الإسناد خصيصة علمية ومنهجية من خصائص الأمة الإسلامية، بها اتصلت معارفها المؤسّسة، وتدُوول إرثها الحضاري عبر الأجيال. ومن هذا الإرث المروي بالسند أمهات المصنفات، وآصل المصادر المرجعية الإسلامية، وقد شارك في النقل -خصوصا في زمن ازدهار الرواية- ثلة من فضليات المحدثات المسندات؛ لأن الأسانيد كما قيل أنساب الكتب. وقد ارتأيت قبل الحديث عن عنايتهن بنقل الموطأ، أن أقدم لذلك بتعريف للرواية، وبيان ميزة مالك رحمه الله وموطئه، التي جعلت أفئدة الطالبين تهوي إليه رواية وتفهما وتفقها.. الرواية في اللغة والاصطلاح جاء في مقاييس اللغة لابن فارس: "روي: الراء والواو والياء أصل واحد، ثم يشتق منه. فالأصل ما كان خلاف العطش، ثم يصرف الكلام لحامل ما يُروى منه. فالأصل: رَويتُ من الماء ريا، وقال الأصمعي: رَوَيتُ على أهلي أروي رَيا. وهو رَاو من قوم رُوَاة، وهم الذين يأتونهم بالماء. فالأصل هذا، ثم شُبه به الذي يأتي القومَ بعلم أو خبر فيرويه، كأنه أتاهم بريهم من ذلك" وفي قاموس الفيروز أبادي: "الرواية: المزادة فيها الماء. والبعير والبغل، والحمار يستقى عليه. روى الحديث يروي رواية وتروّاه: بمعنى. وهو راوية للمبالغة. والحبل: فتله فارتوى. وعلى أهله ولهم: أتاهم بالماء. وعلى الرجل: شده على البعير لئلا يسقط. والقوم: استقى لهم...". وقال الزمخشري: ".. ومنه قولهم: هو راوية للحديث، وروى الحديثَ: حمله. ومن قولهم: البعير يروي الماء أي يحمله، وحديث مَروي، وهم رُواة الأحاديث وراووها: حاملوها. كما يقال: رُواة الماء(...)، ورَوّيتُهُ الحديث: حملته على روايته"[1]. فالرواية من ناحية الدلالة اللغوية تدور أغلب معانيها ومشتقاتها حول "الحمل" وتفيد في بعض الاستعمالات معنى" العناية"، أما من الناحية الاصطلاحية: فتُحصر وتختص ب "رواية الخبر" بمعنى حمله من طرف الراوي الحامل والناقل له بأحد طرق التحمل الثمانية المعروفة في الاصطلاح الحديثي: كالسماع، والعرض، والقراءة، والمناولة، والإجازة، والوصية، والوجادة، والإعلام. ولا يكفي الحمل فقط، بل لابد من الاعتناء بالمحمول حفظا وضبطا، وتوفر شروط العدالة والصدق في الراوي؛ قال السيوطي في التدريب: "حقيقة الرواية نقل السنة ونحوها وإسناد ذلك إلى من عزي إليه بتحديث أو إخبار أو غير ذلك"[2]. فهي إذن ذلك المنهج النقلي المعتمد لدى علماء المسلمين لنقل علومهم ومعارفهم وتوريثها للأجيال جيلا بعد جيل، مع إحاطة هذا المنهج بضوابط الحفظ والصون، وقواعد النقل السليم. الإمام مالك رحمه الله: كهف الراحلين، وقبلة الرواة طلاب الرواية والتفقه فيها عادة ما يتحملون مشاق الرحلة واكراهاتها، إذا كان المرتحل إليه مشهودا له بالإمامة في العلم، والتمكن فيه، مع شهرته بذلك في الآفاق.. وكثير من العلماء ممن رحلوا أيام الطلب، ارتبطت مكانتهم وشهرتهم ومجدهم بجلالة شيوخهم، وبما حملوه عنهم من أنواع العلوم، وبما رووه عنهم من أصناف المرويات والكتب وأصول المعارف. والإمام مالك بن أنس رحمه الله، اجتمع له من المميزات والمناقب والفضل، ما جعل الناس علماء ومتعلمين، زرافات ووحدانا، يرحلون إليه للأخذ عنه، والتفقه على يديه بل إن مشيخة العلم اتفقوا أنه المقصود في الحديث الذي أخرجه الترمذي، وأحمد، وابن عبد البر، والحاكم وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة"[3]. وقد حاول الحافظ الذهبي في التذكرة إجمال هذه المميزات والخصائص، التي طبعت شخصية الإمام مالك رحمه الله، ودلت على إمامته وفضله، في خمسة أمور؛ فقال: "وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره، أحدها: طول العمر، وعلو الرواية، وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، وثالثتها: اتفاق الأمة على أنه حجة صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته، وإتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده."