لا رابح حقيقي ولا خاسر حقيقي ولا حل ولا تصالح، كل شيء يوحي بأن الحزب الاشتراكي الفرنسي يعيش حالة حرب أهلية تنذر بانفجار وشيك رغم الدعوات الحثيثة إلى الهدوء والاحتكام إلى الهيئات العليا للحزب للبت في كل الشكاوى المقدمة من طرف المتنافستين على زعامة الحزب التي تمهد الطريق لرئاسة الجمهورية عام 2012، حيث أن من تتولى منصب الكاتب الأول سيكون من غير شك الأوفر حظا في منازلة الرئيس ساركوزي في الانتخابات الرئاسية القادمة. لا رابح حقيقي ولا خاسر حقيقي في مؤتمر ريمس الذي أجمعت الصحافة الفرنسية والطبقة السياسية على تنوعها على وصفه بالمؤتمر «الكارثي». كارثي لأن قادة الحزب لم يتوصلوا إلى اتفاق يذكر حول جنس وطبيعة الاشتراكية التي يريدونها للفرنسيين، وفشلوا أيضا في إيجاد صيغة توافقية تسهل عملية انتخاب الكاتب الأول ضمن المرشحين الأربعة وهم: سيغولين روايال وبرتران دولانوي ومارتين أوبري وبنوا هامون، مما استدعى إعطاء الكلمة يوم الجمعة للأعضاء المنخرطين لاختيار من يرونه أهلا لخلافة فرانسوا هولاند، الشريك السابق لروايال الذي أمضى 11 عاما على رأس الحزب دون عطاء يذكر على مستوى التأطير أو على مستوى المشروع السياسي الذي ظل غائبا في عهده. التشكيك في الهزيمة نطق اقتراع الجمعة بعد انسحاب كل من برتران دولانوي وبنوا هامون، بفوز المرشحة مارتين أوبري على منافستها سيغولين روايال بنسبة 0.04 نقطة مئوية فقط، أي بواقع 42 صوتا، فيما أفادت وسائل الإعلام بأن 18 صوتا على الأقل نسبت بطريق الخطأ إلى أوبري التي حصلت وفق النتائج شبه الرسمية المعلن عنها في وقت مبكر من صباح السبت، على 50.02% من الأصوات مقابل 49.98% لروايال. ولم يصوت سوى 134784 عضوا فقط من أعضاء الحزب الاشتراكي البالغ عددهم 270 ألفا. وفيما اعتبرت أوبري نفسها الفائزة بأمانة الحزب، ووعدت بمداواة الجروح التي ألحقها الاشتراكيون بأنفسهم، على حد تعبيرها، رفضت سيغولين روايال التسليم بالهزيمة وانتقدت منافستها مارتين أوبري لإعلانها الفوز قبل أن يبت الحزب في الشكاوى المقدمة، وقبل أن تتم مراجعة نتائج التصويت. روايال لم تقف عند حد وجوب انتظار قرار المجلس الوطني الذي سيعلن غدا الثلاثاء عن النتائج النهائية، بل أكدت في تصريح للقناة الفرنسية الأولى أنها لن تتخلى عن المعركة وأن «الحل الوحيد هو إجراء انتخابات جديدة بعد أن تم التلاعب بشكل سافر في الأصوات». ضربة موجعة لسمعة فرنسا مثل هذا الكلام عن «انتخابات جديدة والتلاعب بالأصوات» ألفنا سماعه في انتخابات كينيا وزيمبابوي وفي بلدنا الحبيب أيضا، ويذكرنا أكثر بالصراع سنة 2003 بين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ووزيره الأول علي بنفليس على موقع الزعامة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية ومنها الترشح لرئاسة الجمهورية. وقد تتبعت باهتمام هذا الصراع الذي سحق فيه بوتفليقة وزيره الأول سحقا باستخدام كل صنوف الاحتيال والتلاعب وحتى التهديد أحيانا، ولم يترك له سوى كمشة من المؤيدين في أوساط الأجهزة القيادية بالجبهة (37 من 345 من بين أعضاء اللجنة الإدارية والمكتب الوطني واللجنة التنفيذية). ولم يحقق بنفليس أكثر من 8% في الانتخابات الرئاسية. التزوير والتلاعب في التصويت أمر مألوف إلى حد التطبيع معه في البلدان المتمرنة على الغش بمختلف صنوفه، لكن المثير للدهشة هو أنه يثار اليوم في واحدة من أعرق الدول وأكثرها تجذرا في الديمقراطية. التلاعب في التصويت لا يؤكده أنصار روايال الخاسرة فقط، بل أيضا مؤيدو أوبري الذين باغتوها صباح الأحد بمقولة مثيرة: «فوق الغشاش