في ظل عالم معتمد بعضه على بعض بشكل معقد يستحيل علي أي دولة مهما كان حجم اقتصادها وقدرتها على الاكتفاء الذاتي على العيش بمعزل عن المنظومة الاقتصادية العالمية التي يصعب الفصل بين أبعادها الداخلية والخارجية. لذلك تسعى مختلف الدول إلى الحفاظ على استقرار علاقتها بالآلة الاقتصادية العالمية والسعي للاستفادة القصوى مما تتيحه من تمويل واستثمار وتدفق لرؤوس الأموال. لقد أثبتت العقود الأخيرة أن تعزيز ثقة الرأسمال الأجنبي في البيئة الاستثمارية الداخلية تشكل عنصرا ثابتا في برنامج الحكومات باعتبارها أحد الأعمدة الأساسية لنجاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. لم يكن المغرب في منأى عن هذه الحركية الاقتصادية والمالية العالمية التي لم تعد تعرف الحدود الإقليمية أو السياسية أو الثقافية أو غيرها. لقد أصبح الاقتصاد المغربي اليوم أكثر من أي وقت مضى مرتبطا بشكل مركب مع الاقتصاد العالمي نظرا للعدد الهائل من اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر التي عقدها خلال العقد الأخير مع مختلف شركائه التقليديين. إضافة إلى مختلف أوجه التعاون الاقتصادي والمالي التي يرمي المغرب تحقيقها من خلال هذه الاتفاقيات الدولية، فإن جلب الاستثمار الأجنبي يعد قطب الرحى في هذه الإستراتيجية الاقتصادية الجديدة. ✹✹✹✹✹ تعتبر اليوم الانتخابات النزيهة والشفافة أحد أبرز عناصر الثقة التي تحفز المستثمرين ورجال الأعمال، وتنعش حركية تداول الأموال، وقد لاحظنا كيف انتعشت بورصة الدارالبيضاء فور الإعلان عن نتائج اقتراع 25 نونبر 2011. إن مصداقية الانتخابات الأخيرة وارتفاع عدد المشاركين فيها مقارنة مع انتخابات 2007 سيعطي بالتأكيد دفعة قوية للاقتصاد الوطني، وسيعزز ثقة المستثمر الأجنبي بالقدوم إلى المغرب. ذلك أن التخوفات السابقة من تأثير صعود الإسلاميين على الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب، لم يعد لها معنى اليوم. بالعكس، فالظروف التي جاء فيها حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة لا يشكل فقط عامل استقرار لهذه الاستثمارات، بل أكثر من ذلك سينميها، لاسيما إذا استحضرنا أن أبرز شعارات الحزب هو اعتماد مقاربة جديدة للتنمية الاقتصادية مبنية على الحكامة الجيدة، وتفعيل قواعد الشفافية والنزاهة والفاعلية وتطويرها وإنهاء الاحتكار في النظام الاقتصادي. كما أن جعل مبادئ الحكامة الراشدة محور التجربة الحكومية القادمة، لن يطمئن فقط المستثمر الأجنبي لكونها تخلق بيئة سليمة ومشجعة لانتعاش النمو الاقتصادي، بل هناك من يذهب إلى أن تطبيق مبادئ الحكامة الراشدة سيحل الكثير من المشاكل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية يقدرها البعض ب 30 في المائة من مشاكل المغرب. ✹✹✹✹✹ هناك عنصر إضافي مهم لطمأنة المستثمر الأجنبي ويتمثل بالحوار الذي فتحه حزب العدالة والتنمية مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب قبل الانتخابات وبعدها، وقد أعطى هذا الحوار صورة جيدة ومطمئنة لما ستكون عليه العلاقة بين المقاولات المغربية الكبرى والحكومة القادمة. وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، امحمد حوراني، عبّر عن ارتياح كبير لفوز حزب العدالة والتنمية، مؤكدا في أحد تصريحاته الصحفية بما يفيد أنه كيف لا يثق في حزب منحه الشعب المغربي ثقته. تمثل هذه الثقة مؤشرا مهما على طابع الاستقرار الذي سيطبع عالم الاستثمار في المغرب. وللتذكير فإن حزب العدالة والتنمية أول حزب بادر إلى عرض برنامجه الانتخابي على الاتحاد العام لمقالات المغرب خلال الحملة الانتخابية، وعيا منه بأهمية هذه المنظمة ليس على المستوى الداخلي باعتبارها ركيزة الاقتصاد الوطني، بل أيضا على المستوى الخارجي باعتبارها معيارا لسلامة الاقتصاد الوطني تعتمد عليها الشركات العالمية لقياس مدى توفر البيئة الملائمة للاستثمار. وتعتبر أيضا التهنئة التي تلقاها عبد الإله بن كيران من المدير العام لبورصة الدارالبيضاء، كريم حجي، مؤشرا مهما على اطمئنان سوق المال المغربي إلى الحكومة القادمة. وللإشارة فاستقرار سوق الأوراق المالية يعد هاجسا لدى مختلف الدول التي تبذل كل الجهود لضمان استقراره، لأن أي اضطراب في هذا السوق تكون له