في الآية العاشرة من سورة النور يقول الله عز وجل إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون والآية هنا لا تنطوي على الكثير من الغموض، ولا تحتاج الكثير من التفسير والتوضيح، فهي تبشر بالعذاب الأليم في الدنيا (ربما يتعلق العذاب بالأمراض النفسية) وكذلك في الآخرة لمن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، أي المجتمع المسلم، فكيف بمن يتجاوزون مجرد الحب إلى الممارسة الفعلية لعملية نشر الفاحشة، أكان بفتح أبواب لها، أم اتخاذها حرفة أو تجارة، أم بتعمد نشر أخبارها كي يتجرأ الناس عليها. نقول ذلك لأن سلوك الفاحشة، أو أي سلوك شائن لا ينتشر هكذا من فراغ، وإنما يتجرأ عليه شخص ثم آخر حتى يغدو عاديا لا يثير الكثير من الضجيج، وهو ما يسمونه في السياسة التطبيع أي جعله طبيعيا في العرف العام، كما نقول في سياق التعامل مع العدو الصهيوني. هناك فواحش موجودة في المجتمعات بشكل دائم، وليس ثمة مجتمع مثالي في الدنيا، لا في القديم ولا في الحديث، وقد جُبل الإنسان على القابلية لمقارفة الذنوب، لكن تحويلها إلى أمر عادي وطبيعي هو الخطر الحقيقي، وعندما طالب الشرع بأربعة شهود يرون المرود في المكحلة كما في العبارة الشهيرة لإثبات واقعة الزنا، فكأنما هو يطلب المستحيل في حال قرر الزانيان التخفي والستر، والنتيجة أن العقوبة كانت عمليا لمن ينتهكون حرمة المجتمع ويعتدون على قيمه في العلن وأمام الملأ، وبالطبع لأنهم حين يفعلون ذلك سيجرؤون الآخرين على تكرار ما اقترفوه، وبذلك يغدو سلوكا طبيعيا يمارسه المجتمع برمته. وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري كل أمتي معافى إلا المجاهرين. وحين نتابع مسيرة المجتمعات الإنسانية سندرك أن قيمها هي خلاصة ما يتوافق عليه الناس، الأمر الذي قد يتغير بمرور الوقت، وحين يقع التساهل في التعامل مع رذيلة معينة، فإنها ستأخذ في الانتشار، وصولا إلى تحولها إلى أمر عادي لا يثير الاستنكار. على مرّ الزمان وفي سائر المجتمعات، كانت رذائل الزنا والخيانة الزوجية والجريمة بشتى أنواعها والشذوذ والرشوة والقمار والخمر والمخدرات موجودة بهذا القدر أو ذاك، ولكنها تبعا لرفضها من غالبية المجتمع، كانت تختبئ تحت السطح، ومن وجدوا في أنفسهم ميولا نحو تلك الأفعال، إما أن يمارسوها في السر، وإما أن يكبحوها (وهم الغالبية) خوفا من ازدراء المجتمع ومن العقوبة إذا لم يحل الخوف من الله بينهم وبين ذلك، ولكن وما إن سمح المجتمع بإشاعتها من دون عقوبة ولا رد حتى صارت عادية. وعندما نرى تلك الممارسات المرفوضة في سائر الأديان تنتشر في الغرب، فليس معنى ذلك أن تطورات جينية وقعت في البشر خلال العقود أو السنوات الأخيرة (مثال الشذوذ والاعتراف به رسميا في عدد من الدول هو الأوضح على هذا الصعيد، وتبعا له الإباحية بشتى أنواعها). والحال أن المجتمعات هي التي تحدد سقفها الأخلاقي بحسب حراكها وتطورها، وليس ثمة حرية مطلقة في أي مكان في الدنيا، بدليل أن الجنس الساخن (كما يسمونه) ما زال ممنوعا في وسائل الإعلام الغربية المفتوحة لكل الناس، وبدليل أن ممارسة الجنس على مرأى من الناس في الشوارع والأماكن العامة أيضا ممنوعة، وكذلك التعري الكامل، إلى غير ذلك من الممنوعات مثل المخدرات بمعظم أنواعها. وها هو الشذوذ، ورغم مرور أعوام على تشريعه في بعض الدول واللوبيات المؤثرة التي تقف وراءه لم يأخذ الاعتراف سوى في ثماني دول في العالم، من