بعد ثورة الإنقاذ السودانية، وبعد أن استقرت للحركة الإسلامية تجربة وكسب فكري وسياسي، بدأ الدكتور حسن الترابي يطرح أفكارا جديدة صدمت العديد من القيادات الإسلامية، إذ وضع الرجل الحركة الإسلامية ضمن رهاناتها الإستراتيجية، وطفق في إحداث مراجعات كبيرة رؤيتها الفكرية والسياسية وكذا منهجية اشتغالها. وكان مما طرحه في هذا السياق قضية علاقة الحركة الإسلامية بمكونات الجبهة الدينية، ومسألة العلاقة مع مكونات الطيف السياسي، وأضاف إلى العقل السياسي الحركي مفهوم موازين القوى، ومنه خلص إلى قضية الموقف من الغرب، وما يستتبع ذلك من نقد النظرة التبسيطية التي تنظر إلى الغرب وكأنه جسم واحد يحمل نفس التصور وله في الأجندة والرهانات السياسية. في مفهوم الجبهة الدينية ربما كان لتركيبة المجتمع السوداني دور كبير في تسريع طرح مفهوم الجبهة الدينية داخل التنظير الحركي الإسلامي. فاختراق التصوف للمعادلة السياسية السودانية من خلال المهدوية والختمية، وتعذر تشكيل خريطة سياسية سودانية من غير وجود فاعل لهذه الطوائف جعل الموقف من التصوف داخل الحركة الإسلامية يتعدى الإطار المعرفي الذي اعتاد التنظير الحركي الإسلامي أن يجعله محددا في رسم العلاقة مع المكونات الصوفية، وجعل للمحدد السياسي دوره المعتبر. وهكذا، نضجت مبكرا عند الشيخ حسن الترابي فكرة مد الجسور مع الجماعات الصوفية والانفتاح عليها، وهو ما جعله يطرح مفهوم الجبهة الدينية وتقوية مكوناتها وتغليب عنصر الاستيعاب على عناصر المنابذة والخلاف. فأصبحت الحركة الإسلامية ولأول مرة تضع المؤسسة الدينية التقليدية في صلب اهتمامها، وتوارى خطاب النقد لأئمة المساجد، وتراجع الخطاب الذي يجعل من المؤسسة الدينية المبرر الشرعي لاستبداد السلطة، ولأول مرة بدأ الحديث داخل الحركة الإسلامية عن إمكانية التعاون في مستويات مختلفة مع المؤسسة الدينية التقليدية بجميع مكوناتها : زوايا صوفية، أئمة مساجد، حفظة قرآن تقليديون، مدارس عتيقة، مؤسسات دينية تابعة للدولة..... في البدء كانت القطيعة كسائر الحركات الإسلامية، وربما بتفاوت في النسبة لصالح رؤية راديكالية، تبنت الحركة الإسلامية المغربية ومنذ وقت مبكر موقفا عدميا من المؤسسة الدينية التقليدية بجميع مكوناتها، إذ كان التصور الناظم الذي يؤطر مركز تفكيرها في مرحلة السبعينات هو القطيعة معها وفك الارتباط بكل مؤسسة تخدم السلطة أو يفترض أن تكون في خدمتها. فمنذ السبعينيات وإلى غاية منتصف الثمانينيات، كانت الحركة الإسلامية بمعظم أطيافها تنأى بنفسها عن الاقتراب من المساحات التي تشتغل فيها وزارة الأوقاف، بل كانت تضع مسافة كبيرة بين أعضائها وكل الذين يدورون في فلك وزارة الأوقاف. ولعل حكاية الداعية محمد الإدريسي بخات تظهر إلى حد كبير الموقف التي كانت تحمله الشبيبة الإسلامية من وزارة الأوقاف والذين يشتغلون معها والذين يكتبون مجرد مقالات فكرية في مجلتها دعوة الحق. كان القرب من السلطة أو الارتباط بها محددا أساسيا في موقف الحركة الإسلامية من أي مكون من المكونات دينية كانت أم سياسية، ولذلك، لم يكن من المتصور في هذه المرحلة أن ينضج موقف يقبل بالتعاون مع بعض العاملين المخلصين الذين يشتغلون من داخل وزارة الأوقاف ولو كانوا يعملون بغير منطقها، إذ كانت الحركة الإسلامية في تلك المرحلة تعتبر مجرد القبول بالعمل من داخل وزارة الأوقاف أو فلكها عمالة للنظام السياسي. بنكيران