الدين يقدم إجاباته الضرورية التي لا تلغي إرادة الإنسان واختياره وذوقه. إنه لا يتعدى الحديث عن الأصول الكلية والضوابط العامة التي تحدد الإطار العام للتصور، والمساحة الواسعة للحركة. حين تناول الدين قضية المآكل والمشارب كان واضحا في اعتبار الإباحة الواسعة التي تشمل أنواعا وأصنافا من المآكل بما فيها تلك التي قد يحصل بشأنها التباس لدى المسلمين بسبب التمايز الديني(طعام الذين أوتوا الكتاب). ووضوح فكرة الدين في اعتبار الإباحة الواسعة يبين امتناع الإسلام عن الخلط بين المعطى العقدي الديني، وبين المقتضى الطبيعي الفزيولوجي، فاختلاف العقيدة لا يمنع الاشتراك في نوع المأكول والمشروب إلا أن يكون التحريم، وهو لا يختص بطائفة دون أخرى، بل هو معلل بمقاصده التي تحيل إلى أن الحكم الشرعي عام لكافة الناس. الدين في موضوع المأكل والمشرب يتدخل في محاور محدودة، لكنها ذات بعد رسالي وحس حضاري ذوقي: ـ المآكل والمشارب وسائل لتقوية الذات لتقوم بدورها الرسالي. هذا البعد يوضح فلسفة الدين في هذا الموضوع، إذ أنه ابتداء يقطع مع الخط الاستهلاكي الذي يجعل الحياة بأكملها تدور في رحى تحصيل المأكل والمشرب، إن هناك فعلا تاريخيا ينتظر هذا الإنسان، والمآكل والمشارب ما هي إلا وسائل للتقوية والتزود لتحقيق الدور الرسالي. لقد رفض ماو تسي تونغ فكرة الجنة الحمراء، واعتبر المآل إليها نوعا من البراز الحضاري، لقد أدرك الرجل بذكائه أن نمط الاستهلاك، حتى ولو كان في عصر غياب الطبقات، يقود إلى الترف وسقوط الحضارة، ولهذا قطعت ثورته الثقافية مع منطق هذا التفكير، وكانت نظرة ماو لموضوع المآكل والمشارب أقرب إلى روح الدين ومقاصده. ـ الاعتدال والوسط: وهو ضابط ديني ينسحب على مجموعة من السلوكات ليبين التوازن المطلوب في فكر الإنسان ونفسه وسلوكه، حتى يتمكن من الانخراط بكل قوة في رسالته التغييرية. ـ الروح الجماعية: لا يسوغ من داخل التفكير الديني أن يشعر المرء بالشبع وجاره يعاني من الجوع. المنطق الديني يشترط أن يصاحب عملية التمتع بالمآكل والمشارب تفكير وشعور بالآخر. إنه بهذا الاعتبار يدخل على عنصر اللذة الشعور والتفكير الإنساني بالآخر، حتى لا تنحرف الذات، وتنمو فيها نوازع الاستهلاك ويموت فيها الإحساس. ليس معنى هذا أن اللذة ملغاة ولا وزن لها في الاعتبار الديني، وإنما يكون لها من القيمة بقدر ما تصبح ذات بعد إنساني يستحضر الاجتماع الإنساني، ويستحضر الكتلة الجماهيرية التي ستقود التغيير، إنه يستحضرها من منطلق إنساني يحارب كل عناصر التفكيك التي يمكن أن تتسرب إلى الذات الجماعية. ـ الحس الحضاري: حديث الدين عن الآداب في هذا الباب ليس من باب التشريع اللازم إتباعه بتفاصيله، إنما هو من الذوق الرفيع المطلوب من الإنسان أن يرقى إلى مصافه. ومن ثمة، فكل ما ورد في آداب الأكل والشرب يمكن النظر إليه من جانبين: - الأول ينصرف إلى الذوق وتنمية الحس الحضاري لدى الإنسان. - والثاني ينصرف إلى البعد الديني حين يربط الإنسان داخل عملية الأكل والشرب اللذة والتمتع بالخالق صاحب النعمة افتتاحا باسمه، وحمدا له على نعمته، ودعاء بتكثير