لى مدار التجربة الدستورية التي امتدت من 1962 إلى 1992، لم يتم التنصيص على اللجان النيابية الخاصة بالتقصي والرقابة، ورغم محاولة النواب الاجتهاد لتضمين القانون الداخلي للبرلمان بنودا تنص على حق مجلس النواب في تشكيل لجان التقصي، فإن الاجتهادات القضائية للغرفة الدستورية ظلت ترفضه بمبرر عدم مطابقة بنود القانون بين الجهاز التنفيذي والمؤسسة التشريعية، على اعتبار أن لجان تقصي الحقائق لا تدخل في عداد وسائل مراقبة مجلس النواب لعمل الحكومة المنصوص عليها في الدستور والقوانين التنظيمية الجاري بها العمل.وظل هذا الأمر قائما حتى مجيء دستور 1992، فقد نص الفصل 42 من الدستور على أن أي من مجلسي البرلمان له الحق في تشكيل لجان نيابية لتقصي الحقائق يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة. لقد تم إحداث آلية لجان تقصي الحقائق، كأداة لرقابة الحكومة مع دستور 1992، ونص دستور 1996 على أنه إلى جانب اللجان الدائمة للبرلمان، يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك أو بطلب من أغلبية أعضاء أي من المجلسين، لجان نيابية لتقصي الحقائق (عرف المغرب منذ استقلاله حتى اليوم تشكيل سبع لجان نيابية لتقصي الحقائق) يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة وإطلاع المجلس الذي شكلها على النتائج التي تنتهي إليها أعمالها. أما دستور 2011 فنص في الفصل 67 على المقتضيات الدستورية لسير عمل لجان تقصي الحقائق، مشيرا إلى أنه: يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين، لجان نيابية لتقصي الحقائق، يُناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو بتدبير المصالح والمؤسسات والمقاولات العمومية، وإطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها، ولا يجوز تكوين لجان لتقصي الحقائق، في وقائع تكون موضوع متابعات قضائية، ما دامت هذه المتابعات جارية، وتنتهي مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق، سبق تكوينها، فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها. ولجان تقصي الحقائق مؤقتة بطبيعتها، وتنتهي أعمالها بإيداع تقريرها لدى مكتب المجلس المعني، وعند الاقتضاء، بإحالته على القضاء من قبل رئيس هذا المجلس. في هذا السياق، تخصص جلسة عمومية داخل المجلس المعني لمناقشة تقارير لجان تقصي الحقائق. كما يحدد قانون تنظيمي طريقة تسيير هذه اللجان. والسؤال المطروح راهنا: هل عالجت المراجعة الدستورية لسنة 2011 الأعطاب التي كانت تحول سابقا دون تأسيس لتجربة لتقصي الحقائق ذات مصداقية وقادرة على منح المؤسسة التشريعية دورها الرئيسي في الرقابة والمسائلة؟ أولا، يتضح أن المراجعة الدستورية التي تمت في يوليوز2011 عبر التخفيض المسجل من النسب الضرورية لقيام البرلمان بوظيفته الرقابية في تكوين لجن تقصي الحقائق، وهو تخفيض اعتبر من الإنجازات الأساسية للمراجعة، والتي ستضمن للمعارضة البرلمانية القيام بدورها، كما ستسمح للفرق النيابية الأساسية بالقيام بوظائفها في إعادة الاعتبار للمؤسسة التشريعية، لكن يسجل أن جوهر التقدم المسجل في الوثيقة الدستورية قد "تم إفراغه" من محتواه إذا استحضرنا المقتضيات الواردة في القانون التنظيمي لمجلس النواب. وبلغة الأرقام، وبخصوص لجان تقصي الحقائق. لقد كان دستور 1996 ينص على وجوب طلب أغلبية أعضاء المجلس المتمثلة في 163 عضوا تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، أما في دستور2011 أصبحت النسبة المطلوبة هي الثلث مما شكل تقدما نسبيا. لكن بعد رفع عدد أعضاء المجلس أصبحت العدد المطلوب هو 132 عضوا تمثل ثلث 395 عدد أعضاء مجلس النواب وذلك عوض 109 عضوا في حال الإبقاء على عدد أعضاء مجلس النواب الحالي، وبحسب التجربة فإن النجاح في جمع 132 يقتضي ضمنيا وفي غالب الحالات وجود الأغلبية الحكومية ضمن مقترح تشكيل لجنة تقصي الحقائق. والنتيجة: تعقيد حصول أي حزب سياسي على وجود نيابي يؤهله