تجمع لحركات الإسلامية المغربية، على اختلاف مكوناتها، على أن الدعوة من أولى أولياتها، هذا إن لم يكن يشكل هويتها والمبرر لوجودها، فحركة التوحيد والإصلاح في ورقتها الرؤية الدعوية تؤكد أنها حركة دعوة إلى الله تعالى، وتكتل وإسهام في إقامة دين الله وهو الإسلام، وهي تعتبر أن الدعوة هي الإطار الأوسع لأعمالها، بل هي أساس عملها ومنطلق وجودها، أما جماعة العدل والإحسان فيعتبر الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا أن جوهر رسالتها وغايتها أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد. أن يكون ابتغاء رضاه، والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته، والوصول إليه، والنظر إلى وجهه الكريم، منطلق الإرادة، وحادي المصارعة وقبلة الرجاء. هذا معنى أن الإسلام دعوة إلى الله، دعوة إلى الاستسلام بين يديه. وبنفس الإجماع على مركزية الدعوة في خطاب وعمل الحركة الإسلامية، تتفق جميع مكونات هذه الحركة على أن الوسائل التي تعتمدها، والمجالات الأخرى التي ترتادها ما هي في الأصل إلا خادمة لهذا الأصل، الذي تسميه حركة التوحيد والإصلاح بالدعوة أو الهدف الرسالي وتصطلح عليه جماعة العدل والإحسان بالغاية الإحسانية. الواقع الدعوي بين التقدم والانحصار بيد أن هذه المركزية التي تحتلها الدعوة في خطاب الحركة الإسلامية المغربية وفي أعمالها كان المفروض أن تنعكس على مستوى أدائها، ويكون العمل الدعوي الأكثر بروزا على ما سواه من الأعمال والمجالات الأخرى، وهو ما كان حاصلا في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات بشكل واضح تمثل كميا في التوسع التنظيمي لهذه الحركات (توسع الانتماء لهذه الحركات) وتزايد دينامية الإشعاع الثقافي والتربوي (إنشاء الجمعيات التربوية والثقافية وتكثيف أنشطتها) وبروز المادة الدعوية بكثافة في إعلامها (نموذج جريدة الإصلاح في نهاية الثمانينيات)، واستثمار واقع الحصار الذي فرضته السلطات على قيادات جماعة العدل والإحسان وتحويله إلى عائد دعوي، بيد أنه، ومع منتصف التسعينيات، بدأ هذا الإشعاع الدعوي الحركي يراوح مكانه، ويتراجع على هذه المكتسبات التي حصلها، ويبقي العمل الدعوي في حدوده الدنيا، مما يثير أسئلة عميقة بخصوص تقييم الواقع الدعوي، وكيف ينظر الفاعلون له، وهل تتوحد وجهة نظرهم في تقييم هذا الموضوع، وما هي أسباب هذا الانحصار ومحدداته، ثم كيف يمكن للحركة الإسلامية أن تتجاوز هذا الواقع، وتؤسس لعمل دعوي يكون في مستوى التحديات والاختراقات القيمية الخطيرة التي تهدد أوساط الشباب؛ خاصة في الوسط المدرسي. تقدم أم انحسار؟ بحسب الأستاذ عبد الرحمان البوكيلي، لا يمكن أن نتحدث عن تراجع للمسار الدعوة، فالدعوة بحسبه تعرف توسعا وانتشارا وحيوية بالمقارنة مع ما كانت عليه من قبل، وأنها من قبل كانت محدودة من حيث عدد المنابر ووسائل الإعلام التي تعتني بها، وأيضا من حيث من حيث النوعية وأداء رجالاتها ونسائها، بخلاف الوضع الحالي للدعوة، فقد أصبحت - حسب البوكيلي- تعرف تحولا نوعيا ملحوظا، على المستوى الوطني والعالمي، فمنابرها لم تعد تقتصر على المساجد، بل أضافت إلى ذلك منابر إعلامية من مكتوب وسمعي وبصري، ولم تعد الدائرة مقتصرة على عدد محدود من أهل العلم الشرعي، بل دخل في الدعوة أفواج كبيرة من متخصصين في مختلف مجالات العلم، لكن هذا لم يمنع الأستاذ البوكيلي من الحديث