وأنا أقوم بزيارته وعيادته في منتصف يوم الاثنين 9 فبراير 2009 بالغرفة 313 بمستشفى الشيخ زايد بالرباط الذي دخله ثلاثة أيام من قبل، لم يجل بخلدي أنه سيكون اللقاء الأخير الذي أودع فيه الصديق الحميم والمحبوب عبد الكبير الخطيبي. عندما استأذنت الطبيب المشرف عليه الذي أذن لي بالدخول للغرفة التي كتب على بابها «الزيارات غير مسموح بها» استشعرت للتو أن حالته الصحية حرجة لكني وجدت في استقبالي رجلا بشوشا ودودا بابتسامته الهادفة وبحفاوته العذبة مرحبا بمقدمي مستبقا بإشعاري أنني أول من يزوره من الأصدقاء والزملاء بعد عائلته. ثم أردف سائلا عن أحوال مدينة الجديدة وعن آخر زيارة لي للمدينة التي هي واحدة من قواسمنا المشتركة. عبد الكبير الخطيبي الذي رحل عنا بغتة لما وافاه الأجل المحتوم شغل الحياة الأدبية والفكرية والاجتماعية في بلادنا وفي المحيط المغاربي وعلى الساحة الأوربية والدولية. فهو من وسط اجتماعي متواضع ينحدر من عائلة كانت تسكن بحي الصفاء بمدينة الجديدة حيث كان والده الفاسي المنشأ يمتهن خدمة الاشراف على فندق لاستقبال الوافدين على المدينة من ضواحيها وأحوازها وقد كان اسمه ولسنين «عبد الكبير الفاسي» قبل أن يحمل اسم عبد الكبير الخطيبي فيما بعد. انه يمثل الجيل المخضرم الذي نهل من ثقافتين شرقية وغربية وتشبع وتأثر بحقبتين تاريخيتين، فترة الكفاح الوطني والتحرري وفترة البناء المؤسساتي والديمقراطي والنماء الاقتصادي والاجتماعي. ويعتبر عبد الكبير الخطيبي بحق صرحا فكريا وفلسفيا وأدبيا واجتماعيا ومن أعمدة الفعل الثقافي في تقاطباته وتجاذباته المتجددة وتصوراته بما يفيد مقتضيات البحث وآليات المنهج في بلورة المشروع الثقافي. فهو من المنارات الوضاءة في المشهد الثقافي المغربي بأصواته وأبحاثه وكتاباته في مجالات متعددة وبإسهاماته المعرفية المتنوعة بين الفلسفة وعلم الاجتماع كما في الفن الإسلامي والإبداع القصصي والروائي والشعري. إنتاجاته الفكرية وازنة ومتميزة نوعا، استهلها بكتابته السردية والروائية بحفر ذاتي وتجربة مفتوحة في «الذاكرة الموشومة» و«صيف في استوكهولم». ومارس عبد الكبير الخطيبي النقد بمعناه المفاهيمي والبنيوي معتمدا على قدر كبير من التحليل الفلسفي والبحث العلمي وهو الذي يقول: «في ميدان المعرفة لايوجد مكان للمعجزات وإنما انقطاعات نقدية». وكتابات الخطيبي في إنتاجاته الأدبية والفنية والفكرية التي تناهز الثلاثين أكسبت الثقافة المغربية والمغاربية في تعبيراتها الفرنسية حمولة في سعتها وشساعة في حقلها تعكس شخصية متعددة المواهب والاهتمامات، هي على حد قول الطاهر بنجلون: «أكبر ملاحظ للمجتمع باعتباره عالم اجتماع وباحثا في العلوم الانسانية وكان رجلا عارفا بالثقافة الشعبية المغربية. ومن أوجه الخطيبي المتعددة في علم الاجتماع والسياسي قراءته ومقاربته لحصيلة حكومة التناوب والحكومات التقنوقراطية التي سبقتها والتي ضمنها إصداره بعنوان: «التناوب والأحزاب السياسية». وخاض المجتهد والمبدع الثقافي المتقد تجربة عمل موسوعي بإصداره المشترك مع الراحل محمد السجلماسي لموسوعة «الحضارة المغربية» الجامعة لدائرة المعارف الدينية واللغوية والتاريخية. وعلى امتداد مساره النضالي