و الصدمة يحكي الأستاذ الأمين بوخبزة في شهادته التاريخية أن الأستاذ عبد الإله بن كيران صدم الإخوة في أحد اللقاءات حين طرح عليهم فكرة التعاون مع المجلس العلمي بالرباط. ذلك أن المنطق العام الذي كان يؤطر فكرة الجماعة الإسلامية - وهي التي راجعت كثيرا من مفاهيم الشبيبة الإسلامية ـ هو وضع مسافة كبيرة بين عمل الحركة وبين انشغالات وزارة الأوقاف وهياكلها. ولأول مرة يخلخل الأستاذ عبد الإله بنكيران البناء المفاهيمي الذي استقر عند الإخوة في هذه القضية، ويطرح من خلال ممارسته العملية أسئلة عميقة على كل المسلمات التي حملها الإخوة بخصوص الموقف من مكونات الجبهة الدينية: ما الذي يمنع من التنسيق مع مكونات هذه الجبهة؟ وما الذي يمنع أن يكون هذا التنسيق محققا لمقاصد كبيرة تعود بالخير والنفع على الدعوة؟ وهل بالفعل ما استقر في ذهن الإخوة من مواقع عدائية أو على الأقل سلبية من المؤسسة الدينية الرسمية له ما يبرره بالاعتبار الشرعي والدعوي؟ وانطلقت المراجعات أسئلة سيكون من ثمراتها إعادة النظر في الموقف من المؤسسة الرسمية التقليدية، وإنضاج موقف جديد ومعتدل يجعل محدد العلاقة بهذه المؤسسة هو ما ستجنيه الدعوة من منافع أو مضار. وتبعا لهذه الرؤية الجديدة، صار الموقف من أي نشاط يفترض فيه التنسيق سواء مع الوزارة أو بعض مكوناتها يتطلب تكييفا مقاصديا يدرس جوانب المصلحة والمفسدة، وينتهي بالترجيح المعتبر للموقف المطلوب بحسب النازلة. وقد نتج عن تفعيل هذه الآلية الترجيحية إنتاج العديد من المواقف لصالح المشاركة والانخراط في الكثير من الأعمال التي كانت تقوم بها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية كان أبرزها جامعة الصحوة الإسلامية التي دعا إليها الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله. ومع هذه الأفكار الجديدة التي تبنتها معظم أطياف الحركة الإسلامية في إطار مراجعتها لمجمل رصيدها الفكري والحركي، بقي الأستاذ عبد السلام ياسين يتبنى فكرة المفاصلة أو ما أسماه بالخط المفاصل لخط الدولة كما صرح بذلك للأستاذ علي الريسوني (في جواره المنشور بالتجديد ضمن ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية)، وربما كان لتجربته داخل مساجد مراكش، وللتضييق الذي مورس عليه من وزارة الأوقاف في بداياته الأولى دور في إنضاجه لموقف المفاصلة. لكن، ربما كان لتجربة محمد البشيري رحمه الله في الخطبة المنبرية بعض التأثير على موقف الأستاذ عبد السلام ياسين في اتجاه تبني موقف غير عقائدي في هذا الموضوع. فقد كانت لخطب محمد البشيري ومواعظه دور كبير في تقوية شوكة جماعة العدل والإحسان على الرغم من كونها كانت ضمن الحدود التي تسمح بها وزارة الأوقاف، وعلى الرغم أيضا من أن الأستاذ محمد البشيري رحمه الله قد تم إيقافه سنة 1988 إلى أنه لم يصدر من الأستاذ عبد السلام ياسين ولا من هيئات جماعته التقريرية ما يفيد أن الجماعة تتخذ موقف مقاطعا للمساحات التي تتيحها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولعل احتجاجها على إيقاف العديد من خطبائها يؤكد أن الجماعة تتبنى رؤية ترجيحية للتعامل مع وزارة الأوقاف تغلب جوانب الامتناع فيما تشتبك فيه السياسة بالممارسة الدعوية داخل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وهو ما يفسر رفضها القاطع للمشاركة في جامعة الصحوة الإسلامية. لكن على العموم، يمكن الحديث عن