عن محدودية الدعوة بالقياس إلى التوجهات الأخرى والدعوات الأخرى وما أسماه بالكم الهائل من المنابر المناوئة لأهداف الدعوة ومقاصدها، سواء كانت صريحة أو ضمنية، أما الأستاذ عبد الصمد الرضا، عضو مجلس شورى جماعة العدل والإحسان، فيعتبر أن الأمر لا يتعلق بانحصار بقدر ما يتعلق بمحاصرة الدعوة من قبل الدولة، فالحصار، حسبه، هو منهج استراتيجي في دولة المخزن وضريبة هذا الحصار أمر طبيعي في كل التنظيمات، خاصة ذات المواقف الواضحة، والمطالبة بحقها في التحرك من غير خضوع لشروط المخزن الذي لا يرضى إلا بإخضاع الجميع لإملاءاته، والسير في فلكه، لكنه يؤكد في نفس الوقت أن قدر الدعوة في ظل هذه الابتلاءات أن تثبت وتستمر وأن تحافظ على إنجازاتها ومكتسباتها. لكن، يبدو أن وجهة نظر الأستاذ البوكيلي انصرفت إلى العمل الدعوي في إطاره العام، أي مجمل الأنشطة الدعوية التي لا تنخرط فيها فقط الحركة الإسلامية المغربية، ولكن حتى تلك التي تقوم بها مؤسسات إعلامية وقنوات فضائية من خارج المغرب، أما وجهة نظر الأستاذ عبد الصمد الرضا فتحمل مسؤولية هذا الانحصار، إن كان فعلا انحصارا، إلى الدولة التي تحاصر الدعوة، وأن مسؤولية الحركة الإسلامية أن تواجه هذه السنة سنة الابتلاء بقدر من الصبر والاستمرار وتحوله إلى عائد دعوي. ومهما يكن التقدير بين وجهتي النظر السالفتين مختلفا من حيث الرؤية ومنهجية التقييم، فإن التقييم بينهما يتقارب، لاسيما عند النظر إلى التحديات والاختراقات التي تهدد الأمن الروحي والأخلاقي للشباب؛ خاصة في الوسط المدرسي، فكلاهما يعترف بخطورة هذه التحديات، وإن كانت وجهة نظر الأستاذ الرضا تنصرف مرة أخرى إلى تحميل المسؤولية إلى الأنظمة وما وراءها من هجمة عالمية على قيم الإسلام ومبادئه والساهرين على الشأن الديني والمشاركين في الاختيارات الحكومية؛ خاصة على مستوى التربية والتعليم والفن والإعلام، والقضاء والحريات. أما الأستاذ عبد الرحمان البوكيلي، فيلتفت إلى الجانب الذاتي في أداء الدعاة، إذ يعتبر أن الأمر يتعلق بثلاث عناصر أساسية، هي الضعف في تكوين الدعاة، والواقع الذي تتجاذبه تيارات وتوجهات مختلفة، قاسمها المشترك مناوءة الدين وتسويق العلمانية، وسيلتهم الكبرى في هذا- حسب الأستاذ البوكيلي- هي إشاعة الميوعة في الأخلاق وفي الاهتمامات. محاولة في التفسير بالاعتبار الحركي، أي خارج النظر العام الذي يقيم مجمل الأنشطة الدعوية التي يقوم بها مختلف الفعلين غير الحركة الإسلامية، يكاد يكون هناك اتفاق حول تراجع العائد الدعوي، ويؤشر على ذلك تراجع التوسع التنظيمي للحركة الإسلامية (العضوية)، وتراجع الأداء الثقافي للجمعيات الثقافية التي تدور في فلك الحركة الإسلامية (أنشطة موسمية مناسباتية) وتراجع المادة الدعوية في وسائل إعلام الحركات الإسلامية، بالإضافة إلى جمود الوسائل الدعوية التي تعتمدها الحركة لتنشيط آليتها الدعوية، فلا زالت الحركة الإسلامية تعتمد نفس الآليات الدعوية (المجالس التربوية- المحاضرة الثقافية...) مع تسجيل ضعف في الإنتاج الفني الخادم للهدف الدعوي. وفي تفسيره لمحددات هذا التراجع يرى الدكتور أوس رمال، عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، أن التخصصات التي اعتمدتها الحركة (التخصص السياسي، التخصص النقابي..) كان لها تأثير واضح على الأداء الدعوي، خاصة من جهة الموارد البشرية ومن جهة الوقت أيضا، إذ إن كثيرا من أعضاء الحركة التحقوا لهذه التخصصات، واستنزفت أوقاتهم، بحيث لم تعد تفضل لهم أوقات يمكن أن يخصصوها للعمل الدعوي، لكن هذا بالنسبة إلى أوس رمال، هو شيء طبيعي، إذ إن الحركة ليس من مهمتها وواجبها فقط تقديم أعضائها لهذه التخصصات فقط، وإنما من واجبها أن تخرج الأفراد وأن تدفع بهم إلى كل المؤسسات حركية كانت أن رسمية، وأن هذا هو عمق مشروعها حتى يتم ما أسماه أوس رمال اصطحاب البعد الدعوي في هذه المؤسسات وفي الممارسات التي يقدم عليها هؤلاء في المؤسسات التي يتوجهون إليها، فالمطلوب من الحركة حسب أوس رمال أن تكون مدرسة حقيقية تزود كافة المؤسسات بالأفراد الذين يحملون القيم والتوجهات التي تشكل عليها أعضاء الحركة في مؤسساتها وهياكلها، ولذلك، حسب أوس رمال، فإن القول بأن العمل السياسي أو النقابي أفرز مجموعة من الظواهر القيمية المرضية في صفوف أعضاء الحركة لا يعني أن العمل السياسي يتسبب في إنتاج هذه الظواهر، وإنما يفضح الضعف الدعوي عند البعض، وفي المقابل يؤكد المعدن الأصيل لمجموعة من الإخوة الذين تقلدوا مواقع قيادية في التخصصات ولم يزدهم الاحتكاك بها إلا لمعانا، فحسب الأستاذ رمال، فإن أكبر خدمة قدمتها الحركة عندما اعتمدت التخصصات هي أنها ميزت بين التخصصات، وهو الشيء الذي سيشجع التخصص الدعوي لأنه يستوعب المتخصصين والمهتمين به. أما الستاذ عبد الرحمان البوكيلي، فله وجهة نظر أخرى، إذ يعتبر أن الذين دخلوا إلى العمل السياسي أو العمل النقابي لم يكونوا في الأصل عاملين في الدعوة بمفهومها التخصصي، ولذلك، من حيث الموارد البشرية، لم يكن ذلك مؤثرا على الدعوة من حيث نقصان طاقتها، بالإضافة إلى أنه يعتبر أن دخول ذوي المرجعية الإسلامية في مجالات مختلفة يحقق هدفين، فهو من جهة يعزز بقوة العمق الإسلامي لبلدانهم ويرفع من سقف التدين داخل هذه المجتمعات، لكن ذلك في نظره قد يحقق مفسدة مقابلة ومؤقتة، وهي إقدام الجهات المناوئة، وفي تحركها بقوة، من أجل مضايقة الدعوة والتدين. أما الأستاذ عبد الصمد الرضا، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، فإن نشوء الدائرة السياسية للجماعة وما يتبعها من قطاعات ومؤسسات، هي مرحلة طبيعية من مراحل نمو الجماعة، وأن الأداء الدعوي للجماعة مرتبط بالتغيرات الموضوعية أكثر من ارتباطه بميلاد جهاز من أجهزتها، وبحسبه، فإن استراتيجية الحصار التي اعتمدتها السلطات عززت التحام مكونات الجماعة أفقيا ودعويا، وأن ثابت الجماعة يعتبر بحد ذاته أداء دعويا إيجابيا، فضلا عن ازدياد اقتناع الناس بخطها الدعوي واختياراتها السياسية، بالرغم من كل المشوشات وحملات التشويه التي تتخذها الأجهزة الأمنية ضد أعضائها (مؤشر الأيام التعارفية، مؤشر ثبات سجناء ومعتقلي الجماعة)، ولذلك فحسب الرضا، ليس كل التنظيمات على مستوى واحد في التوسع أو الانحصار، والأمر يختلف بحسب اعتبار الفرص المتاحة، سواء الممنوحة بشكل رسمي من قبل النظام أو الفرص الذاتية من كسب الحركة في تدافعها مع النظام، وحسب اعتبار الموقف المبدئي من النظام، وحسب اعتبار التغيرات الدولية التي تؤثر بشكل كبير على العلاقة بين الفاعلين الدعويين والفئات المستهدفة، وأيضا حسب اعتبار نوع المشروع الدعوي لكل حركة، الذي يروم إما بناء الذات الإسلامية أو مجرد المشاركة الإشعاعية أو الثقافية أو الجمعوية. ويذهب الأستاذ أوس رمال إلا أن الدينامية