الأوضاع الداخلية المتأزمة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد تؤدي إلى كارثة ما لم يتوصل الحزب إلى اتفاق حول جنس وطبيعة الاشتراكية التي يريدها للمغاربة. هل يريد ليبرالية اشتراكية، ليبرالية حداثية، يسار ليبرالي؟ أم سيظل تائها في أدبياته بين كل هذه المفاهيم، بينما أحزاب اليمين (التجمع الوطني للأحرار، حزب الاستقلال، حزب الأصالة والمعاصرة وغيرها ..) آخذة في التفوق سياسيا بمختلف أرجاء المغرب. وقد تمكنت هذه الأحزاب من السيطرة على البرلمان المغربي في اقتراع "كارثي" بالنسبة للاشتراكيين الذين أخفقوا في الاستفادة من سخط الشارع المغربي على الأوضاع الاقتصادية المتأزمة التي فشلت الحكومات المتعاقبة وبالأخص الحزب الإسلاموي، العدالة والتنمية، في معالجتها بما يسهم في تحسين القدرة الشرائية والحد من تفاقم البطالة. ومنذ نكسة انتخابات 2021 والأحزاب الاشتراكية تعيش ما يشبه حربا أهلية داخلية تنذر بانفجار وشيك حيث الوضع الذي يشهده الاتحاد الاشتراكي اليوم ليس كارثة له فحسب، وإنما لمعظم التنظيمات الاشتراكية المغربية التي ولدت من رحمه واستلهمت منه جملة من التوجهات والمرجعيات الاشتراكية التي أسس لها قادة تاريخيون من أمثال عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي، عمر بنجلون وغيرهم. الوضع كارثي أيضا لأن قادة الحزب لم يتوصلوا إلى اتفاق يذكر حول جنس وطبيعة الاشتراكية التي يريدونها للمغاربة. فالهزائم المتتالية منذ عشرين سنة، تثير اليوم شبح صراع قد يطول وقد يعصف بالحزب الذي هو اليوم منقسم 50 على 50% بين فريقين ينظمون خلافاتهم على خلفية صراع فكري بين تيارات متباينة: اشتراكية، ليبرالية، حداثية، محافظة، يسارية متشددة...صراع بين قادة لا يقولون شيئا دقيقا ولا واضحا ولا مفهوما للمغاربة العارفين بأن الاتحاد الاشتراكي على ما هو عليه من اختلاف في الخط الإيديولوجي وتنازع على مناصب القيادة، لا يملك مشروعا واضحا للقيام بالإصلاحات التي يحتاج إليها المغرب. ولأنها بطبيعة الحال المستفيدة الأولى من انقسام الاشتراكيين الذين لم يشعر معهم عزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار بأية معارضة تذكر حتى الآن في تنفيذ برنامجه الكارثي، فقد استغلت بعض أحزاب اليمين التصدعات الاشتراكية لتوجيه انتقادات ساخرة للمشهد المحزن للحزب، الذي يعيش أزمة ثقة بين قيادييه ولا يوجد شيء يوحدهم سوى التصادم المنذر بانشقاق وشيك. ولم تأت الانتقادات من حزب أخنوش والأحزاب اليمينية الأخرى فقط، بل حمل بعض الاشتراكيين هم أيضا بشدة على ما أسموه ب"التقهقر الكارثي" على خلفية التصادم بين قيادييه في الخط الإيديولوجي بين تيار يتبنى اشتراكية ليبرالية حداثية تؤمن بالابتكار الاقتصادي والمبادرة الحرة دون إلغاء دور الدولة، معلّلين توجههم بأنه لا توجد مواضيع خاصة فقط بيمين الوسط وأخرى باليسار، وأن الاتفاق يمكن في أن يتم في إطار استراتيجية إصلاحية شاملة ومتكاملة. ويرى العارفون بالشأن السياسي المغربي أن في التوجه الوسطي للتيار الأول ما يبرره: فالحزب الشيوعي يعيش سنواته الأخيرة، والتيار اليساري يرفض التوحد، واليسار المتشدد أو ما يسمى بيسار اليسار متقلب يتبنى في معظم أدبياته أوهاما اشتراكية طواها الزمن. أوهام إيديولوجية ألحقت أضرارا مدمرة بكل دول العالم التي تبنتها. ف"كرست فيها البطالة المتوحشة والفقر والتخلف"، كما قال الاشتراكي العالمي ميخائيل غورباتشوف الذي تدرّج في كل مسؤوليات حزبه الشيوعي إلى أن أصبح رئيسا للدولة وقائدا للشيوعية العالمية، قبل أن يفضحها ويفكك أركانها، لينهار على التو الاتحاد السوفياتي ومعه عشرات الدول التي كانت تدور في فلكه. ويذهب هذا التيار إلى أن قوة الاتحاد الاشتراكي ليست مرتبطة باختيار زعيم له جاذبية قوية، "فالمغاربة لايطلبون منا، يقول بعضهم، الإتيان ببطل، وإنما تقديم اقتراحات لبناء مجتمع يمضي بالمغرب خطوات إلى الأمام". أما التيار الثاني ويتزعمه صقور الحزب القدامى، فيسعى من خلال شعار ترسيخ موقع الحزب في اليسار، إلى بناء حزب متجذر في اليسار، متحالف مع شركائه الطبيعيين أي الشيوعيين ويسار اليسار. ويرفض هذا التيار بشكل مطلق المس بالثوابت الاشتراكية المرتكزة على الاجتماعي قبل الاقتصادي، واقتصاد الدولة قبل المبادرة الخاصة. ويجتهد اليسار المتشدد الذي لم يثبت في تاريخه السياسي أن حظي بثقة أزيد من 2،5 في المئة من أصوات المغاربة، في تكريس الثنائية التخوينية العمياء القائمة على إما "معي أو ضدي"، إما "يساري أو خائن"، وهي ثنائية بقدر ما خلقت حالة من التصادم الداخلي، ضيعت على الاشتراكية المغربية عقودا من الحكم. وفيما تتصاعد الدعوات إلى التوحد في المعسكر الاشتراكي، يحذر العارفون بالشأن السياسي المغربي من أن عودة الانقسامات الداخلية إلى الواجهة قد تؤدي إلى التفكك التدريجي للاتحاد الاشتراكي وميلاد حزب جديد من رحمه. وقد عكست الاستحقاقات التشريعية الأخيرة، الصورة السيئة التي أعطاها الاتحادالاشتراكي بأنه منقسم ومتقوقع على نفسه، لم يتمكن من تشكيل بديل قوي لجذب شرائح واسعة من المغاربة ممن خابت آمالهم بعد عقد كارثي من حكم إسلاميي العدالة والتنمية. وفي ظل حالة الجمود والانقسامات الداخلية التي زاد من حدتها الصراع على مواقع القيادة واللهث وراء المصالح الشخصية، يذهب البعض إلى القول، إن الاتحاد الاشتراكي الذي سكن وجدان المغاربة في مرحلة عسيرة من تاريخ المغرب السياسي، بات اليوم في مواجهة اختيارين واضحين، إما أن يعمل على التخلي بالمرة عن المصالح الشخصية وعدم تركيز قيادييه على أولوية جني ثمار النضال بسرعة قياسية تفتح الشهية لإغراءات "منصبية" قد لا تأتي، وأن يتجه إيديولوجيا نحو ديمقراطية اجتماعية بمفاهيمها الإنسانية، وإلا الدخول في قطيعة مع المغاربة قد تقضي على ما تبقى لديه من شعبية باهتة في أوساط الشباب والنخب المثقفة.