ماذا يقول كريم مروّة في كتابه :«في البحث عن المستقبل» ؟ وماذا يمكن أن نتوقع منه أن يقول قبل قراءة كتابه؟ ليس في السؤال الثاني ما يثيب الفضول لأربعة أسباب على الأقل: فللأستاذ مروّة أكثر من خمسة عشر كتاباً، عالج فيها مواضيع نظرية سياسية متنوعة، منذ أن نشر «كيف نواجه الأزمة في حركة التحرر الوطني العربية» عام 1974، وصولاً إلى «الفكر العربي وتحولات العصر» عام 2006، مروراً ب «حوار الأيديولوجيات بين أفكار الماركسية وافكار دينية» 1997 و «من ذاكرتي الفلسطينية» 1998. وإذا كان تعبير «أزمة حركة التحرر» قد بدا، في مرحلة راحلة، تعبيراً متفائلاً، قائلاً بأزمة يمكن تجاوزها، فإن انتصار الأزمة، التي أنتجت مجتمعاً عربياً تآلف مع استنقاعه، جعل السيد مروّة يعود إلى تعبير قديم : النهضة، بلغة معينة، أو التنويرة بلغة أخرى. ولعل مآل الأزمة، التي لم تعد أزمة، هو الذي وضع على قلمه تعبير : «تحولات العصر» ، مفسراً الاستنقاع العربي بغفوة طويلة، تضع العالم العربي في زمن وما خارجه في زمن آخر، سمته التحوّل والتغيّر واحترام العقل والإنسان. يستمد السؤال الثاني شرعيته من مجلة «الطريق» اللبنانية، التي عاشت حوالي ستة عقود، وأشرف عليها، في العقود الأخيرة، السيد كريم مروّة، بعد أن حوّلها إلى «مركز فكري» متعدد الأصوات يسائل قضايا الثقافة والسياسة والأدب ، من وجهة نظر نقدية، تطمح إلى التحريض والاستنهاض أو تحلم ب «نهضة أخرى»، بلغة أدق. بدت "الطريق" في سنواتها الأخيرة صوتاً رومانسياً ، يحاول استفزاز عقل عربي اقترب من الشلل. يتمثّل السبب الثالث، وهو الأكثر وجاهة، في التاريخ السياسي الأيديولوجي التنظيمي لمؤلف الكتاب. فقد بدأ مروة الشاب قومياً عربياً، استفزّه سقوط فلسطين، فاعتنق الماركسية وأصبح شيوعياً، مصالحاً بين قوميته وماركسيته ومصالحاً، على مستوى العقل والضمير، بين ماركسية قومية وتربية دينية، تلقاها في أسرة شيعية، وحّدت بين التديّن والتسامح، وبين التسامح المتديّن والقضايا الاجتماعية والوطنية. ولعل هذا الالتزام المتعدد العناصر، الذي يمدّ صاحبه بالطمأنينة والثقة، هو الذي جعل مروة شيوعياً منذ شبابه، وقائداً شيوعياً في الكهولة والشيخوخة، وماركسياً في المراحل الثلاث وما تلاها. أمّا السبب الرابع فيثير الفضول ولا تنقصه الطرافة: استقال كريم مروة في «أوج كهولته» من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني وخرج إلى «الطريق»، متمسكاً بماركسية تنزع إلى الليبرالية ومقترباً من ليبرالية تقول ب «الاشتراكية»، ومعتنقاً «مساحة بيضاء» لا تطمئن إلى الماركسية ولا إلى الليبرالية معاً أراد الرجل أن يتحرّر من «عادات عقائدية»، مقتنعاً أن البحث عن الحرية يستلزم تصورات حرة. اختلف في خياره "الطريف" عن ماركسيين آثروا "الستر" أو «الاعتكاف»، أو الأمرين ، فتناسوا ما كانوا يقولون به، وتابعوا حياة هادئة لا تميل إلى «القضايا النظرية». بل إن بعضهم اتهم «التاريخ» بالفسق والفجور، وظل يردّد ما حفظه من عقود، كما لو كانت حياة النظرية لا علاقة لها بالحياة. بدا كريم مروة، المتفائل الغيور على تفائله، شبيهاً بالباحث السعيد، الذي يتأبط بحثه إلى نهاية الطريق. وهذا البحث عن معنى الحقيقة والحياة هو الذي يمدّه، اليوم، بحيوية فائقة تلغي الفرق بين