بينها خمس دول أوروبية، بينما تتفاعل هذه الأيام المساعي لتوفير المزيد من الاعتراف الدولي به، وأقله منع تجريمه من الناحية القانونية. من هنا ليس من الغريب أن يحدد المجتمع المسلم سقفه الأخلاقي بالطريقة التي يراها. وإذا كان الغرب قد تعامل مع الدين بوصفه نصا قابلا للتغيير، فإن الدين الإسلامي ليس كذلك، إذ سيبقى الزنا حراما إلى يوم الدين، فضلا عن الخمر والشذوذ والتعري والمخدرات والقمار، إلى غير ذلك. نتذكر ذلك كله في سياقين، الأول تلك المحاولات الغربية لفرض النمط الغربي في الأخلاق بسطوة القوة، كما يحدث فيما يتعلق بالاتفاقات الدولية مثل سيداو المتعلقة بحرية المرأة، والتي تخالف في الكثير من نصوصها ما اتفق عليه المسلمون، وما تعارفت عليه مجتمعاتنا، فضلا عن مساع أخرى تتعلق بتقديس الحرية الفردية حتى لو تطاولت على المجتمع، مثل الموقف من عقوبة الإعدام ومن ثم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج والشذوذ وسواها من القضايا، الأمر الذي ينبغي أن يواجه بكل حزم من قبل القوى الحية في الأمة، والتي ينبغي أن ترفض هذه اللعبة، وتصر بدورها على حق كل مجتمع في تحديد سقفه الأخلاقي بالطريقة التي يريد، مع العلم أن مجتمعاتنا الإسلامية لن تخالف عقيدتها بأي حال في حال ترك لها القرار، وترك لأهل العلم فيها حرية توضيح الموقف للناس، ولم يبق الضخ من طرف واحد. السياق الثاني يتعلق بالضجر من هذه الموجة العاتية من وسائل الإعلام في الساحة العربية، وفي عالم الفضائيات والإنترنت، وحتى الصحف والمجلات، والتي لا يبدو من العسير القول إنها تتخصص في نشر الفاحشة في الذين آمنوا بكل ما أوتيت من قوة وقدرة، رغم محاولة بعضها إظهار الرصانة. والمصيبة أن يأتي ذلك أحيانا في سياق من التواطؤ مع الخارج الساعي إلى تدمير مجتمعاتنا من الناحية الأخلاقية كي تسهل السيطرة عليها، لا سيما أن العقل الغربي ما زال يرى في انتشار الدين والتدين والمحافظة الأخلاقية والتماسك الأسري حواجز تحول بينه وبين تحقيق أهدافه. أليس غريبا بالفعل أن نعثر على آلاف الجمعيات التي تمول من الخارج وتعنى بتحريض النساء على أزواجهن، كأن الزوجية معركة بين قطبين، كما تعنى بمنع الحمل، وبالدفاع عن الإنجاب خارج الحياة الزوجية، وصولا إلى الدفاع عن الشاذين، إلى غير ذلك مما يخالف ديننا وقيمنا؟! وتزداد الدهشة حين نجد أن الغرب الذي ينشر هذه القيم عندنا، هو نفسه الذي بدأ يتحدث من جديد عن قيم العائلة وتشجيع الإنجاب والحياة الأسرية، وذلك بعدما لمس الحصاد المرّ للمسار الآخر. في وسائل الإعلام التي نتحدث عنها ثمة أخبار يومية يجري التقاطها بعناية عن الزنا الفانتازي والخيانة الزوجية، وزنا المحارم والشذوذ، والجرائم البشعة وما شابه، وكل ذلك في سياق من دفع الناس نحو المزيد من الجرأة على الفاحشة، ولو كان المجال والقانون يسمح لذكرنا أسماء حشد من الفضائيات ومواقع الإنترنت التي تتخصص في هذه اللعبة، لا سيما تلك التي تضع نفسها بذكاء في دائرة الإعلام الجاد. هذه الفضائيات والمواقع ينبغي أن تفضح من قبل العلماء والمفكرين في العالم العربي (ليس بإهدار دم أصحابها بالطبع) لا سيما أن بعضها يروج الثقافة الأميركية والغربية، بما فيها المواقف السياسية من دون خجل ولا وحياء، بل بالتأكيد على قيم الأمة ودينها، فضلا عن السعي إلى توفير البديل الذي يحمي الأجيال من الوقوع في فخ التحلل والتبعية للأجنبي، ثقافة وسياسة.