البركة ودوام الرزق. الدين في هذا الموضوع نجح في أن يضبط توجه الإنسان دون أن يلغي حريته في اختيار نوع المأكول وأسلوب عرضه وطريقة تناوله. إنه فتح المجال لوحدة إنسانية على هذا المستوى يكون فيها المأكول والمشروب مسألة مشتركة بين جميع بني الإنسان. إنه يؤسس لعلاقات عالمية، ويزيل الإشكالات التي قد تمنع التواصل بين الشعوب، وفي نفس الوقت يطرح ضوابطه التي تحدد فلسفته المنابذة لنمط الاستهلاك، ويحدد الآداب والتوجيهات التي تنمي الذوق وترفع من الحس الحضاري للإنسان. الذي جرى اليوم، أن الذين تمثلوا رؤية الإسلام في هذا الموضوع خلطوا بين أصول فلسفة الإسلام وبين صور تنزيله في التجربة التاريخية، فصاروا لا يتصورون لهذه الأصول معنى خارج هذه الصور التاريخية، ويجعلون من ذوق النبي صلى الله عليه وسلم واختياره الشخصي في موضوع المآكل والمشارب نموذجا يسحبونه على جميع بني الإنسان. والحال، إن محل الإقتداء في هذا الموضوع لا يتعدى الضوابط وبعض الآداب ذات البعد الديني الخالص، فليس كل ما كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع ينبغي أن يكون محبوبا لدى جميع الناس. فالنبي صلى الله عليه وسلم ـ خارج الضوابط وبعض الآداب ـ يقدم ذوقه واختياره وخبرته التي قادته إلى هذا الاختيار، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون حدود الوصل والفصل بين ما هو مطلوب إتباعه، وبين ما هو من صميم الذوق والاختيار. إن هناك معايير جماعية للذوق والحس الحضاري، لكن صور التمثل متعددة بحسب نزوعات الأشخاص وتكوينهم وتنشئتهم الاجتماعية. وما استقر من عناصر اللياقة الحضارية والذوق الرفيع مما تعرفه الإنسانية اليوم لا يتعارض مع ما يدعو إليه الدين إلا أن يضرب فلسفته العامة الرافضة لمنطق الاستهلاك، أو يهدم منطلقات هذا الدين في اشتراط التوسط والاعتدال والإحساس بالآخر وربط اللذة والتمتع بشكر الخالق. ليس وراء ذلك إلا اختيار الإنسان وذوقه وطريقته الخاصة في تمثل هذه القيم لبناء علاقته مع المآكل والمشارب وسط عالمه الذي يعيش فيه. وإذا كان بعض الذين يبحثون في كل موضوع عن تميز يخرجون به المسلمين عن دائرة المشترك الإنساني يدخلون البعد العقدي بقصد المخالفة، فليس هذا الموضوع الطبيعي مجالا للحديث عن هذا التمايز. إنهم ينتقضون أصلا قرآنيا عظيما يجمع الإنسانية ويوحد قناعاتها ويوجه ذوقها وحسها الحضاري لوجهة واحدة. حين نزيل هذا البعد الطائفي الذي يحشر بكل عنف قضية المخالفة العقدية لأهل العقائد الأخرى في هذا الموضوع، نكون قد قمنا بخطوة أساسية لإقناع الآخر بعالمية مبادئنا وتصوراتنا، وأنهم يجدون مكانهم في ضفافه بدون أن يشعروا بأي ضيق أو تعامل عنصري. نحتاج في جميع موضوعاتنا أن نبحث عن عالمية التصور الإسلامي وإنسانية التفكير الديني، نحتاج بهذا الخصوص إلى تطهير أجزاء كثيرة من تراثنا، بل ومفاهيمنا أيضا من نزعات التمايز الطائفية وأحيانا العنصرية التي أملتها سياقات معينة. العودة إلى منطلق الدين وأصوله ورسالته ستقودنا لا محالة إلى رحابة العالمية والإنسانية، ولا شك أن هذا هو التحدي الأكبر في عصر العولمة.