في سياقات سابقة تحدثت عن الدور التاريخي للتربية لدى الحركة الإسلامية، وذلك ليس من منطلق اعتبارها نموذجا نمطيا جاهزا يقف على بعد دون الأبعاد الأخرى، بل بوصفها ذلك المعنى الشامل التفاعلي الذي يلامس شخصية الإنسان في أبعادها المركبة، فيعيد صياغة ذوقه وطريقة تفكيره وعيشه استنادا إلى المرجعية الإسلامية. وسيعمل هذا المقال الأسبوعي على معالجة بعض الآثار السلبية للنموذج التربوي والمنهجي الذي ساد في السابق في بعض الدوائر الحركية، والذي قام على ثنائيات الحق والباطل ومنطق الجماعة الناجية ذات الحلول الإطلاقية التي لم تكن لتدرك واقعا متحركا ولا لتستوعب تحولات مركبة يعرفها النظام الاجتماعي والسياسي. ومن مظاهر وتجليات هذا التفكير الحدي الذي كان سائدا في البناء الحركي الإسلامي ، المحدودية في صياغة البدائل والحلول للمشكل الواحد ، و الاستعجال في الحسم انطلاقا من رؤية خطية لا ترى إلا من زاوية واحدة دون غيرها؛ أي الثنائية الحدية إما .. وإما ، وهي من الشروط المعيقة لامتلاك منهج للتربية الإبداعية. لكن، المهم عندي بغض النظر عن الأسباب أن إشكالية التربية المنهجية الإبداعية قائمة، و لها مآلات وتداعيات غير مرغوب فيها على الوضع الحركي بجميع أبعاده، خاصة في العمل السياسي الذي يعتبر بلا شك فنا لابتكار البدائل والخيارات المتعددة، حتى أمكن القول أن نجاح الفاعل السياسي مرهون بمدى تجاوز عقلية الخيارين الحديين إلى أفاق البدائل المتعددة. ومن الأمثلة التي تبرز حجم الإشكالية يمكن أن نقدم مثالين دالين: 1 - على مستوى اتخاذ القرار أو الموقف السياسي مثلا، يظل التفكير الحدي – في غياب التربية الإبداعية – منحصرا بين المواجهة المباشرة والشاملة للفساد، بكل ما تستدعيه من استعداء وما يترتب عنها من تداعيات غير محسوبة ، وبين السكوت التام عن المفسدين وما يعنيه ذلك من تعطيل لمهمة الإصلاح والمبالغة في تقدير العواقب. وبين هاذين الخيارين (المواجهة الشاملة أو السكوت التام ) يمكن للفكر الإبداعي أن يكتشف بدائل عديدة مبنية على تجزيء موضوع الفساد وترتيب آثاره على حسب درجة خطورته والفئة المتضررة من انتشاره، ثم بعد ذلك اختيار الجزء الذي تجب مواجهته وفق أولويات ومرحلة الفعل الإصلاحي . 2 - على مستوى بناء العلاقات مع المخالفين، فالشخصية ذات التفكير الحدي (غير الإبداعي) تكون حائرة باستمرار وعاجزة عن الحسم بين موقفين اثنين لا ثالث لهما، فإما الإذعان للآخر وإما التفكير في إزاحته، في حين تكشف الرؤية المنهجية الإبداعية عن خيارات وبدائل كثيرة. ففي الحالة الأولى بدل الاقتصار على خيار الإذعان يمكن التفكير في خيارات تتراوح بين التعايش والممانعة مرورا بالتنازل الجزئي والمواجهة غير المباشرة ، وفي الحالة الثانية أمكن التفكير بدل خيار الإزاحة واستعراض القوة في المهادنة والتحالف والتعاون وغيرها من البدائل الأخرى. فبين الإذعان والإزاحة خيارات قائمة وموجودة تحتاج فقط للعقلية المنهجية الإبداعية التي تفكر في المساحة القائمة بين الموقفين الحديين! ومما يثيرني في التجربة السياسية للحركة الإسلامية في تركيا أنها رغم اشتداد الظروف بحيث وضعت دائما في موقف لا تحسد عليه، بين فكي كماشة الجيش من جهة والعلمانية السياسية من جهة أخرى، ورغم ذلك ناورت وأبدعت البدائل والحلول وحافظت على رصيدها الشعبي والمجتمعي فحققت التطور الذي نشهده اليوم، حيث وصلت إلى السلطة من بين أشواك العلمانية والجيش، فكيف حصل ذلك إن لم تكن العقلية المنهجية المبدعة للحلول والخيارات قد اشتغلت وأنتجت فأثمرت. أنظر مثلا كيف أن الجاهزية لتأسيس حزب بديل لم تتوقف، فكلما جمد الحزب كان مشروع حزب جديد قيد الإعداد والتحضير، حتى أمكننا إحصاء ستة أحزاب توالت في النشأة والتطور بطريقة عجيبة، وأنظر أيضا إلى المنهجية الإبداعية وهي تشتغل في بناء المواقف من القضايا المختلفة للمجتمع والدولة إنه مثال من بين أمثلة أخرى لا يستوعب هذا المقام ذكرها تبين كيف أن النجاح الحركي والسياسي متصل وجودا وعدما بالعقلية الإبداعية المبتكرة للحلول والخيارات والبدائل. وحتى نجمل قولنا، فإننا نرى أن التربية على المنهجية الإبداعية التي تسمح بتوسيع آفاق التفكير في الحلول والبدائل والخيارات من صميم التفكير الاستراتيجي الذي هو في النهاية اختيار من بين اختيارات متاحة، وهو أمر لازم اليوم لأجل رفع منسوب الجودة والقوة في فعلنا الإصلاحي، عن طريق تطوير ثقافة إبداع الحلول في نموذجنا التربوي والتكويني ليس فقط كمهارات تقنية بل ليصير ثقافة مجتمعية شاملة.