حصول تطور ليس فقط داخل الجماعة الإسلامية وبقية المكونات الأخرى المنفصلة عن الشبيبة الإسلامية في موضوع العلاقة بالمؤسسة الدينية الرسمية، وإنما أيضا داخل فكر الأستاذ عبد السلام ياسين أو على الأقل داخل رصيد الممارسة العملية، إذ لا تتعدى الجماعة في علاقتها بوزارة الأوقاف سقف الممارسة الدعوية من خلال الخطبة المنبرية أو الموعظة والإرشاد وهي الجوانب المضمونة - في تقدير الجماعة خ التي تجعلها لا تنزلق إلى مستوى من مستويات التقاطع والتشابك مع الدولة. عبد السلام ياسين والجبهة الدينية صرعنا معكم قديم هكذا كان الأستاذ عبد السلام ياسين يختصر موقفه من السلفيين، وهكذا كان يخوض صراعه الخفي مع ابن تيمية في مجمل كتبه، وإن كان يغطي ذلك الصراع أحيانا ببعض الثناء على بعض الجوانب المشرقة من شخصية ابن تيمية العلمية. وإذا كان الاعتبار السياسي هو الذي حدد موقف الأستاذ عبد السلام ياسين من التعامل مع المؤسسة الدينية التقليدية، فإن الاعتبار المعرفي والمنظومي هو الذي حدد علاقته مع التيار السلفي، بحيث يستحيل أن تجد في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين ولا في ممارسة جماعته إمكانية للتلاقي مع هذا المكون من مكونات الجبهة الدينية المغربية. وقد دفعه الاعتبار المعرفي والمنظومي إلى ردم الهوة العقدية السحيقة بين السنة والشيعة في فكره معتبرا هذه المكونات مفرزات للأزمة وأن التفكير المنهاجي لا ينبغي أن لا يكون محكوما بشروط الأزمة، وكأنه بذلك يؤسس لقاء العرفانين الشيعي والصوفي على المستوى المنظومي والمعرفي، ويمد سياسيا جسور التواصل بين الثورة الإسلامية والقومة لتحقيق خلافة على منهاج النبوة. لا تجد داخل تنظيرات عبد السلام ياسين أي محل لمفهوم الجبهة الدينية، فالفكر الذي يطرح كمنطلق فكرة بناء جماعة المسلمين لا يكون معنيا بمسألة الجبهة الدينية. من المؤسسة الدينية الرسمية إلى الجبهة الدينية طرحت الحركة الإسلامية مباشرة بعد انفصالها عن مطيع فكرة أولوية الدعوة، وكان طبيعيا أن تراجع تضخم المنطق السياسي في تفكيرها ووسائل اشتغالها، وكان من ثمرة هذه المراجعة أن صار التعامل مع المؤسسة الدينية مقبولا شريطة أن يترجح لدى الجماعة ما يفيد أنه يعود على الدعوة بالنفع. وهكذا، نضج مفهوم العمل من الغير من أجل مصلحة الدعوة داخل العقل الحركي، وبقي دلالة الغير مفتوحة على كل المكونات لا تستثني أحدا في ذلك مادام آلية الترجيح هي التي ستكون الحاكمة في نهاية المطاف. كان يفترض التنزيل لهذا المبدأ على واقع الأرض أن تبدأ الحركة الإسلامية في رسم الخريطة الدينية بالبلد بمكوناتها وهيئاتها، وأن تشرع في بناء رؤية تحدد طبيعة العلاقة مع كل مكون على حدة، وشكل التعاون المفترض معه بحسب هويته وطبيعته ونوع حضوره في الساحة الدينية. غير أن الصورة المتقدمة من التفكير والرؤية لم تقع بهذا التفصيل، وإنما سارت إلى حدود منتصف التسعينات في اتجاه آخر بوجهين: - الوجه الأول: وهو الاستمرار في التنسيق مع المؤسسة الدينية الرسمية (وزارة الأوقاف والمجالس العلمية). - الوجه الثاني: فتح الحوار مع مكونات الحركة الإسلامية الحديثة.