الانتخابات التمهيدية اليسارية: انقسام وتمزق بين تيار « طوباوي » وآخر « واقعي أكثر من اللزوم » * بقلم // أحمد الميداوي خرج الحزب الاشتراكي الفرنسي من الجولة الأولى للانتخابات التمهيدية أكثر تتمزقا مع صعود مرشحين على النقيض لبعضهما البعض، فيما نسبة المشاركة في الجولة الأولى تراجعت بشكل يؤكد بجلاء التراجع غير المسبوق في شعبية اليسار بفرنسا مقابل الصعود الصاروخي لأحزاب اليمين في كافة أنحاء أوروبا. وسيواجه رئيس الوزراء السابق مانويل فالس خصمه اليساري بونوا هامون ممثل الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي في مسعاه لتمثيل الحزب في انتخابات الرئاسة المقررة في ماي القادم. لكن الفائز في الانتخابات التمهيدية، الأحد المقبل، ليس واثقا من أنه سيكون في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية نظرا لهيمنة اليمين واليمين المتطرف على المعركة. وعلى غرار صحيفة لوموند التي عنونت « انقسام مفتوح داخل الحزب الاشتراكي »، رأت الصحف الفرنسية الصادرة أمس في هذه المنافسة التي ستحسم في 29 يناير في الجولة الثانية، « تصادما بين تيارين يساريين » وتجسيدا لحزب اشتراكي يشهد انقسامات عميقة بين نهج « طوباوي » وآخر « واقعي أكثر من اللزوم ». وكتبت صحيفة « ليزيكو » الاقتصادية أن « هناك حاجة إلى التجدد » داخل الحزب الاشتراكي، فيما رأت يومية « ليبراسيون » اليسارية أن بقاء الحزب الاشتراكي ليس مضمونا أكثر بعد الجولة الأولى مما كان عليه قبلها ». وإثر حملة تخللتها ثلاث مناظرات تلفزيونية في ثمانية أيام، اجتذبت الانتخابات التمهيدية اليسارية أقل من مليوني مقترع للاختيار بين سبعة مرشحين، مقابل أكثر من 4 ملايين نزلوا إلى صناديق الاقتراع في انتخابات اليمين التمهيدية في نونبر الماضي. ويعود سبب المقاطعة إلى خيبة ناخبي اليسار من سياسة معسكرهم التي وصفوها بأنها مخالفة لقيمهم كاقتراح لإسقاط الجنسية عن الفرنسيين المدانين بالإرهاب، والقوانين الرامية لتحرير الاقتصاد وحق العمل، واستقبال عدد أدنى من اللاجئين. وشهد الحزب الاشتراكي الذي يمثل عنصر قوة في الساحة السياسية الفرنسية منذ عقود، تراجعا في شعبيته خلال فترة رئاسة هولاند الذي واجه صعوبات في إنعاش الاقتصاد وأبعد عنه الناخبين اليساريين بسبب سياساته الاقتصادية. وأيا كان الفائز في الأسبوع المقبل لتمثيل الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية، فهو لن يستطيع الوصول إلى الدورة الثانية. ورغم ما أصاب استطلاعات الرأي من وهن بعد أن أخطأت في ما يتعلق بالانتخابات الأميركية والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ورغم كل الانتقادات التي وجهت لها، إلا أنها ما زالت تعطي بعض المؤشرات على توجهات الناخبين خصوصاً عندما تكون الفوارق كبيرة حسابيا.. وحسابيا فإن مرشح الحزب الاشتراكي أياً كان لن يتجاوز ال 9 في المئة حسب هذه الاستطلاعات وسيحل خامسا وراء مرشحي اليمين المتطرفة مارين لوبن والكاثوليكي الوسطي فرنسوا فيون والوسطي المغمور مانويل ماكرون والمدعوم شيوعيا جان لوك ميلانشون. ويبدو حتى الآن أن المنافسة في الانتخابات الرئاسية التي تجري على دورتين في 23 أبريل و7 مايو، ستكون حامية بين المرشح اليميني المحافظ فرنسوا فيون وزعيمة الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف) مارين لوبن التي عززت موقعها بفضل بريكست ووصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم. وتدلنا قراءة بسيطة في الخطاب السياسي الذي يروج له الحزب الاشتراكي الفرنسي في الحملة الجارية برسم الاستحقاقات الرئاسية لشهر ماي القادم، على أن الحزب هو بصدد التخلي عن خطه المحافظ وعن نظرية « التصادم » الثوري مع الرأسمالية، وأيضا عن موقفه التقليدي المتشدد حتى مع شركائه في أوروبا، حيث ظل على امتداد عقود يعطي للدولة الدور الأساسي في الاقتصاد على حساب المبادرة الخاصة، واستمر إلى عهد قريب يناهض « الطريق الثالث » الذي ابتكره الاشتراكي الديمقراطي طوني بلير، ويرفض ما يسمى بالاشتراكية الجديدة التي نادى بها جيرهارد شرودر في نهاية التسعينيات، والقائمة على الموازنة بين الليبرالية الاجتماعية والاشتراكية. وقد اختار الحزب في خطابه السياسي الحالي بشأن البناء الأوربي، اعتماد لغة معتدلة خالية من التحمس الأوربي الزائد الذي أثبت محدوديته في حشد ما يلزم من قوى الدعم الداخلي لا سيما وأن الفرنسيين يعتبرون أوروبا كيانا مختلفا عنهم، بل إنهم كثيرا ما يرون فيها حصان طروادة الذي تقدمه إليهم العولمة الليبرالية. ويقرأ الكثيرون في اللغة « الاعتدالية » الجديدة، مقدمة لتحول تاريخي في المسار السياسي للحزب الذي يجتهد اليوم في صياغة رؤية إيديولوجية حديثة تضفي عليه حلة التنظيم الديمقراطي القريب من التنظيمات الليبرالية، وتجعله يتعامل بقدر أكبر من الواقعية مع مشاغل الفرنسيين. والصراع داخل الحزب هو بين المتشددين الذين يرفضون المس بالثوابت الاشتراكية، وبين المجددين الراغبين في احتلال مواقع القيادة والقائلين بأن الصقور القدامى لا يملكون من المرونة والقراءة النقدية ما يساعد على تطوير الحزب بمنظور يقيم علاقة تجاذبية مع تحديات العولمة ومجتمع اليوم. وذلك يعني تحديدا أن التيار الثاني يريد تجديد الحزب فكريا في اتجاه التحالف مع يمين الوسط. وداخل تيار المجددين يحتل المرشح مانويل فالس مركزا هاما ضمن خط الاشتراكية الديمقراطية الذي أكسبه تعاطف الشباب. وملخص فلسفته أنه « لا توجد مواضيع خاصة باليمين وأخرى باليسار، وأن الاتفاق يمكن أن يتم بين الجميع بغض النظر عن تياره السياسي وكذا ضرورة أن يتم التحالف بين يسار عريض والمطالبين بنظام دولي جديد ويمين الوسط ». ويجد بعض أنصار هذا التوجه تبريرات مقنعة حينما يؤكدون أن اليسار المتشدد لا يريد المشاركة في الحكم، والحزب الشيوعي يعيش سنواته الأخيرة، والخضر لا يتقدمون منذ ثلاثين سنة، وليس أمام الحزب الاشتراكي إلا التحالف مع قوى أخرى وخاصة يمين الوسط.