الجديدة التي انخرطت فيها وزارة الأوقاف من خلال مشروع تكوين الأئمة، أو تكوين المرشدين والمرشدات الدينيين، كان له أيضا تأثيره الواضح على الأداء الدعوي للحركة الإسلامية التي اختارت نهج الشراكة، خاصة من جهة الموارد البشرية واستنزاف طاقات الحركة، لكنه أكد مرة أخرى على أن هذا جزء من التحدي المطروح على الحركة أن تزود المؤسسات بأفراد يحملون القيم والتوجهات التي تدعو إليها، وفي نفس الوقت أن تبقى وتستمر كمدرسة لتخريج هؤلاء الأفراد، وهو تحد صعب يتطلب مضاعفة الجهد الدعوي وتطوير الأداء الدعوي مضمونا ووسائل. وبحسب الدكتور رمال، فإن كثيرا من أعضاء الحركة الذين انخرطوا في مؤسسات الحقل الديني استطاعوا أن يواكبوا العملين معا ويحافظوا بذلك على مواقعهم الدعوية في الحركة، في حين لم يستطع آخرون المواكبة، إذ فقدوا ليس فقط مواقعهم الدعوية في الحركة وإنما أيضا مواقعهم في مؤسسات الحقل الديني، فحسب رمال؛ فإن المجالس العلمية لا تريد فقط هؤلاء الدعاة ولكنها تريدهم ومن معهم. ومرة أخرى يؤكد أوس رمال أن المشكلة ليست في هذه المجالس أو تلك المؤسسات الدينية الرسمية التي ابتلعت أعضاء الحركة وطاقاتها الدعوية، ولكن المشكلة تكمن في الضعف الذي يعاني منه هؤلاء الأفراد الذي لم يستطيعوا المواكبة، وأن الضعف الذي أبرزه العمل السياسي هو نفسه الذي أبرزه هذا المنشط مع تسجيل الخلاف في حجمه وشكله. الانحصار الدعوي: والمشاكل الذاتية لا يمكن أن نغفل أهمية العوامل التي تحدثنا عنها سابقا، لكنها تبقى في جوهرها ثمنا للاختيارات التي انتهجتها الحركة (التخصصات، الشراكة...) أي أن الحركة الإسلامية كانت تعي مترتبات هذه الاختيارات وتأثيرها على أدائها الدعوي، خاصة وأن بعض هذه الحركات نموذج حركة التوحيد والإصلاح- حددت الدعوة كأحد مجالاتها الثلاثة الرئيسة، إلى جانب التربية والتكوين، ومن ثمة تبقى العوامل الذاتية ذات أهمية في تفسير هذا الانحصار الدعوي.ويمكن أن نذكر منها في هذا السياق: - الضعف في تنويع وسائل الدعوة وتكييفها مع التطورات التي حصلت على مستوى تكنولوجيا الاتصال، فلا زالت الإمكانات المادية وأيضا العوائق السياسية والقانونية مانعا من التوجه نحو الإعلام السمعي البصري والتفكير في إنشاء قنوات تلفزية أو محطات إذاعية قادرة على المنافسة، لاسيما مع التحديات المتسارعة وحدة التدافع القيمي، إذ تعيش الحركة معركة غير متكافئة تواجه فيها تيارات خطيرة من حيث استهدافها للقيم والتلاميذ والشباب والمرأة؛ سواء تعلق الأمر بمروجي المخدرات والخمور والدعارة أو بمروجي قيم هدامة مثل عبدة الشيطان والتبشير والتشيع والتطرف وغيرها. - مظاهر الضعف على مستوى البنية التنظيمية والبشرية: إذ لا زالت الحركة الإسلامية لم تحصل الكفاية الدعوية على مستوى مواردها البشرية، كما لم تطور بنيتها التنظيمية وبرامجها التربوية لاستيعاب أكبر للشرائح الاجتماعية بمختلف مستوياتها. - عدم إبداع صيغ قادرة على مقاومة أنواع الحصار التي تفرض على الدعوة التي تروج صورة سلبية على الدعوة والدعاة والتنظيمات الدعوية. - تفعيل الأداء الدعوي للجمعيات الثقافية والتربوية التي تدور في فلك الحركة الإسلامية، وتنويع وسائلها وأدوات اشتغالها وتجنب الطابع الموسمي والتخطيط لاستهداف أوسع شريحة مجتمعية. - إعادة بناء العلاقة بين التنظيمات الدعوية بالشكل الذي يجعل المحصلة العانة في صالح الدعوة.