الشباب والشيخوخة، أو تكاد. * * * إذا حاول القارئ التخفف من مواضيع الكتاب المتعددة والمتنوعة، وحاول النفاذ إلى سؤاله الأساسي، وجد نفسه أمام موضوع جوهري هو : النهضة في العالم العربي، أسباب سقوطها وطبيعة القوى التي تعمل على توطيد نقيضها، ودور «النهضويين الجدد» في العمل على توليد نهضة جديدة. يقول مروة: «أخشى أن أكون متعسفاً أو ظالماً إذا ما اعتبرت أن المسؤولية عن فشل حركة النهضة لا تنحصر في القوى الخارجية وحدها، ولا في الحركات السلفية...، إن الذين اعتبروا أنفسهم، بحق أو بغير حق، ورثة تلك الحركة وورثة أفكارها، هم الذين بدّدوا منجزاتها بالسياسات التي سلكوها...»، «إنهم يتساوون جميعاً في المسؤولية عن ذلك الانهيار الكبير لمشروع النهضة الثانية في خمسينيّات القرن الماضي» .. ص 153 154. تتضمن هذه الفكرة أطروحة الكتاب الأساسية، التي تتوالد منها أفكار متنوعة وأطروحات ثانوية وتقول: تشكّلت النهضة العربية الأولى، إن صح التعبير، في فترة الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وأجهزت عليها الأحزاب القومية والشيوعية، التي صعدت في خمسينيات القرن الماضي منتسبة "زوراً؟" إلى النهضة الأولى. والسؤال الأول الذي يحرّض عليه اجتهاد الأستاذ مروة هو التالي: إذا كانت "الأحزاب الثورية" المفترضة قد أجهزت على النهضة الأولى، (التي سبقت الاستقلال) وقادت إلى تدمير "النهضة الثانية" ، التي أعقبت الاستقلال، فما هي الملامح النهضوية في المشروعين القومي والشيوعي؟، وما هي الأفكار الأساسية التي استعارها "النهضويون الثانويون" من النهضويين الأول؟ ومع أن مروّة يترك الجواب معلقاً في الفضاء، أو لا يقاربه أصلاً، فهو يقرّر أمرين أساسيين: رفض تحميل التدخل الاستعماري وحده وزر الإخفاق العربي، متفقاً مع ما جاء به صادق العظم في كتابه : "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، بعد هزيمة حزيران عام 1967 ، وما تقول به العقول النقدية الواضحة. يتكشّف الأمر الثاني في نقطة مضيئة، تقرر بأن هذه الأحزاب مارست سياسات خاطئة، أو مارست السياسة عن طريق نقيضها، آخذة بوسائل العنف والانقلابات العسكرية وعدم الاعتراف المتبادل. والواضح الأساسي أن هذه الأحزاب مارست شيئاً "يشبه السياسة" أفضى إلى تدمير دلالتها، في حقبة معينة، وأسّس لتدمير شروطها في حقبة لاحقة. أنجزت «الأحزاب الثورية» مفارقة مؤسية، حين عهدت إلى الحزب السياسي المفترض تدمير السياسة مبرهنة، أنها لم تكن أحزاباً، ذلك أن السياسة تشكّل عنصراً داخلياً في ا لممارسة الحزبية، مثلما أن الحزب ظاهرة حديثة تجمع بين السياسة والديمقراطية. ولعل ممارسة السياسة عن طريق إلغائها هو في أساس الانقلابات العسكرية، التي أوكلت إلى «النخب السياسية» الحديث نيابة عن الشعب، وصولاً إلى تدمير الأخير والاستغناء عنه. وعلى هذا فإن «الانقلاب العسكري» لم يكن طريقاً إلى الثورة والتثوير الاجتماعي، ولا درباً إلى تحرير فلسطين، بل كان في جوهره العميق التعبير الأدق عن القيم التقليدية المتخلّفة، التي تقول بأحادية الرأي وسطوة الأب وبالمراتب والتفاوت بين البشر وترفض المساواة، وتختصر الأحزاب إلى ولاءات قبلية وعشائرية وجهوية.. ومع أن مروة بدا مصيباً في أطروحته القائلة بالسياسة الحزبية التي تلغي الحزب والسياسة