غشاش ونصف»، بمعنى أن أنصار أوبري لم يكونوا ليتلاعبوا بالأصوات لو لم يسبقهم خصومهم إلى ذلك. صراع بين تيارات متباينة هكذا إذن يذهب السباق المحموم نحو الزعامة إلى حد المس بأقدس المبادئ والقيم التي قامت عليها فرنسا. والمثير أيضا أن مثل هذه الممارسات تحدث في حزب كان طوال عقود النموذج الأمثل للاشتراكية العالمية، واستلهمت منه العديد من الأحزاب الأوربية جملة من التوجهات والمرجعيات الاشتراكية التي أسس لها قادة تاريخيون من أمثال جان جوريس وليون بلوم وفرنسوا ميتران. والوضع الذي يعيشه الحزب اليوم ليس كارثة له وللديمقراطية فحسب، وإنما لصورة فرنسا التي حملت على امتداد قرنين أو يزيد مشعل الديمقراطية واحترام إرادة الناخب دون تزوير أو تلاعب. فالقول بالتلاعب بالنتيجة وبإعادة الانتخابات، يثير شبح صراع قد يطول وقد يعصف بالحزب الذي هو اليوم منقسم 50 على 50 % بين فريقين ينظمان اليوم خلافاتهما على خلفية صراع فكري بين تيارات متباينة، اشتراكية، ليبرالية، حداثية، محافظة، يسارية متشددة... وبين قادة لا يقولون شيئا دقيقا ولا واضحا ولا مفهوما للفرنسيين الذين أعربوا في آخر استطلاعات الرأي عن يقينهم بأن الاشتراكيين على ما هم عليه من تنازع على مناصب القيادة، لا يملكون مشروعا واضحا للقيام الإصلاحات التي تحتاج إليها فرنسا. ساركوزي المستفيد الأول ولأنه بطبيعة الحال المستفيد الأول من انقسام الاشتراكيين الذين لم يشعر معهم الرئيس نيكولا ساركوزي في واقع الأمر، بأية معارضة تذكر حتى الآن في تنفيذ برنامجه للإصلاح الداخلي، فقد استغل اليمين الحاكم المناسبة لتوجيه انتقادات ساخرة إلى «المشهد المحزن للحزب»، كما قالت وزيرة الاقتصاد كريستين لاغارد، فيما شدد زميلها وزير العمل كزافيه برتراند على «أزمة الثقة» القائمة بين الاشتراكيين والمجتمع الفرنسي. وعاب الناطق باسم حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، الحزب الحاكم، على الاشتراكيين فقدانهم ل»مشروع» وطني لفرنسا مما يعني ضمنا أنهم يسعون وراء السلطة ليس إلا. أما الرئيس ساركوزي المشهود له بلسانه التحقيري الساخر، فقد اكتفى بالرد على القناة الأولى التي سألته عن واقع الحزب الاشتراكي بالقول: «ليس لي ما يكفي من الوقت لأشغل نفسي بالأمور الثانوية، فهذه ليست المرة الأولى التي يتنازع فيها الاشتراكيون على مناصب القيادة»، تاركا المجال لحزبه لإصدار بيان يؤكد فيه أن «الحزب الاشتراكي أصبح خرابا... ولا يوجد شيء يوحد قادة الحزب سوى الكراهية العنيفة الباعثة على الدهشة». قوة في التغيير ولم تقتصر الانتقادات الموجهة إلى الاشتراكيين على الحزب الحاكم والأحزاب اليمينية المختلفة، بل حمل اليسار أيضا بشدة على ما سماه ب»مؤتمر المهزلة» الذي يعرف لأول مرة في تاريخه مثل هذا التصادم على الزعامة بين امرأتين بينهما هوة سحيقة إن لم يكن جدارا سميكا. فالأولى، أي روايال (54 سنة)، قدمت نفسها على أنها قوة من أجل التغيير وتعهدت بضخ دماء جديدة في الحزب. وقد ازدادت في داكار وتنتمي إلى عائلة بسيطة من تسعة أبناء. حصلت على دبلوم المدرسة الوطنية للإدارة التي تخرج منها أجيال من كبار الموظفين الحكوميين والزعماء السياسيين في فرنسا، وشهادة عليا في العلوم السياسية. وعملت في المحكمة الإدارية بباريس قبل أن تدخل المعترك السياسي حيث تقلدت العديد من الوزارات في عهد الحكومات الاشتراكية مثل وزارة الأسرة والبيئة والتربية. وقد تم انتخابها من قبل الحزب الاشتراكي لخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي هُزمت فيها أمام الرئيس ساركوزي. وركزت في برنامجها