إن التفكير للوهلة الأولى في موضوع التعاقد، الذي أطلقته الحكومة للمرة الأولى سنة 2016. يعطي ودون حاجة للإطلاع على حيثيات الموضوع، وحتى في حالة غياب الخبرة العلمية، أو المستوى المتواضع من المعرفة أو إنعدامها. يعطي التعاقد إنطباعا سيئا، وتراجعا لوضعية الموظف داخل المرفق العمومي. فخلفية هذه الرؤية التي تبقى صائبة، خصوصا في المجتمع المغربي. تحيل على تلك العقدة أو ذلك التعاقد بالقطاع الخاص، وما راكم هذا القطاع من سمعة تغلب عليها الزبونية والإستغلال والإحتقار، وموازنة قيمة الإنسان بما ينتجه داخل الإطار المنفعي الأناني. هذا هو الموقف العام، وهو نفسه الموقف الذي سيسجله الباحث الأكاديمي. الذي لن يكون التعاقد في معايير خبرته، إلا إرتدادا لنماذج مماثلة لأزمات سابقة، عاشها المغرب منذ عقود مضت. وربما هذه المسيرات التي نشاهدها اليوم في شواعنا، هي مؤشرات بداية إحتقان إجتماعي، تحيلنا على سياق مجيء دستور 2011، في مخاض لم يكن سهلا. إن حكومة عبد الإلاه بن كيران وهي تؤسس للتعاقد، لم تكن نهائيا تفكر في الجهوية، ولا العدالة المجالية، كما يدعيه البعض اليوم. بل كان الدافع بالأساس إيجاد صيغة بها نوع من الإجتهاد، في فك معضلة بطالة حاملي الشواهد. وأما تخفيض الإكتضاض داخل المؤسسات التعليمية العمومية، الذي كان قد وصل إلى أرقام كبيرة، فكان هو المرتكز/الصدفة للتشغيل بالعقدة. لكن تجاهل الحكومة لوضعية هذه الفئات من الأساتذة، وإستبعاد المناصب المالية المخصصة للتعليم منذ 2016، والربط المتهكم للتعاقد بالجهوية. في محاولة للتملص من الواجب اتجاه المدرسة العمومية وأطرها، والحديث عن عدالة مجالية بشرية، في غياب تام لعدالة الثروة والمؤهلات. فهذا هو الدافع للإحتقان الذي تعرفه المنظومة التربوية اليوم. والذي يحيلنا عل تاريخ أسود من فترات سابقة من مغرب الماضي. فقد عرف المغرب بعد الإستقلال أزمات/إنتفاضات عديدة، كانت الأولى إنتفاضة التلاميذ سنة 1965: ضد مقرر وزاري يمس حقهم في التعليم. تلتها إنتفاضة الخبز، بعد إعلان الحكومة الزيادة في الأسعار، بضغط من المؤسسات المالية الدولية سنة 1981. والتي شكلت مقدمة لإحتجاجات/إنتفاضة الريف، والمعروفة أيضا بإنتفاضة الخبز أو إنتفاضة الجوع أو إنتفاضة التلاميذ. والتي جاءت في سياق إقتصادي تميز ببداية تطبيق المغرب لسياسة التقويم الهيكلي، المملاة آنذاك من طرف صندوق النقد الدولي. والتي كان من تداعياتها ارتفاع كلفة المعيشة، وتطبيق رسوم إضافية على التعليم سنة 1984. ثم إنتفاضة فاس، التي كانت نتيجة الرفض الشعبي للتوجهات التقشفية والتفقيرية، التي رسمتها سياسة التقويم الهيكلي، والتي جاءت بإملاءات صريحة من صندوق النقد الدولي وذلك سنة 1990. وإنتفاضة أيت باعمران نتيجة الفقر والتهميش سنة 2008. كل هذه الأحداث أجبرت الحكومات على التراجع عن الزيادات التي فرضتها على الأسعار، لكن بعد أرتكاب لمجازر حقيقية في حق المغاربة. لتتبادل بعد ذلك الحكومة والمعارضة والأحزاب فيما بينها، تحميل المسؤولية لبعضهم البعض. وهو نفس ما نشاهده اليوم. ان التزام الحكومة المغربية، امام صندوق النقد الدولي. بتفيذ عدد من الإصلاحات، فيما يخص الضرائب والتشغيل والتحكم في كتلة أجور الموظفين. مقابل الحصول على مزيد من الديون. بعد إقتراح البنك الدولي على الدول التي تعتمد مجانية التعليم والصحة، إلى فتح أسواق هذين القطاعين أمام المنافسة الداخلية والأجنبية. فهذه المؤسسة الدولية التي تتدخل في شؤون الدول الداخلية والخارجية، وتحدد شروط التنمية، لا تعتبر نفسها مسؤولة عن النتائج. لأنها في آخر المطاف تبقى مجرد مؤسسة مالية تسعى للربح والمصلحة الخاصة، وليس بالضرورة المصالح الحقيقية للدول. إن إضراب الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد عموديا وأفقيا، والذي دخل أسبوعه الثالث على التوالي. لتجد مؤسسات تعليمية عمومية عديدة نفسها مقفلة كليا منذ إنطلاق الإضراب، وأخرى تعيش إرتباكا عل مستوى حضور الأساتذة. مما تسبب في هدر الكثير من الزمن المدرسي. ناهيك عن قطع أجور الأساتذة دون سند قانوني، والترويج لمغالطات قانونية. كل ذلك راكم نوعا من عدم الرضا العام على الوضع. مما قد يقودنا لأزمة حقيقية، أو إنفجار إجتماعي وإحتقان عام، لن تكون نتائجه محمودة العواقب. فالتعاقد ولا حتى التوظيف الجهوي، ليسا في حقيقتهم خيارا إستراتيجا، بالنظر إلى المنطلقات السالف ذكرها. وأيضا لكونه مجرد رؤية ضيقة للحكومة، في محاولة للخروج من مأزق مطالبة الأساتذة بالإدماج. وتعنتها الناتج عن رغبتها في مزيد من الإغراق في الديون. فهل سبق للحكومة أن طرحت للنقاش العمومي أو حتى الحكومي، مسألة ربط الجهوية بالتوظيف، الجهوية التي لم تكن من مدخلات التعاقد حتى تصبح من مخرجاته. أو حتى التفكير في إلغاء التعاقد قبل هذه الإحتجاجات. وحتى العدالة المجالية على مستوى الثروات البشرية، لا يمكن إستحضارها في غياب عدالة الثروات المالية والمؤهلات. فالمسألة لا تتجاوز تدبير/تهرب حكومي، من أزمة هي صانعتها. ومحاولة الربط المجاني لمصالح أمة وشعب بهيمنة المؤسسات الدولية. التي تكرس التبعية والفقر. فكفانا عبثا بالمصلحة العامة، لفائدة المصلحة الخاصة أو الحزبية الضيقة. فالوعي الإجتماعي والمناخ الدولي، لم يعودا يسهلان عملية التملص من المسؤولية. أم أننا ننتظر كارثة إجتماعية أخرى تنضاف لمآسي المغرب الأسود، رغم أن تبادل الإتهامات حول المسؤول عن التعاقد، بدأت في التداول بين فاعلينا السياسيين.