انعكاسات خطيرة وسريعة على مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية الحيوية في الدولة. ✹✹✹✹✹ ومن جهة أخرى، فإن انفتاح حزب العدالة والتنمية على رجال الأعمال خلال السنوات الأخيرة وترشح بعضهم باسم الحزب في انتخابات 25 نونبر 2011 رغم عدم ارتباطهم مسبقا بالحزب يحمل أكثر من رسالة طمأنة إلى عالم الأعمال داخليا وخارجيا. وحري بنا التذكير في هذا السياق أن اللقاء الذي عقدته مؤخرا نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب المقربة من حزب العدالة والتنمية مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب سيعزز من ثقة المستثمرين المغاربة والأجانب على السواء بالتجربة الحكومية القادمة. وقد أصدرت النقابتان بيانا مشتركا في أعقاب هذا اللقاء أكدتا فيه على الأهمية القصوى لاستتباب السلم الاجتماعي داخل المقاولة المغربية وارتياحهما لتقارب توجهاتهما الكبرى. تعد هذه المبادرة دون شك خطوة مهمة لتقوية جسور التواصل والحوار بين ممثلي الأجراء وأرباب العمل تعطينا صورة تقريبية لما ستكون عليها العلاقة بين الطرفين خلال التجربة الحكومية القادمة، لاسيما وأن الاتحاد العام للشغالين بالمغرب المقرب من حزب الاستقلال عبر عن تأييده للحكومة القادمة وتعهد بإنجاح تجربتها. ✹✹✹✹✹ أما على الصعيد الدولي، فتشكل المواقف الإيجابية التي عبر عنها مختلف شركاء المغرب التقليديين ودعمهم الواضح للمسلسل الديمقراطي الجديد الذي دشنه المغرب هذه السنة عنصرا مهما لطمأنة المستثمرين الأجانب وتعزيز ثقتهم بأهمية تطوير مشاريعهم في المغرب. إن ما يهم المال وعالم الأعمال بالدرجة الأولى هو الاستقرار والبيئة السليمة للاستثمار التي تضمن له الانتعاش والنمو، بغض النظر عن التوجه السياسي والفكري للحزب الذي يقود الحكومة سواء كان العدالة والتنمية أو أي حزب آخر. يتضمن البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الذي سيقود الحكومة القادمة عناصر مهمة من شأنها تقوية ثقة المقاولات الأجنبية بالبيئة الاستثمارية في المغرب. تتمثل أهم هذه العناصر في إصدار ميثاق جديد ومحفز للاستثمار على أساس تقييم الإطار الحال، وتفعيل نظام الشباك الوحيد، وتفعيل وتوسيع دور البورصة في تمويل المقاولات من خلال تقوية الإطار القانوني لسوق الرساميل، وإصلاح قضاء الأعمال بتوفير الإمكانيات البشرية والمادية والتأهيل وتقليص الآجال وضمان التنفيذ. أضف إلى ذلك، أن الحكومة القادمة ستحوز على عناصر قوية لم تحظى بها أية حكومة من قبل، يتعلق الأمر بالاختصاصات الدستورية الجديدة التي ستقوي مركزها السياسي، والثقة الكبيرة التي حصلت عليها من قبل الناخبين، وقلة الأحزاب المشكلة لها وتقارب وجهات نظرها، والترحيب الدولي الواسع. إن عناصر القوة هذه ستشكل دون شك حافزا قويا لنجاح هذه التجربة الحكومية داخليا وخارجيا وتحقيق وعودها وتعزيز ثقة المستثمر الأجنبي في البيئة المغربية. ✹✹✹✹✹ وليس من نافلة القول التذكير بأن انتعاش عالم المال والأعمال لا يرتبط فقط بقواعد اقتصادية آلية فحسب، بل هو رهين بالدرجة الأولى ببيئته السياسية والاجتماعية. لذلك، فنجاح التجربة الحكومية القادمة على المستوى السياسي هي الضمانة الأساسية الكفيلة بتعزيز الثقة لدى مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والاقتصاديين. كما أن قدرة الحكومة القادمة على تعزيز السلم الاجتماعي من خلال الاستماع وفتح أبواب الحوار مع مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، وضمان تماسك الفريق الحكومي وانسجام مكوناته من شأنه أن يعزز الموقع الاقتصادي للمغرب على الصعيد الجهوي وسيقوي جاذبيته للاستثمار ويفتح آفاقا أوسع أمام تدفق الرأسمال الأجنبي. إن هذه العناصر كلها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التخوف الذي حاول بعض إشاعته حول تأثير صعود الإسلاميين في المغرب خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة على البيئة الاستثمارية في المغرب كان مجانبا للصواب جملة وتفصيلا، لاسيما وقد أبان حزب العدالة والتنمية على ذكاء سياسي متميز من خلال طمأنة مختلف الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين والدوليين قبل الانتخابات وبعدها. ------- أستاذ العلاقات الدولية