قراءة متأنية في الخطاب السياسي الذي تبناه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحملة الانتخابية الأخيرة، تدلّنا بسرعة على أن الحزب هو في طريق التخلي عن خطه المتشدد وعن عقيدة التصادم الثوري مع الرأسمالية، والاتجاه نحو الموازنة المرنة بين الليبرالية الاجتماعية والاشتراكية، مع التخلي عن الخط التقليدي المتشدد والقائل "إما معي أو رجعي". وقد اختار الحزب في خطابه السياسي الأخير، توظيف لغة معتدلة خالية من التعصب الاشتراكي الزائد الذي أظهر محدوديته في حشد ما يلزم من دعم داخلي، لا سيما وأن الضمير السياسي المغربي شبّ بما يكفي لرفض الشعارات الرنانة المبنية على أمجاد الماضي. ويقرأ الكثيرون في الخطاب الاعتدالي الجديد، مقدمة لتحول حاسم في المسار السياسي للحزب الذي يعمل اليوم على بلورة رؤية إيديولوجية حديثة تضفي عليه حلة الحزب الديمقراطي القريب من التنظيمات الليبرالية، وتجعله يتعامل بقدر أكبر من الواقعية مع مشاغل المغاربة. وقد زكى هذا التوجه جيل جديد من أطر الحزب بتأكيدهم على أن غالبية المغاربة لم تعد تُنصت لما يقوله الحزب لأنه لا يقول شيئا دقيقا ولا مفهوما، بل أوهاما اشتراكية طواها الزمن. وكلام هؤلاء ناجم بالتأكيد عن الشعور المتزايد لديهم بضرورة أن تستجمع القيادات الاشتراكية قواها وتعود إلى سطح الأحداث متشبعة بتوجه جديد قريب من الليبرالية الاجتماعية. والصراع داخل الحزب هو بين دعاة التغيير المتطلعين إلى احتلال مواقع في القيادة والقائلين بأن الصقور القدامى لا يقرأون التاريخ السياسي الحديث بما يساعد على تطوير الحزب بمنظور يقيم علاقة تجاذبية مع تحديات العولمة ومجتمع اليوم، والمتشددين الذين لا يقبلون بالمس بالثوابت الاشتراكية المرتكزة على الاجتماعي قبل الاقتصادي، واقتصاد الدولة قبل المبادرة الخاصة. وذلك يعني تحديدا أن التيارالأول يريد تجديد الحزب فكريا في اتجاه التحالف مع يمين الوسط.وملخص فلسفة التيار الاشتراكي الجديد أنه لا توجد مواضيع خاصة باليمين وأخرى باليسار، وأن الاتفاق يمكن أن يتم بين الطرفين بغض النظر عن تيارهما السياسي. ويجد هذا التيار تبريرات مقنعة حينما يؤكدون أن اليسار المتشدد أو ما يسمى بيسار ايسار، لا يتقدم منذ 30 سنة لأنه يبني برامجه على إيديولوجية واهية لا علاقة لها بواقع المغرب الاجتماعي والاقتصادي, إيديولوجيا عصفت بكل دول العالم التي سارت على منوالها ف"أمعنت فيها البطالة المفحشة والفقر والتخلف وسوء التغذية"، كما قال الاشتراكي الديمقراطي العالمي ميخائيل غورباتشوف الذي تدرج في كل مسؤوليات حزبه الشيوعي إلى أن أصبح رئيسا للدولة وقائدا للشيوعية العالمية، قبل أن يفضحها ويفكك أركانها لينهار على التو الاتحاد السوفياتي ومعه عشرات الدول التي كانت تدور في فلكه, ولم يثبت أن حظي اليسار المتشدد، بتحالفاته المختلفة، بثقة أزيد مناثنين في المئة من أصوات الناخبين, وليس اليسار وحدهمن يعيش، برأيهم، حالة صحية ميئوسة، فالحزب الشيوعي (التقدم والاشتراكية) يتأرجح بين الصعود والسقوط، ولا يمكنه أن يشكل كتلة قوية يمكن التعويل عليها، والخُضر غائبون بالمرة، وليس أمام الاتحاد الاشتراكي إلا التحالف مع قوى أخرى وخاصة يمين الوسط الذي يمثله حزب الاستقلال الجدّ الوراثيللاتحاد الاشتراكي. ويأخذ دعاة التحديث على المتشددين غياب ثقافة الإنصات (الأذن) لديهم، والافتقار للمرونة اللازمة للتعامل مع زحف العولمة الليبرالية، فضلا عن تهويل ثقافة "الأنا الحزبية" التي كرست الثنائية التخوينيةالقائمة على إما "اشتراكي متشدد أو خائن"، وهي ثنائية بقدر ما خلقت حالة من التصادم الداخلي، ضيعت على الاتحاد الاشتراكي عقودا من الحكم وتدبير الشأن المغربي. ومن حسنات التيار التجديدي أن أشعل الفتيل في هشيم الاتحاديين اليابس بدعوته إلى اشتراكية مرنة تقوم على قاعدة الاقتصادي قبل الاجتماعي، بمعنى دعم المبادرة الخاصة وتحسين تنافسيتها يسبق مسألة الأجور. فالمبادرة الخاصة، برأيهم هي وحدها القادرة على خلق الثروة، ومن تمّ تحسين أوضاع المأجورين. ثم إنهم لا يرفضون بشكل ميكانيكي كلمة "ليبرالي" بل يعتبرونها مجدية بشكل كبير للاشتراكية. ومن هنا فإن الليبرالية الإنسانية، ستدخل قريبا قاموس الاشتراكيين، بعد أن يكفّوا عن اعتبار المنافسة والمبادرة كمفردات عقيمة وفارغة. وفي ظل الانقسامات الداخلية والجمود الذي زاد من حدته الصراع على مواقع القيادة، يذهب البعض إلى القول، إن الاتحاد الاشتراكي الذي سكن وجدان المغاربة في مرحلة عسيرة من تاريخ المغرب السياسي، بات اليوم في مواجهة اختيارين واضحين، إما أن يعمل على التخلي بالمرة عن إيديولوجية اشتراكية متشددة وعقيمة، ويتجه نحو ديمقراطية اجتماعية دولية، أويتقوقع في الاشتراكية الوهمية بمفاهيمها البالية التي عصفت بكل دول أوربا الاشتراكية، وتعصف اليوم بمعظم الأحزاب الأوربية، حيث اليسار المتشدد لم يحصل في الانتخابات البرلمانية الأوربية الأخيرة على أكثر من 6 في المئة من المقاعد. ومن هنا فإن الخيار الأنسب للاتحاد الاشتراكي، هو التصالح مع الديمقراطية الليبرالية الاجتماعية ومبادئها الإٌنسانية، وإلا الدخول في قطيعة مع المغاربة قد تقضي على ما تبقى لديه من شعبية باهتة في أوساط الشباب والنخب المثقفة. والمؤتمر الحادي عشر للحزب هو محطة حاسمة للبت،من جهة، في التوجه الإيديولوجي للحزب بما يؤهله بأن يكون كتلة سياسية فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي المغربي، ومن جهة أخرى، في انشغال الحزب بصراعات داخلية عقيمة تعذر معها تأطير مناضليه، ومن خلالهم خلق تيار جماهيري واع ويقظ، ينتقل من طور البكاء على الأمجاد إلى طور الإصلاح الفعلي المنشود.