معاً، فإنه لم يتوقف، كثيراً أمام التحوّلات التي تصيب "القوى الحزبية" بعد وصولها إلى السلطة، ولا أمام ما دعي ب "دولة الاستقلال الوطني"، التي أجهزت بأدواتها السلطوية على الشعب والسياسة والأحزاب. وهو ما انتبه إليه المفكر المغربي علي أومليل، حين حلّل أسباب هزيمة النهضة العربية. وواقع الأمر أن حرص السيد مروة على إدانة القوميين والشيوعيين معاً والمجانسة الكلية بينهما، دفعه إلى قصر حديثه على الأحزاب وعدم التوقف الكافي أمام مسألة الدولة، علماً أن بين وجود الأحزاب في السلطة ووجودها خارجها فارق كبير. بل إن تدمير الحركة اليسارية في مصر يفسّر بالعسف السلطوي الذي يتجاوز سياسة الأحزاب "التي تسيء إلى معنى السياسة"، وتخترع مجتمعات وهمية بأدوات نظرية متخيّلة، دون أن يلغي هذا نضالها وأحلامها وتضحياتها الكبيرة. اتكاء على أطروحته الأساسية، القائلة بالانهيار الشامل للمشروع النهضوي العربي، يصل مروة إلى أطروحة ثانوية لاحقة، حيث يقول : «تولّدت، من جرّاء ذلك، ظاهرات سياسية واجتماعية من نوع ما نشهده في أيامنا هذه، ....، وأدى العجز المتراكم إلى تراجع دور المجتمع ا لمدني والدولة، ...، وأصبح المجتمع كله أسير أزمة عامة، أزمة بنيوية إذا صح التعبير والتفسر أزمة هي الشكل الراهن لعصر الانحطاط الذي نحن فيه. ص : 172». يصل مروة إلى تناقض مجزوء، أملاه عليه "تفاؤله التاريخي"، فيجمع بين القول ب "تراجع المجتمع المدني" والقول بأزمة شاملة متوّجة بالانحطاط. وإذا كان القول المجزوء بتراجع المجتمع المدني يحتاج إلى تفسير أطول، فإن الأزمة الشاملة المعيشة لا تحتاج إلى تفسير، فهي واضحة في العجز المتبادل بين السلطة والمجتمع، أو في "استنقاع الأزمة" إن صح التعبير، الذي يفضي، تاريخياً ومنطقياً، إلى سيرورة بطيئة من التفكك والانحلال، تتجلى في حركات دينية ومذهبية وطائفية وقبائلية وجهوية، أي في كل ما يبدّد معنى الوطن والمجتمع. قسّم مروة بين "الانحطاط"، الذي جاءت به أحزاب نهضوية زائفة أجهزت على النهضة، أو جاءت به "دولة الاستقلال الوطني"، بلغة علي أومليل، وبين إعادة إنتاج الانحطاط، أو "الأزمة البنيوية" المغلقة، الذي تكفّلت بتوطيدها وتطويرها "أيديولوجيات دينية"شعبوية مختلفة. مايز الكاتب، في مواقع متعددة من كتابه، بين المنظومة الدينية في ذاتها التي تحتمل قراءات مختلفة، وبين «الأيديولوجيا الدينية» ، التي قوامها استعمال الدين وإساءة استعماله، من أجل أغراض سياسية، كما مايز بين «القوى الدينية المستنيرة» ص 178، و «القوى الدينية المغلقة»، التي تنتج «الكتل العمياء» المسلوبة الإرادة. حاذر، في أكثر من مكان، قصر «الكتل العمياء» على بعض القوى الدينية، مستضيئاً بالحركات الشعبوية الفاشية، التي تميّزت بالانقياد الأعمى الذي «يجعل المواطنين رعايا، مجردين من الوعي، مسلوبي الإرادة، يسيّرون إلى حيث يراد لهم ويقرّر عنهم، من دون أن يدركوا، ..