وبقيت المكونات الدينية الأخرى غير مدرجة تماما في أجندة الحركة الإسلامية إلى أن نضجت الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح والتي طرح فيها ولأول مرة مفهوم الجبهة الدينية بالتحديد الذي تحدثت عنه الوثيقة الصادرة عن الحركة. لا يتعلق الأمر بنضج مطرد في المفاهيم، إذ ليس هناك من مؤشر يؤكد حصول تراكم فكري على هذا المستوى، لكن هناك أكثر من مؤشر يدفع للاعتقاد بأن التدافع الذي كان حاصلا في المغرب على جبهة القيم هو الذي سرع بتبني مفهوم الجبهة الدينية، ذلك أن الهجمات الشديدة على القيم والمعارك التي كانت تخوضها الحركة على أكثر من مستوى على هذه الجبهة هي التي سمحت بالتفكير الاستراتيجي في عناصر المواجهة والتي تتطلب ضمن ما تتطلبه توحيد مكونات الجبهة الدينية التي تتقاسم هذه القيم. ولعل الهجوم الذي كان يتعرض له الخطباء وأئمة المساجد من غير المنتمين للحركة الإسلامية، وكذا الهجوم على المدارس العتيقة وعلى التعليم الديني وعلى المناهج والبرامج التربوية الخاصة بمادة التربية الإسلامية وتوجيه المعركة للنص الديني ساهم إلى حد كبير في إنتاج مفهوم الجبهة الدينية في وثيقة حركة التوحيد الإصلاح. الجبهة الدينية في وثيقة حركة التوحيد والإصلاح تطرح الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح مفهوم الجبهة الدينية ضمن إطار علاقتها ببقية المكونات. لكنه قبل أن تحدد موقفها من المكونات السياسية تجعل الجبهة الدينية الأساس والمنطلق لفعلها، بحيث لا تجعل مكونات هذه الجبهة محصورا في الحركة الإسلامية وأطيافها، وإنما تجعل دلالة المفهوم تتسع لكل المكونات التي تنطلق من نفس القاعدة الفكرية والقيمية رسمية كانت أم شعبية، تقليدية كانت أم حديثة، سلفية كانت أم صوفية. غير أنها وهي تسعى لتقوية هذه الجبهة الدينية في مواجهة جبهة التطرف اللاديني، تحتفظ لنفسها حق تقويم ما تراه من الاختلالات التي تصيب مكونات هذه الجبهة سواء على مستوى التصور أو الممارسة. وعوض أن تفتح الحركة جبهة الصراع مع الصوفية بدعوى طرقيتها ومخالفتها للسنة وتجعل من ذلك مبرر منابذة الطرق والزوايا الصوفية، وبدل أن تخوض الصراع مع التيارات السلفية (العلمية) بدعوى تنطع بعضها وبعده عن الفهم المقاصدي للنصوص، تكون المعركة الأنسب هي مواجهة جبهة التطرف الديني بجبهة دينية يحضر فيها التيار السلفي (العلمي) والزوايا الصوفية، والمؤسسة الدينية الرسمية، والمتدينون التقليديون ..... مهمة نجحت الحركة في إنجازها في العديد من المحطات، وعبرت من خلال قدرتها على ضبط توازناتها، في العديد من المحطات على الوجود الفعلي لهذه الجبهة سواء تعلق الأمر بمحطة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، أو في محطة الدفاع عن مادة التربية الإسلامية، أو في محطة الدفاع عن المساجد والخطباء بعد أحداث 16 ماي، أو في محطة الدفاع عن العفة والقيم في المغرب. لكن تجسيدات مفهوم الجبهة الدينية على الواقع ومن خلال إدراكها لطبيعة التناقضات الموجودة داخل مكوناتها أبان أن الرهان على قدرة الحركة على ضبط التوازنات بين هذه المكونات لا يكفي في معركة كبيرة في حجم معركة القيم ومعركة التصدي للتطرف اللاديني في المغرب، وأن الوقت قد حان لإنتاج رؤية فكرية مفصلة تحدد طبيعة الموقف من كل مكون من مكونات الجبهة الدينية وطبيعة الدور المفترض أن يقوم به في معركة التدافع القيمي، وطبيعة العلاقة التي يمكن أن تجمعه ببقية مكونات الجبهة الدينية، ولعل هذا ما يفسر كتابة الأستاذ محمد الحمداوي لمقالين اثنين يتحدثان عن هذه الإشكالات بنوع من التدقيق الذي لا نكاد نجده إلا في كتبات الدكتور جسن الترابي التي أشرنا إلى بعض مقاطعها.