الانتخابي داخليا على الشباب وكيفية الحد من البطالة في صفوفهم، واقترحت العديد من الامتيازات لهذه الفئة أهمها: إعطاء القروض بدون فوائد والتأهيل المهني. اشتراكية حداثية وتتبنى روايال التي رزقت بأربعة أبناء من رفيقها فرنسوا هولاند الكاتب الأول الحالي للحزب، اشتراكية ليبرالية حداثية تؤمن بالابتكار الاقتصادي والمبادرة الحرة دون إلغاء دور الدولة. وتنهج سياسة الانفتاح على يمين الوسط التي مارستها عشية الدورة الانتخابية الثانية لرئاسة الجمهورية بالتقرب من فرنسوا بايرو. وهي ذات الاستراتيجية التي تنادي بها دائما إذ تقول إنه: «لا توجد مواضيع خاصة باليمين وأخرى باليسار، وإن الاتفاق يمكن أن يتم بين الجميع بغض النظر عن حزبه السياسي، وكذا ضرورة أن يتم التحالف بين يسار عريض والمطالبين بنظام دولي جديد ويمين الوسط». ويرى العارفون بالشأن السياسي الفرنسي أن في التوجه الوسطي لسيغولين روايال ما يبرره، فاليسار المتشدد لا يريد المشاركة في الحكم، والحزب الشيوعي يعيش سنواته الأخيرة، والخضر لا يتقدمون منذ ثلاثين سنة، وليس أمام الحزب الاشتراكي إلا التحالف مع قوى أخرى وخاصة يمين الوسط. ترسيخ التوجه اليساري أما الثانية، مارتين أوبري (58 سنة)، عمدة مدينة ليل التي خاضت الانتخابات تحت شعار ترسيخ موقع الحزب في اليسار، فتريد حزبا متجذرا في اليسار ومتحالفا مع شركائه الطبيعيين أي الشيوعيين والخضر، كما تشدد على حزب يواكب، على حد قولها، الحركة الاحتجاجية والشعبية الفرنسية. وقد نجحت في تشكيل تحالف يضم شخصيات مخضرمة في الحزب الاشتراكي مثل رئيس الوزراء السابق لوران فابيوس، في محاولة للتغلب على روايال التي تتمتع بشعبية في أوساط الشباب. وحظيت في هذه الانتخابات بدعم من المرشحين الاثنين المنسحبين، ومن تحالف غير متوقع من «الأفيال»، وهو الوصف الذي يعرف به الحرس القديم للحزب الاشتراكي. وتنتمي مارتين أوبري إلى أسرة سياسية، فوالدها هو جاك دلور وزير المالية الاشتراكي السابق والرئيس السابق للجنة الأوربية. وتخرجت هي الأخرى من المدرسة الوطنية للإدارة، قبل أن تشغل مناصب وزارية عديدة أهمها وزيرة الشغل في الفترة ما بين 1997 و2000، حيث سجلت خلالها اسمها في تاريخ قوانين الشغل الفرنسية بخفضها ساعات العمل من 39 إلى 35. وقد وجهت إليها اتهامات شديدة بسبب صعوبة تطبيق القانون لدى قطاعات هامة من العاملين وخاصة القطاع الطبي، حيث تراكمت ساعات العمل الإضافية التي يقضونها بسبب عدم قدرتهم على ترك عملهم في موعد الانصراف. عملية تنظيف واسعة وقد رددت أوبري طوال الحملة الأخيرة ما أرادت توصيله إلى جمهورها من أن حظوظ الاشتراكيين ليست مرتبطة باختيار زعيم له جاذبية شديدة، فالفرنسيون «لا يطلبون منا الإتيان ببطل، وإنما تقديم اقتراحات لبناء مجتمع يمضي بالحضارة خطوات إلى الأمام». وبالعودة إلى نتائج الانتخابات، فإنه لا بد من الإقرار بأن الوضع معقد والسيناريو ينم عن كارثة. فهي لم تعط شرعية قوية لكل من المتنافستين. اثنان وأربعون صوتا فقط هي التي حملت مارتين أوبري إلى زعامة الحزب وهي زعامة مشكوك نسبيا في شرعيتها بحجة ما تردد من تلاعب في الأصوات ولذلك يتوقع أن تنظر الهيئات العليا للحزب الاشتراكي غذا الثلاثاء في موضوع الاتهامات المتبادلة بين معسكري أوبري وروايال بالتلاعب بالأصوات . لذلك فإن الأكيد هو أنه يجب إعادة النظر تماما في الحزب الاشتراكي الحالي، وأن التي ستنتصر بالتراضي أو التوافق أو الاقتراع لا يجب أن تتراجع عن عملية تنظيف كبيرة واقتراح مشروع جديد والقيام بتعبئة شاملة لكافة الناشطين الحائرين والمترددين.