خارت قوى الشمس أمام جحافل الظلام الزاحفة جارة خلفها ذيول خيبة الهزيمة، أشعتها حمراء، متعبة من السطوع طيلة يوم كئيب، منكسرة الخاطر، تفوح منها رائحة الحمى، تاركة وراءها قرية تعيسة منسية على أهبة أن تذوب معالم عمرانها وملامح شقاوتها تحت برودة المكان واستبداد الليل وصمته الثقيل... إنها لحظة الإيذان لأطفالها لمغادرة قسم دراسي سمي بهذه التسمية ظلما وعدوانا، ما دام لا يتوفر على الحد الأدنى لوصفه كذلك، لكن بالرغم من ذلك يجدونه أرحم لما يجدون فيه من غفلة -ربما من أخطاء الزمان- تبعدهم من الأعمال الشاقة ولو بعد حين... أطفال بمجرد النظر إليهم يتعرى أمامك واقع مغربك الحبيب، وعمق جراحات المغرب العميق في مختلف المناحي، وتتأكد أن ثمة أزمة حقيقية.. أسمال بالية، صنادل بلاستيكية في أحسن الأحوال، ضحكات هنا وهناك غير آبهين بالبرد الذي يغزو أجسامهم النحيفة وعظامهم الهشة، تعلو خدودهم حمرة الألم لا حمرة الترف، الدماء شبه مجمدة في عروقهم فيرتجفون بردا، صغار يعتبرون مشاريع قرابين للبرد والصقيع والثلوج، ومن نجا من ذلك يكون قربانا للهذر المدرسي والجهل والتخلف... كم من مثيلات هذه القرية تئن تحت وطأة الفقر المدقع والتهميش و"الحكرة"، ومعاناة لا حدود لها... كل تفاصيل حياتها تنطق بالمفهوم الحقيقي للعزل؟ إنها وصمات عار على مغرب أرادوا له أن يكون أجمل بلد في العالم. يودعهم أستاذهم على أمل أن يلتقوا غدا، ينسابون في الوادي انسيابا، ويملؤون الدنيا ضجيجا، ويخفت تدريجيا حتى يبتلعه الوادي الذي يفصل الدوار بالمدرسة، ربما كانت شيئا غير مرحب به في بدايتها، لذلك عزلوها فوق تلك التلة كأنها مصابة بالجذام... لكن الأستاذ يحاول أن يجعلها منارة تخرجهم من متاهة النسيان... يتركونه وحيدا معزولا بلا حول ولا قوة، تمزق مشاهد البؤس خاطره أشلاء، ينفث آهات، ويلعن هذه البلاد الموبوءة، يعتصر ألما أمام تأملاته اليومية لمشاهد قاسية يدمع لها القلب قبل العين وتشيب لهولها الولدان، ويقول في قرارة نفسه: "لو خر هذا الجبل قبالتي واستوى مع الأرض وكنا نسيا منسيا أحسن مما نعيشه من مآسي"! سقطت من مقلتيه دمعتان ساخنتان واسترسل في مونولوك برائحة الموت: "بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي... إلى الجحيم يا وطنا يبادلنا الحب بالصفعات". أستاذ، متى سنبدأ في الاستفادة من المطعم المرسي؟ سؤال روتيني برئٌ تفوح منه رائحة شوق قديم بعد طول انتظار... سؤال يغتال فيه آخر ذرة احترام للمسؤولين في هذه البلاد.. فتح الشفق الأحمر أحضانه لمعانقة نعيق البوم، ودخل الأستاذ كوخا قيل له في بداية عهده بالسبورة والطبشورة: إنه السكن الوظيفي، ليبدأ معركة أخرى في جبهة جديدة.