قيادة واحدة شاملة أم تخصصات مرنة متناسقة؟ كلما عاودنا النظر في مسيرة العمل الإسلامي وتأملنا رصيد التجربة، إنجازاتها وإخفاقاتها، كلما كان ذلك داعيا لنا لطرح مزيد من الأسئلة. أسئلة لا يستلزمها الاطلاع على أوراق النقد الذاتي فقط، وإنما يستلزمها التراكم الذي حصل في رصيد الحركة الإسلامية، ويستلزمها أيضا واقع هذه الحركة واختياراتها المرحلية. والتأمل الفكري إنما يكون مجديا إن ركز على جزئيات في العمل الإسلامي مستصحبا منهج الاستقراء بإزائها، بمعنى إنه يصعب أن نقوم التجربة في عمومها وشمولها بإحاطة بكل عناصر الاشتغال، لأن التقويم الإجمالي للتجربة قد يفقد التأمل قيمته، لهذا فالتركيز على بعض الجزئيات ليس من قبيل الإيمان بمنهج التجزيء، ولكنه اختيار منهجي يريد الإحاطة بفاعلية المفهوم وتاريخيته ضمن علاقته بتطور الحركة الإسلامية التي تتبناه. وحتى يكون كلامنا قريبا من الأعيان بعد أن تجرد للأذهان نأخذ جزئية التنظيم. التنظيم في أبعاده المفهومية قد يكوم فيه نوع من التقييد والضبط، وأحيانا الحجر الذي لا يتناسب مع النمط النفسي والفكري لكل فرد، ولكنه من الناحية العملية الإجرائية يسمح بتكيف فكر الفرد واندماج نفسه داخل الجماعة، كما أنه يعلم فن التقدير والترجيح والمرونة وفقه الواقع... إذ أن اتخاذ القرار غالبا ما يمر يعملية تداول للرأي، ووجهات النظر المختلفة وآلية صهرها في اتجاه اتخاذ قرار موحد، لاشك أنه يبني نوعا ممن الضمير الفكري الجمعي الغائب. ولكن الأبعاد المفهومية للتنظيم في شقها السلبي تبقى حاضرة إن على مستوى لجنة اتخاذ القرار، أو على مستوى منفذيه. هذا طرف من المشكلة، فإذ أخذنا بعين الاعتبار كون التنظيم يحقق مقاصد كبيرة منها: يسمح بتوزيع العمل. يسمح باستثمار الكفاءات والطاقات بشكل أفضل. يقي مصارع الارتجال والتكرار وغير ذلك من المشاكل... فإنه لا ينبغي أن نغفل قاعدة أخرى في هذه المسألة، أي تنظيم يمكن أن يحقق هذه المقاصد؟ وما شكل التنظيم الذي يقلل من حضور الأبعاد المفهومية السلبية للتنظيم؟ فإذا كان التنظيم ضرورة فرضها واقع الفوضى والارتجال واضطراب العمل ، وضياع الوقت ومهام المرحلة، فإن شكل التنظيم ينبغي أن يكون محققا للمقاصد، وإلا فما الفائدة من وجوده؟ وقد نسجل من خلال الاستقراء لهذه الجزئية في مسيرة العمل الإسلامي بعض أنواع الخلل نذكر منها: 1 تركيز المهام الاستراتيجية والاختيارات الكبرى في يد القيادة الفردية أو قيادة اللجنة بالمفهوم التنظيمي: وهذا ما يولد نقاشات كبيرة يغذيها الجانب النفسي والفكري لدى رواد الحركة الإسلامية خصوصا وأن الارتقاء الفكري والتنظيمي ورصيد التجربة، كل ذلك يدفع الأفراد وهذا أمر طبيعي إلى طرح أفكار ونقاشات وأحيانا بدائل وانتقادات لخط الحركة. هذا الخلل ربما أصيبت منه الحركة الإسلامية، وكانت محنتها وابتلاؤها بسببه كارثة على مكاسب الحركة العامة. وتجدر الإشارة إلى أن احتفاظ القيادة الفردية ليبدأ نقاش غير مسبوق عن: ما العلم؟ ليشتد الخلاف حول رأي قيادة اللجنة في هذه المهام وفق توجيهات القيادة الفردية المعزولة... ولنا في رصيد تجربة الحركة الإسلامية ما يغني عن المثال. 2 التنظيم الذي لا يتناسب مع الروح الدينامية للحركة الإسلامية: إنما جعل التنظيم لتطوير العمل وتجديد وسائله وفك العزلة عن الحركة الإسلامية في اتجاه استيعاب نالمجتمع وإشراكه نفي المشروع الإسلامي، وغالبا ما يكون المبرر لإعادة النظر في التنظيم هو عجزه عن الإجابة عن أوليوات المرحلة، إذ يرتد إلى معوق للعمل بعد أن فرضته الضرورة كآلية لتطوير العمل. وهذا المبرر لا يطعن في شرعيته وصدقيته، ولكن الذي يستلزم مزيدا من التأمل هو أن تغيير التنظيم في اتجاه استيعاب المجتمع وإشراكه في تخصصات بعيدة عن مركزية العمل لتحسين أداء العمل السلامي إنما يتطلب سريانا لروح دينامية حركية تضيق بالتنظيم القديم لأن من شأنه أن يقلل من فعاليتها، وتدفع في اتجاه إنشاء هياكل أخرى قادرة على تحقيق مقاصد العمل المتناسبة مع مهام المرحلة. هذه الدينامية الحركية هي التي تقوض الهياكل السابقة وتبني هياكل أخرى وتبث فيها روحها لتقوم بالمهام المركزية المطروحة عليها. لكن الذي يبدو في مسيرة الحركة الإسلامية أنها كانت في كثير من الأحيان تغير قوانينها الداخلية وهياكلها التنظيمية لاعتبارات معينة دون مراعاة القاعدة السابقة فيرتد التنظيم الجديد عليها وبالا، فتبدأ في إعادة النظر فيه وتنطلق دعوات النكوص إلى التنظيم السابق. وقد نلمس في بعض الأحيان انطلاق نقاشات كبيرة من قبيل: ما جدوى الأوراق في عمل إسلامي ذي وظيفة دعوية؟ كيف نعالج معادلة: نضج العمل التنظيمي/ تخلف الواقع الدعوي الحركي. كيف تعمل القيادات المحلية والجهوية لتطوير ومتابعة العمل وفق أولويات التنظيم؟ هذه إشكالات موردها راجع بدرجة أولى إلى عدم التقدير الصحيح لإمكانات الحركة وقدرتها على الفعل في ظل المرحلة وأيضا مرجعها إلى الضغط اليومي وحاجة الواقع إلى الفاعل الإسلامي لمعالجة الاختلال. والواقع أن كل هذه الاعتبارات تبقى ساقطة إذا نظرنا إلى حجم الكوارث التي تصيب العمل الإسلامي خصوصا إذ ا ساد نوع من القلق المرضي الذي يدفع باتجاه التمرد على الحركة أو التعالي الفكري على أطروحاتها واختياراتها. وأظن أن المعالجة الصحيحة لهذا الخلل تتطلب تقديرا صحيحا لإمكانات الحركة تقديرا مبنيا على المعاينة الصحيحة والشروط التربوية والتصورية والتنظيمية، لأن هناك تقديرات خادعة تنطلق من قياس حجم الحركة انطلاقا من فعلها السياسي وحضورها الجماهيري الموسمي، هذه التقديرات، وإن كان المراقبون والفاعلون السياسيون والأمنيون يعطونها الاعتبار الأول، إلا أن التقدير الذاتي ينبغي أن يكوم مبنيا على الأساس التربوي والتصوري والتنظيمي. وحين تتقدر إمكانات الحركة بناء على المعيار ذاك، حينئذ يطرح الفقه التنظيمي الهياكل المناسبة الضرورية وتطرح أيضا الاختيارات والأولويات. 