينبغي أن يكتب المرء «أدبيات» ويطلق عليها مصطلح «نقد». وتشجيع مثل هذه الأدبيات هو تشجيع على التخلف في الفكر وفي الفن. فإذا أردنا تشجيع الفنان ينبغي أن نصاحبه بطريقة صحيحة وواقعية ومعقولة من ناحية التحاليل. ومع ذلك، فأنا لست ناقدا تشكيليا، بقدر ما أعتبر نفسي كاتبا عن الفن، لكن بطريقة أخرى، بطريقة مستقلة ومنهجية وعلمية بناء على مفاهيم، كما أنني أطرح أسئلة تهمني وتثير اهتمامي في العمل الفني. والمقياس في كل هذا هو القيمة. في مستوى آخر تميزون بين الكاليغراف باعتباره فنا وبين كتابته باعتبارها تحوّلا نحو العلامة ؛ ما هو جوهر هذا التمييز؟ الخط العربي في البداية كان مرتبطا بالمقدس، بالنص القرآني، بالمصحف الذي بدأت كتابته بالخط الكوفي، وقد كانوا يكتبون على العظام. فيما بعد، ظهر خطاطون كتبوا الشعر بخطوط عربية جميلة؛ معنى هذا أنّ الخط العربي، في ما بعد، دخل في المكتوب واستقل عن المقدس، أي دخل مجال العلامة، وبصفة خاصة في إيران وآسيا وعموما، من خلال المنمنمات والزخرفة والخطّ كالحضارة الصينية. كل هذا يدلّ على وجود نوع من الازدواجية بين الصورة والخط، بحيث أن هناك استقلالا ومزجا بينهما في الوقت ذاته. كانت العلامة الأهم هي الكتابة في فضاءات الفرس والشرق. العلامة تحيل على فن التخطيط الحرفي، وهو فن ضارب في القدم، بحيث يضمن الديمومة والاستمرار الحضاري للكتاب. العلامة اهتمت بها السيميائيات منذ فرديناند دو سوسور، وأصبحت اللغة عاملا جوهريا يخترق الرسم والسينما والرقص ومختلف الرموز والتعبيرات في المجتمع. وقد مارست هذه المنهجية على الأمثال الشعبية والأمثال المغربية، وعلى الجسد في كتاب «الاسم العربي الجريح»، حيث رصدت علاقة الجسم بالحضارة الإسلامية، من خلال مقاربة أنتروبولوجية ثقافية واجتماعية تأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين مختلف هذه العلامات. هل لهذا السبب اعتبرت الخط العربي تقنية جد متطورة؟ لذلك اعتبرت الخط العربي بمثابة مهارة تقنية متطورة. فهو يمتلك قوانينه وأساليبه وتقاليده الكبرى. وهو يكتب على حوامل متعددة، من رقّ وورق وحجر، أي على كل مادة قابلة لأن تحتضن تآليفه. وبما أن الخط كتابة من الدرجة الثانية، فهي تعمد إلى تحويل دلالة النص إلى زينة وزخرفة، مضعفة من مداخل ومخارج القراءة. فهي تمنح الحروف للقراءة معيدة نسج معاني النص وملفوظه. ومن هنا اهتمامي بتقديم قراءة من هذا النوع للثقافة الشعبية. هل يعود السبب إلى غنى الثقافة الشعبية وتنوعها ؟ الثقافة الشعبية والحرف اليدوية كانت دائما غنية وموجودة منذ العهود القديمة، أما التشكيل والفنون المعاصرة فحديثة العهد. لكن الذي يحصل دائما هو أننا نعمل على تقديس ما هو مكتوب وما هو معاصر وحديث، أو الحداثي الآتي من الخارج. التراث المحلي لم يكن موضع اهتمام إلا من طرف الإتنولوجيين، لكن للإتنولوجيا حدودا، أما اليوم فقد فتح الباب لتحليل التراث بكل حرية وبدون احتقار لثقافته وقيمه ورموزه وعلاماته. هل المقصود بالتراث هنا ما هو مكتمل ومنته، أم التراث المستمر في الحضور والتفاعل؟ يمكن النظر إلى التراث باعتباره إنتاجا أو إعادة إنتاج. غير أن كل تراث في الحقيقة هو إعادة إنتاج: لباس الكيمونو الياباني، مثلا، تراه من بعيد وتقول: هذا كيمونو ياباني رغم اختلاف اللون والثوب. فهناك الثابت، الراسخ الذي لا يتغير، وهناك المتغير والمتحوّل. هناك التراث بأشكال فنية ثابتة، وهناك التراث الذي يواكب العصر ولا تعرفه إلا فيما بعد. أشياء تُمحى وتأتي فيما بعد لأنها لم تُفهم. وهذا ما يقوم به بعض الفنانين الأجانب الذين يأتون إلى مناطق مغربية في البوادي، أو في جنوب المغرب أو شماله قصد الاستفادة من الإيقاعات والأصوات والألوان المحلية، وهذا يكون مصدر غناها وقوتها مثل تفاعل الجاز مع فن كناوة، رغم أن التقييم يختلف. لكن هناك استمرارية وتجديد وأحيانا عودة. ربما من هنا اهتمامكم بالثقافة الشعبية باعتبارها تعبيرا عميقا عن المجتمع وليست فولكلورا؟ الثقافة الشعبية لم تكن يوما ما فولكلورا. فهي دائما موجودة لكونها تعبّر عن العلاقة بالعالم، مثلما تعبر عن الوجدان وتقدم حقائق عن الحياة والموت، والفرح والحزن والصراع الخ. فحين تستمع إلى عبد الرحمان المجدوب نجد أن موضوعاته مثل موضوعات أي شاعر في العالم. المهم هي القيمة؛ تبعا لذلك، يظل الفن العربي الكلاسيكي، بشكل ما، يخترق حداثتنا. مع الثقافة الشعبية تدخل في حوار مع الذات. القيمة الفنية والوجدانية هي الأساس. الفنون اليدوية الجمالية تعطيك إضافة. الكنيسة والبورجوازية كانت تطلب من الفنان توقيع عمله. التوقيع سلطة على الفنانين الذين لا يوقعون. المعروف عن الأستاذ الخطيبي تعدد مجالات اهتمامه من علم اجتماع وأنتروبولوجيا وتحليل نفسي وسيميائيات الخ؛ ما المشترك بين هذا التعدد؟ المشترك هو أنا كإنسان أحب الحياة، وكباحث ألاحظ وأستكشف وأبحث، أطرح الأسئلة وأختار موضوع أعمالي بوعي. وأنا أتطور مع تطور أعمالي. مسار أعمالي هو مسار تكويني: التحليل النفسي، السوسيولوجي، السيميائيات، الأدب. الهدم الإبيستمولوجي لكل الحدود المنهجية والمعرفية التي تعتبر فاصلا بين الرواية والشعر، والفلسفة والعلم. أنا محتاج لنظرة القارئ الأخرى. كما أن ثقافتنا بصفة عامة تحتاج إلى نقد سليم منهجي وموضوعي، وإلى النقاش والحوار.