[4]. قلت: ويضاف إلى ذلك: كونه عاش في المدينة مجمع الصحابة، ومهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومهد السنة النبوية الشريفة القولية والفعلية، مما مكنه من الاستفادة من علماء عصره، خصوصا أهل بلده، الذين حملوا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصحابة الكرام، وعنهم التابعون الكبار، ومنهم فقهاء المدينة السبعة، شيوخ مالك الذي آل إليه علم أهل المدينة؛ • تميزه بنقد المرويات وشدة التحري والتحقيق والضبط؛ • جمعه بين شرفي الحديث والفقه وتربعه على كرسي الإمامة فيهما؛ • شدة تحريه في الفتوى؛ • سلامة العقيدة؛ الموطأ أخلد أثر للإمام مالك رحمه الله يعد "الموطأ" من أوائل الكتب التي تناقلتها الأجيال منذ عصر التدوين إلى اليوم مرتبا مبوبا كاملا؛ يقول العلامة المحقق الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: "إن أهل العلم ورجال السنة، اتفقت كلمتهم على أن "الموطأ" ألفه الإمام مالك بن أنس رحمه الله وكتبه بيده، وأنه أول كتاب ألف في الإسلام من الكتب التي ظهرت بين أيدي الناس(..)، وإن التوفيق الذي بعث مالكا رحمه الله على تدوين "الموطأ" للطف رباني جعله مثالا لحملة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحقُّ لهم حملها وإبلاغها إلى الأمة، مما استخلصه من طرائق شيوخه؛ فقد رسم مالك بهذا الكتاب طريقته التي تبعها ونوّه بها في مجالس تحديثه ودروس علمه، هي طريقة التمحيص والتصحيح في الرواية، وتمييز من يستحق أن تحمل عنه السنة، وتبين محامل الآثار المروية، بعد أن مضى زمن خلط فيها بين الصحيح والسقيم(..)، وقد خلص علم فقهاء المدينة إلى مالك.. وكانت زكانة رأيه، وصلابة دينه، وقوة نقده، قد هيأت له بتوفيق الله تعالى ذلك المقام الجليل، مقام الضبط، والتصحيح، والتحرير، حتى أيقنا أنه الذي بعثه الله على رأس المائة الثالثة، مجددا للأمة أمر دينها"[5] فلم يكن هم الإمام حشد الروايات وجمعها بقدر ما كان يريد ضبط الصحيح من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإثبات النافع. ويكفي في الدلالة على شدة تحريه رحمه الله ما ذكر من أن أصل "الموطأ" كان نحو عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه، وينتخب ما يوافق أصوله، حتى بقي هذا العدد الموجود الآن؛ قال ابن عبد البر: "جميع ما في الموطأ رواية يحيى بن يحيى الليثي من حديث النبي صلى الله عليه وسلم -مسنده ومرسله ومنقطعه- ثمانمائة وثلاثة وخمسون حديثا.."[6]. وقد ضَمّن الإمام مالك رحمه الله كتابه -كما نص على ذلك القاضي عياض في الترتيب[7]- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين، ورأيه، وما أدرك عليه أهل العلم بالمدينة من اجتهادات واستنباطات، مما جعله كتاب فقه وحديث في نفس الآن. ومن الشهادات الجامعة التي قيلت حول الموطأ، شهادة ولي الله الدهلوي: "من تتبع ورزق الإنصاف علم لا محالة، أن الموطأ عدة مذهب مالك وأساسه، وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه، ومصباح مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ونبراسه، وهذه المذاهب بالنسبة للموطأ كالشروح للمتون، وعلم أيضا أن الكتب في السنن كصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي، وما يتعلق بالفقه من صحيح البخاري وجامع الترمذي مستخرجات على الموطأ، تحوم حومه، وتروم رومه، مطمح نظرهم فيها وصل ما أرسله، ورفع ما أوقفه، وذكر المتابعات والشواهد لما أسنده"[8]. فهذا نص في أهمية هذا الكتاب الجليل، وأثره فيمن بعده. فلا غرو أن تتجه الأفئدة، وتتعلق الهمم بنقله وروايته. رواة الموطأ كان مالك إذا ودعه أحد من طلبته يقول لهم: "اتقوا الله في هذا العلم، ولا تنزلوا به دار مضيعة، وبثوه ولا تكتموه"[9]. وخلاصة علم الإمام سجلها في الموطأ لذا اتجهت الهمم لخدمة هذا الأثر رواية ودراية، سندا ومتنا، فقها وحديثا واستنباطا... وقد رواه عن الإمام مالك -رحمه الله- عدد كثير؛ أوصلهم الدارقطني إلى ألف رجل كما ذكره ابن عبد البر في الانتقاء[10]، وذهب القاضي عياض في المدارك إلى أنهم ألف ونيف وثلاثمائة راو. ثم قال: "والذي اشتهر من نسخ الموطأ، مما رويته، أو وقفت عليه، أو كان في رواية شيوخنا رحمهم الله، أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطآت، نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة"[11]. ومن