لقد اقتضى شيوعُ رواية الحديث، نشوءَ قواعدَ تضبط طرق هذه الرواية، فإن الصحابة تحملوا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعا مباشرا، ثم شرعوا في أداء ما تحملوه. والأصل في هذا الأداء هو إسماع طلبة العلم من التابعين، بأن يُمْلِيَ الصحابيُّ(الشيخ) الحديثَ، والتابعيُّ(الراوي) يسمع، وهكذا يفعل التابعي مع تلاميذه. ولكن قد يكون هذا الأداء بغير الإسماع، كأن يوافق الشيخ على ما يعرضه طالب الرواية من حديث؛ وقد بوّب البخاري في كتاب العلم من صحيحه بقوله: «القِرَاءَةُ وَالعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ»، فبين جواز ذلك. وقد يكون الأداء بكتابة الشيخ الحديث إلى الراوي، كما روى البخاري في كتاب التمني عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ... قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ». وطرق الرواية هاته، هي التي اصطلح عليها المحدثون بطرق التحمل والأداء، ومعرفتها ضرورية في صناعة الحكم على الحديث كما سيتبين لاحقا. وقد عد علماء الحديث في طرق التحمل ما يلي: السماع –وهو أعلاها– ثم العرض، أي قراءة الحديث على الشيخ، ثم الإجازة، أي إذن الشيخ للراوي أن يروي عنه، ثم المناولة, أي مناولته الأحاديث مكتوبة، ثم المكاتبة, أي أن يرسل إليه الحديث كتابة، ثم الإعلام، وهو إعلام الشيخ الطالب بأن هذا الحديث أو الكتاب سمعه من فلان من غير أن يأذن له في روايته عنه, ثم الوصية، أي أن يوصي الشيخ للطالب بكتاب أن يأخذه بعد موته أو سفره، ثم الوِجادة، أي أن يجد كتابا لشيخ كتب فيه أحاديث بخطه.(راجع الإلماع للقاضي عياض). وكل طريق من هذه الطرق يُؤدَّى عنه في الرواية باللفظ الذي يناسبه، مبالغةً في تحرِّي الصدق، وهذا لعمري ممّا يستوقف كل منصف: فمن سمع من شيخه يقول في الأداء: سمعت أو حدثني ومن عَرَض عليه، يقول: قرأت على فلان أو أخبرني ومن أخذ الحديث إجازة أو مناولة يقول: أنبأني ومن أخذه مكاتبة يقول: كتب إلي ومن أخذه إعلاما يقول: أعلمني ومن أخذه وصية يقول: أوصى لي فلان ومن أخذه وجادة فيقول: وجدت بخط فلان. فلله درُّ أهل الحديث، ما أشدّ حذَرهم وتحريَّهم للصدق.