3 الازدواجية بأي معنى ولأي هدف؟ اختيار الازدواجية في العمل التنظيمي الإسلامي له ما يبرره: تميز الحركة الإسلامية عن غيرها من التيارات لكونها ذات اختيار عقائدي تربوي سلوكي وهذا ما يستلزم الاحتفاظ بإطارها التنظيمي الذي يقوم يخدمة هذا الاختيار المحض. ارتباطا بنفس الهدف، ولأن الحركة الإسلامية تسعى إلى تطوير أشكال عملها في اتجاه استيعاب المجتمع وإشراك الفاعلين فيه فإن هذا يستدعي إقامة هياكل أكثر انفتاحا تحقق بقدر كبير التميز العقدي والفكري والسلوكي، ولكن يبقى الإطار الأول هو الممد بأسباب استمرار هذا التميز. الحركة الإسلامية في اتجاه الدولة تبقي على الازدواجية لتهيئ شروط إنجاح المشروع الإسلامي على مستوى التمكين، إذ أن الاختيار السياسي لابد له من دعم اجتماعي، وهذا ما يبرر خلق ازدواجية تنظيمية بهذه المهام (الجماعة/الدولة). هكذا يمكن أن نفهم هذه الازدواجية. لكن الذي نستخلصه من رصيد التجربة أن هذا الاختيار التنظيمي وسياق فهمه وتنزيله قد خلف أخطاء كبيرة واختلالا عظيما راحت بسببه مكاسب كبيرة للحركة الإسلامية مما يستدعي طرح أسئلة للنقاش. قضية الازدواجية قضية تنظيمية صرفة أم هي مشكلة تصورية؟ كل قضية تنظيمية إلا ومن ورائها تصور استراتيجي للعمل، ذلك أن التصور للعمل بمنطلقاته وآفاقه وطرق اشتغاله هو الذي يحتم نمط التنظيم الذي يتقرر انتهاجه. وإذ ذاك ليس التنظيم سوى آلية تتطور بتطور تصور العمل. لكن الذي يثير الانتباه فعلا كون هذه الازدواجية التنظيمية التي تنظر لها الحركة الإسلامية قضية تنظيمية صرف أم تكتيك تنظيمي لخدمة المشروع الإسلامي أم هي ذات بعد تصوري عميق؟ الذي يبدو واضحا من خلال الاستقراء لرصيد التجربة الحركية أن المنطلقات التصورية العقدية هي التي تملي احتفاظ الحركة بالجذع الرئيس في العمل أو المحور العام للتنظيم سواء تعلق الأمر: بأداء المهمة المدنية الشرعية ليحتفظ التنظيم الآخر بالمهمة البشرية الجهادية كما هو الشأن في تجربة التنظيم الخاص في جماعة الإخوان المسلمون، أو بأداء المهمة التربوية التكوينية الدعوية لتحتفظ التخصصات الأخرى بالمهام ذات الصلة سباستيعاب المجتمع والانفتاح على طاقاته وإشراكها في المشروع الإسلامي بنحو من الأنحاء، أو تعلق الأمر بأداء مهمة الانغراس في الجماعة ليقوم التنظيم الآخر بتهييء شروط الانتقال مللدولة وبرامج عملها وتنمية وسائل اشتغالها كما هي التجربة الإسلامية السودانية. وكيفما كان الأمر فالضابط واحد: هو وحدة التنظيم لا تحقق كل آمال المشروع الإسلامي لتبقى القاعدة: وحدة المشروع الإسلامي تستدعي التعدد التنظيمي، ما الذي يبرر هذه القاعدة؟ يوما هي آثارها على واقع العمل؟ إن بحث الحركة الإسلامية عن تجذير خطابها وشرعيتها من خلال الارتباط المرجعي ومن خلال الوظيفة الإصلاحية الدعوية تجعل من هذه الخصوصية نزوعا نحو تحيز حجم كبير من كفاءاتها وطاقاتها وهياكلها لهذه المهمة. ثم إن باقي واجهات العمل تحتاج إلى عناصر الإمداد أو بلغة أخرى تحتاج إلى تجديد شروط استمرارها، ولا يكون ذلك إلا إذا احتفظت الحركة بهذا التنظيم العام الذي يقوم بالوظائف تلك. إن الباحث في جذور هذه المشكلة وتفاصيلها وتداعياتها في وسط الفاعلين يجد أفكارا كثيرة تطرح منها: إعادة النظر في هذه الازدواجية أو قل للدقة العودة إلى وحدة التنظيم. الطرح المقابل وهو المضي بوتيرة أسرع في اتجاه متمكين كل التخصصات من بدء اشتغالها الميداني. الطرح المرن وهو السعي لخلق التنسيق بين هيئة العمل العام وباقي تخصصات العمل. والناظر في هذه الأطروحات لا يراها سوى حلول عملية ليس من ورائها تصور نظري يقيم المسألة في أبعادها وتداعياتها. فالطرح الأول يريد أن يفر إلى الوراء لمعالجة آثار هذا الاختيار التنظيمي بما تعني هذه العودة اجترار أخطاء الماضي وإعادة إنتاج المشكلات القديمة. والطرح الثاني يبرر لدى أصحابه بالرغبة في الانفكاك من هيئة العمل العام بدعوى توسيع العمل وكسب مواقع جديدة في صفوف المجتمع عبر إشراك فعالياته في البرامج والخطط. أما الطرح الثالث فهو طرح عملي مرن يحل إشكالات على المدى المنظور ولا يصلح أن يعول عليه كاختيار تنظيمي، لأنه ليس إلا عودة إلى وحدة التنظيم بمنظور جديد أقل تكليفا. والناظر بعمق في جوهر المشكلة يجد أن الاختيار التنظيمي الواقعي تكمن وجاهته في: تعدد واجهات العمل وبالتالي تكامل الاشتغال في خدمة المشروع الإسلامي ذلك التعدد الذي يريح الحركة الإسلامية تنظيميا وسياسيا وأمنيا. إمكانية المتابعة الدقيقة لآثار العمل بحسب واجهات العمل. فتح المجال لإشراك المجتمع وكفاءاته في العمل على أساس الارتباط المرجعي. عدم إرهاق كفاءات الحركة بالعمل في كل واجهات العمل وتفريغها بحسب فعالياتها وعطائها الميداني. إن هذه المقاصد وهذه الغايات تفرض إعادة النظر ليس في هذا الاختيار التنظيمي وإنما في نشروط وآلية تنزيله. والواقع أن الحركة الإسلامية نتيجة الضغط اليومي وحاجة الواقع إلى الفاعل الإسلامي تساهلت في هذه الشروط فانفتح الباب لتكوين واجهات العمل والتخصصات حتى وقع تداخل كبير في الوظائف أرهق الكفاءات القليلة مما جعل العمل يتطور بعضه على حساب بعض ليكون المهدد هو هيئة العمل العام. والحاصل أن اغتيال القناعات التي تم التواضع عليها وعدم إيلائها القدر الذي يلزمها من الاهتمام والاعتبار والتقدير يكون أثره كارثيا على مستوى الغايات والمقاصد، وهكذا يتعقد المشكل فلا نستطيع الاختيار بين الطروحات التنظيمية لاعتبار منهجي واحد: حينما ينضج كتصور نظري ينتج اختيارا تنظيميا، وحينما نضع ضوابط تنزيله وآلية تفعيله ولا نلتزم بها يصبح ذلك الاختيار التنظيمي عائقا كما يصبح التصور النظري حلما ينتهي بإشراق فجر الاختيارات المرنة. بلال التليدي