في الساحة الفكرية والثقافية والأدبية التزم الخطيبي بالخط المناصر لسؤال الهوية والمغايرة وسؤال الانتماء فكان يدعو إلى اعتناق «الهوية المرنة» كما يطرحها منذ أولى إصداراته «الذاكرة الموشومة» حيث يعكس هذا المفهوم تشبث الكاتب بأصالته الثقافية واللغوية في سعيه الدؤوب والحثيث لاستيعاب الثقافات الإنسانية والكونية. فهو في تشبثه بثقافته المغربية بمقوماتها العربية والاسلامية منفتح على حوار وتعدد الثقافات الانسانية، وفي كتابه «الإسم الجريح» يصف الخطيبي التاريخ بأنه «مسكن الإنسان ومنبت هويته المتعددة» ويطلق دعوته التجديدية بقوله «ما يلزمنا هو أن نتجاوز، من الجوانب جميعا، الصورة الضيقة التي نملكها عن أنفسنا وعن الآخرين، وأن ندخل في المعرفة فسحة ذات محاور استراتيجية متعددة، وأن نفرغ الكتابة التاريخية من المطلقات المركزية التي تقيد الزمان والمكان وتقيد جسم الشعب». ويذكر الخطيبي في توضيح رؤيته في واحدة من أشهر أقواله: يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما، والحال أنني ممتهن لقياس المساحات». هكذا، حمل الخطيبي هم الإنشغال بإشكالية الهوية التي ما فتئت تطرح بإصرار لا سيما في بلدان المغرب العربي والتي يرى فيها إشكالا كبيرا بقوله: «تتابع الثرثرة بلا حياء حول استعادة الهوية وحول الولادة العربية الثانية. ولادة ثانية أي شيء؟ الولادة من جديد في الفكر هي المصير المأثور للأشباح، للموتى الذين يكلموننا، نحن تراثيون بنسيان التراث، مذهبيون بنسيان فكر الكائن، وتقنيون بالعبودية من دجننا هكذا حتى يصبح مثل هذا النسيان شأنا يتكرر جيلا بعد جيل؟ هذا الصوت المجلجل منبع الصدح به هو الواقع وما راكمه التاريخ من تجارب إنسانية والقوة الضاربة فيه هي قوة الكتابة وقوة النص الذي توخي منه الكاتب المفكر شأنه شأن الحكماء أن يبلغ فكره بقوله: ولكنني أعلمك الاختلاف الذي لا رجوع منه وأضيف إلى قيثارك وترا يهتز». ويظل السجال التاريخي للخطيبي مع المفكر الوجودي، جان بول سارتر موقفا تاريخيا يشهد له بشجاعته الأدبية وجرأته السياسية في ظرف لم يكن فيه من يجرؤ على مواجهة التيار الفكري لسارتر في أوجه. فكان أن أصدر الخطيبي كتابه النقدي سماه «دموع سارتر» يرد فيه بالبرهان ويقارع بالحجة منتقدا موقف سارتر المتحمس لمشروع الدولة اليهودية والمتبجح «للتاريخ المأساوي» لليهود. وجاء السجال الفكري للخطيبي في بداية كتاباته لينازل المفكر الوجودي بكتاب نقدي عميق ورصين وبمرافعة سياسية داعمة ومدافعة عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين المضطهدين والمعذبين على الأرض. هذه شذرات، قليل من كثير وغيض من فيض المفكر والكاتب عبد الكبير الخطيبي أوحت بها مناسبة رحيله الأبدي ولو أنه سيظل حيا وحاضرا في الذاكرة التاريخية بكتاباته واجتهاداته الفكرية الغزيرة من قبيل «علم ينتفع به» الذي لا ينقطع به ذكره كما ورد في الحديث النبوي الشريف. فإلى روحه الطاهرة أتوجه بالدعاء ليبوأها الباري جل وعلا منزل صدق عند مليك مقتدر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. إنا لله وإنا إليه راجعون. صدق الله العظيم. (٭) المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.