، أنهم معنيون بالمشاركة في كل ما يتصل بالوطن والدفاع عنه، ومعنيون بالبحث عن الطريق الذي يحدّد له مستقبله ويحدّد لهم مستقبلهم فيه. ص 77».,. وواقع الأمر أن مصطلح "الكتل العمياء"،الذي يبدو اليوم صادماً، قد قال به، بلغة أخرى،عبد الرحمن الكواكبي، قبل أكثر من مائة عام، حين تحدّث عن التجانس بين المستبدين والمستبدّ بهم، حين تطول فترة الاستبداد كثيراً، بما يجعل من قيم الاستبداد مرجعاً للمجتمع. لخّص مروة ما أراد أن يقول بكلمة "الرعايا"، التي هي صفة الجماعات المستبد بها، التي لم تصبح شعباً، ولم تدخل بعد في فضاء المواطنة والمواطنين. ومهما كانت حدود الإصابة والخطأ في تحليل مروة، فإن الرعايا، كما "الكتل العمياء" ، لا تفسر بالشعبوية، دينية كانت أو غير دينية، ذلك أن هذه الحالة، في مشتقاتها المختلفة، محصلة للممارسات السلطوية، في بلدان تكتسح فيها الأجهزة السلطوية المجتمع كله. فإذا كان في "الكتل العمياء" ما يترجم: غياب الفرد والمحاكمة المستقلة وهيمنة الامتثال المطلق ورفض نسبة المعايير وعدم الاعتراف بالآخر والتمسك بالمظاهر الشكلانية وصولاً إلى "التكفير" وتأثيم المعرفة وزندقة العلوم، فإن في الممارسات السلطوية المستبدة المستديمة ما يلغي النقد والحوار والاختلاف وما ينصّب الهرمية الصارمة مبدأ للعلاقات الاجتماعية، إذ "الحر الوحيد" في ذروة السلطة، وإذ ما تبقى هم "الرعايا"، وما بين الذروة والقاع أجهزة تعيد إنتاج "الأعلى" و"الأسفل" ... ولهذا فمن العبث الحديث عن "الكتل العمياء"، من دون التوقف الكافي أمام السيرورة السلطوية التي استبدلت ب "الأحزاب النهضوية" كتلاً جماهيرية ، مشغولة بالتحليل والتحريم. فلم تكن هذه "الكتل العمياء" ممكنة من دون هندسة قمعية للمجتمع وأجهزة مدرسية إتباعية، وإيديولوجيا دينية سلطوية، لا ترى خارج "الحق السلطوي" حقاً. اعتماداً على مفهوم «الأزمة البنيوية»، أو مفهوم «الانحطاط»، يتوقف الأستاذ مروة أمام بعض القضايا الأساسية مثل :التراث، الهوية، القومية العربية، دور المثقف. فهو يميّز في النظر إلى التراث بين موقفين: طرف يستحضر الماضي، في ضوء حركة التاريخ، ليؤكد «أن ثمة تواصلاً في هذه الحركة، وأن الانتقال من حقبة إلى حقبة إنما يحمل معه الانتقال من فكر إلى فكر آخر جديد معاصر، ... ص : 35»، وطرف آخر يذهب إلى التاريخ لأنه «يعجز عن تقديم الجواب عن الأسئلة التي تطرحها عليهم أحوال بلدانهم البائسة ، ... ص: 34». تضيف العودة إلى الماضي، إلى بؤس الراهن بؤساً جديداً، لأنها، و بسبب غياب وعيها التاريخي، عاجزة عن قراءة الماضي والحاضر معاً. غير أن إجابة مروة لا تكتمل إلا بالتذكير ب «الانحطاط» المسيطر ، الذي يهمّش الموقف العقلاني من التراث، ويمدّد مساحة الموقف غير التاريخي، الأمر الذي يجعل «الماضي» يسند الانحطاط المعاصر، عوضاً عن أن يكون أداة في نقده وتجاوزه. ذلك أن القديم لا يقرأ إلا بمعرفة جديدة، بدلاً من قراءة الظواهر الجديدة بأفكار قديمة، وإلا فقد العلم معناه، ولم تعد هناك حاجة لطلب العلم، طالما أن في «الماضي» علماً صالحاً لجميع الأزمنة. يتابع مروة مساره مع «ثنائية المركز والهامش»، إذ الهامش هو النهضوي المهزوم والمركز ما يعيد إنتاج هزيمته، كي يصل، بداهة، إلى موضوع الهوية، حيث أنصار الماضي يعتبرون الماضي المجهول وحده هوية منجزة مكتملة، خلافاً لنقيضهم الذي يقول بهوية متغيرة متطورة، هوية هي دائماً في طور التكوّن، فيقول: «الهوية والخصوصية، هما ، بالنسبة إلى أي شعب ، حاجة طبيعية له. لكن المساءلة في المبالغة التي تجعل من الإنسان المسلم متفرداً لا علاقة له ببقية البشر، كما لو كان هو المؤمن الوحيد والبقية «كفرة». تتضمن