للقيام منفردا بتلك الاختصاصات الرقابية. ثانيا: ومن خلال قراءة قانون تنظيمي رقم 95-5 يتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية، يتضح وجود كثير من أعطاب في تقعيد هذا الشكل الرقابي، منها أن لجان تقصي الحقائق تتشكل على أساس التمثيل النسبي للفرق البرلمانية وهي مؤقتة بطبيعتها وتنتهي مهمتها بإيداع تقريرها، وفور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها. وقد وضع المشرع المغربي الكثير من القيود على المواضيع التي يحق للبرلمان تشكيل لجان تقصي الحقائق النيابية فيها، خاصة الوقائع التي تكون موضوع متابعات قضائية مادامت هذه المتابعات جارية أمام العدالة، وما يتعلق بقضايا الدفاع الوطني والأمن الداخلي والعلاقات الخارجية. ينقسم القانون التنظيمي رقم 95-5 يتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية، إلى أربعة أقسام محددا وظائف ومهام لجنة تقصي الحقائق، ينص القسم الأول على كيفية هيكلة اللجان النيابية، والقسم الثاني يحدد طريقة جمع المعلومات، والثالث حول تقرير اللجان والقسم الأخير يتضمن شروط الإحالة على المجلس الدستوري.وتنص المادة (2) من القانون التنظيمي (رقم 95-5) على أنه لا يمكن إجراء لجنة لتقصي الحقائق في قضية موضوع متابعات قضائية، حيث يوجه الوزير الأول "إلى رئيس مجلس النواب تقرير وزير العدل المثبت فيه أن الوقائع المطلوب في شأنها تقصي الحقائق، والمحددة على سبيل الحصر ،هي موضوع متابعات قضائية، وذلك داخل أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ إشعار الوزير الأول من طرف رئيس مجلس النواب بذلك". إن أهم الانتقادات التي كانت توجه لبند تشكيل اللجنة النيابية لتقصي الحقائق، يتمثل في فرض شرط الأغلبية المطلقة، كما ينص على ذلك الفصل 42 من دستور1996، كأساس لتشكيل أي لجنة تقصي، وهو ما يضرب في العمق حق الأقلية البرلمانية في الوصول إلى المعلومات في وقائع تشكل خطورة على الساحة العمومية، لأن الأغلبية تكون دوما مساندة كقاعدة نيابية للحكومة, وفي الفقه الدستوري المقارن يلاحظ أن القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، ينص في مادته 44 على" أن لجان تقصي الحقائق هي حق أساسي لمجلس النواب الاتحادي، الذي يصبح واجبا عليه في حالة تقديم طلب من قبل ربع أعضائه، أن يعين لجنة تحقيق تقوم بدورها بتقديم الأدلة الثبوتية في مداولات علنية، إلا أنه يمكن حجب العلنية حسب تقدير المجلس". في هذا السياق، اقترح حزب العدالة والتنمية في مذكرته المتعلقة بالتعديلات الدستورية، إسناد رئاسة لجان تقصي الحقائق إلى فرق المعارضة البرلمانية، من أجل ضمان نزاهة وشفافية ومصداقية أكبر للتقرير الذي تعده لجان تقصي الحقائق. كما تعترض لجان تقصي الحقائق في التجربة المغربية، حسب كمال المصباحي عضو ترانسبارنسي المغرب، عدة عوائق فعلية إلى جانب الأعطاب القانونية، منها أنها تواجه صعوبات أثناء الاستماع إلى رموز كبيرة تحتل مناصب سامية. من جهة أخرى أبدى العديد من النواب الذين اشتغلوا في لجان نيابية لتقصي الحقائق، نقدهم لغموض عبارة "الطابع السري" الوارد في ذات القانون التنظيمي, وإذا اتفق الكل على أن من حق الدولة أن تحافظ على أسرار أمنها الداخلي وحماية علاقاتها الخارجية، لكن المشرع يجب أن يخرج من جلباب العبارات الفضفاضة مثل "الطابع السري للوقائع"، لأن الأمر يتعلق بمؤسسة تشريعية ذات أهمية في هرم النظام السياسي، ويجب تحديد وضبط الوقائع التي تكتسي "طابعا سريا"، لكي لا يحد ذلك من فعالية لجان تقصي الحقائق، إذ من حق البرلمان الحصول على المعلومات العمومية، وممارسة دوره كاملا في مجال المراقبة المؤسساتية. حيث أنه في كل التجارب الدولية، وباستثناء القضايا الأمنية ذات الحساسية الكبرى والمحددة بدقة ووضوح في القانون المنظم لتشكيل وهيكلة وعمل اللجان النيابية لتقصي الحقائق، يحق لوسائل الإعلام تغطية عمل وأشغال اللجان المعنية ونشر تقريرها على العموم.