أشهر الرواة عن مالك -رحمه الله-: محمد بن الحسن الشيباني (189ه)، ومعن ابن عيسى المدني القزاز (198ه)، وعبد الله بن يوسف التنيسي (218ه)، وعبد الله بن مسلمة القعنبي (220ه)، وسعيد بن عفير الأنصاري (226ه)، ويحيى بن يحيى بن بكير (231ه)، ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي (234ه)، وسويد بن سعيد الحدثاني (240ه)، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري (242ه)، و يرهم ممن لا يسمح المجال لذكرهم، وعن هؤلاء الرواة المباشرين، تفرعت طرق الرواية واتسعت وانتشرت مشرقا ومغربا. اهتمام النساء برواية الموطأ اهتمت النساء المحدثات بموطأ الإمام مالك تحملا وأداء، وحملنه عن شيوخهن بمختلف الروايات؛ فالمحدثة زينب الكمالية تروي بسندها الموطأ برواية معن والقعنبي، وسويد الحدثاني، وأبي مصعب الزهري. قال عنها الذهبي: "تفردت بقدر وقر بعير من الأجزاء بالإجازة، وكانت دينة خيرة لطيفة، روت الكثير، وتزاحم عليها الطلبة، وقرؤوا عليها الكتب الكبار(..)، ربما سمعوا عليها أكثر النهار. قال: وكانت قانعة متعففة.."[12]. ومنهن من حفظته حفظا، وعرضته عرضا، كفاطمة ابنة الإمام مالك، وزوج ابن أخته إسماعيل بن أبي أويس وقد عدها القاضي عياض من رواة الموطأ، وذكرها في ترتيبه أكثر من مرة، قال نقلا عن الزبيري "كانت لمالك ابنة تحفظ علمه، يعني الموطأ، وكانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه"، وذكرها الذهبي في خاتمة من روى الموطأ عن مالك كما ذكرها محمد بن أبي بكر القيسي الشهير بابن ناصر الدين في كتابه الموسوم ب "إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك"[13]. ومنهن حفصة ابنة أبي عبد الله السلمي الأندلسية (580ه)، ترجم لها ابن الزبير الغرناطي فقال: "أحكمت على أبيها قراءات السبعة، وقرأت كثيرا من كتب الحديث والأدب، وغير ذلك، ودرست كتاب الموطأ، قال الملاحي: وأخبرت أنها عرضته على خال أبيها أبي بكر يحيى بن عروس التميمي، وكانت فصيحة، سليمة اللسان من اللحن، أقرأ الناس لكتاب وإن صعب خطه وقل شكله ونقطه.."[14]. وممن روينه كذلك بأسانيدهن -حسب ما وقفت عليه- شهدة الكاتبة، وعجيبة الباقدارية، وسيدة بنت موسى المارانية، وفاطمة بنت محمد بن عبد الهادي، وخديجة بنت سراج الدين ابن الملقن، وخديجة بنت جعفر بن نصير التميمي... فأما رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي، ورواية سويد بن سعيد الحدثاني: فجاء في ذيل التقييد -في ترجمة إبراهيم بن محمود بن سالم البغدادي ت648ه- "سمع على شهدة الإبري الموطأ لمالك ورواية سويد بفوت.."[15]، ونقل عن الدمياطي قوله: "تفردت بإجازته -أي بإجازة البغدادي- المعمرة زينب بنت الكمال" وذكر من مروياتها عنه الموطأ للقعنبي، والموطأ لسويد[16]... يتبع في العدد القادم بحول الله تعالى -------------------------- 1. انظر مادة (روي) في مقاييس اللغة، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة للزمخشري وباقي المعاجم اللغوية. 2. تدريب الراوي 1\40. 3. انظر سنن الترمذي باب ما جاء في عالم المدينة، ومسند أحمد حديث رقم 7967 تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الحديث ط 1995، ومستدرك الحاكم ط دار الكتب العلمية ح 307- 308،ج 1ص168، والتمهيد1\84-85 بتحقيق أسامة بن إبراهيم ط 1999 نشر الفاروق الحديثة. 4. تذكرة الحفاظ:1\212 ت199. 5. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، ص:19-20، 6. التمهيد، تحقيق أسامة بن إبراهيم 16\513 7. ترتيب المدارك: 1\101-102؛ ط دار الكتب العلمية؛ 8. المسوى شرح الموطأ 1\25 9. ترتيب المدارك: 1\99 10. الانتقاء ص 45. 11. ترتيب المدارك: 1\108؛و 1\140؛ 12. انظر ترجمتها في: الدرر الكامنة (2\109)، أعلام النساء (2\46) 13. ترتيب المدارك:1\48 باب في ذكر آل مالك وبيته وبنيه، وانظر كذلك1\108 باب في ذكر من روى الموطأ، وسير أعلام النبلاء8\84، وإتحاف السالك ص 192 وقد ذكر ابن ناصر الدين في هذا الكتاب 79 من الرواة، وعد فاطمة الراوية رقم 29. 14. صلة الصلة: 5\313. 15. ذيل التقييد: 1\454. 16. نفسه: 1\455.