المبالغة هذه عنصرين: أولهما «مهزوم فقير» يسعى إلى «الستر» و «الأمان»، وثانيهما انغلاق فكري يستنكر مبدأ المقارنة والحوار مستبدلاً بالتعرّف على «الآخر» أبلسته وتحويله إلى شيطان. يظل كريم مروة وهو يطرح سؤال الخصوصية والهوية واقفاً أمام إشكاله الأول: هزيمة النهضة، التي جاءت من إلغاء السياسة، وأفضى استنقاعها، إلى ظواهر متعددة ، منها اختراع «الخصوصية والهوية» وتقديس تراث مخترع أيضاً. وما قال به وهو يفصل بين تصورين للتراث ينطبق بدوره على الهوية والخصوصية، حيث المبالغة تصورٌ يفصل، وهمياً، بين «العالم العربي» وخارجه ويعمل ، فعلياً، على إيقاف حركة التاريخ واستبداله ب "تاريخ متوّهم" لا وجود له. ومع أن مروّة لا يفصّل كثيراً في إجاباته، فإن ما قال به يطرح، ضمنياً، السؤالين التاليين: ما هي الخصوصية التي يقول بها "الخصوصيون"، في الشروط العربية الراهنة، وما هي تلك الهوية التي لا يرضون عنها بديلاً؟ إن ما يختص به العالم العربي اليوم هو :الاستبداد والفساد وانحطاط النظام التعليمي وهبوط القيم والتصور العشوائي للعالم... وما هويته المفترضة إلا هوية سكونية مغلقة هي هوية المهزوم، الذي يقاتل من أجل تأبيد هزيمته وتحصينها، ... يتمثل المأساوي ، كاملاً، في فاعلية "التصورات الماضوية"، التي لا ترفع هزيمة ولا تسعف مجتمعاً، بل توطّد هزيمة المجتمع المهزوم، وتشدّ من إزر السلطات التي أسست للهزيمة.وبسبب هذه الهزيمة المزدوجة يظل «تحرير فلسطين» شعاراً موسمياً فارغاً، باستثناء جهود كفاحية تعني أكثر من حصار، أكبرها حصار الشعب الفلسطيني في غزة. يرد حديث مروة ، في شجونه كلها ، إلى جدل انهيار النهضة وديمومة السلطات المستبدة، حيث الاستبداد النموذجي، الذي تحدّث عنه عبد الرحمن الكواكبي، يجهز على المظاهر الحديثة جميعها: فلا مواطنة ولا ما يسمح بحقوق المواطنة، ولا معرفة إلا بما يسوّغ الأمر القائم ويهزم نقيضه ولا مكان، إلاّ صدفة، للوعي القومي، الذي هو أحد تجليات الحداثة الاجتماعية. ولذلك يرفض مروّة مقولة "مجتمع عربي" ومقولة "مجتمع مدني عربي"، مسوّغاً ذلك باختلاف "تكوّن المجتمعات العربية، وطرق تطوّرها، وفي أنظمة الحكم فيها. ص : 182". ومع أن في كلامه جزءاً من الصحة، فهذه الصحة مجزوءة وملتبسة، وذلك لسببين: تتفسّر هشاشة الوعي القومي العربي، أولاً، بالممارسات السلطوية ، التي حوّلت الشعب إلى رعية، كما أشار الأستاذ مروة، وب "الممارسات السلطوية القطرية"، التي اختصرت المصالح الوطنية والقومية إلى مصالح سلطوية. ذلك أن التباين بين بلد عربي وآخر، الذي أنتجه التاريخ كان من الممكن تجاوزه بواسطة التاريخ ذاته، في حال وجود حياة سياسية ديمقراطية. يقول مروّة:"رغم اعتراضي على مقولة "مجتمع مدني عربي"، فإنني أحب أن أقول إن بلداننا العربية، بالمفرد وبالجمع، محكومة بأن تتطور في الاتجاه الذي تصبح فيه جزءاً من العالم المعاصر. صل : 184 ". والسؤال الضروري هو التالي: إذا كانت "بلداننا" محكومة أن تصبح، بالضرورة، جزءاً من هذا العالم (فعل التاريخ)، ألم تكن قابلة لولا تخلّف السلطات أن تصبح، رغم خصوصياتها ، بلداً قومياً عربياً واحداً له خصوصياته المختلفة؟ إن سعي مروة إلى الموضوعية يدفعه إلى تغليب الخاص على العام، في الشأن القومي العربي، خاصة أنه يرى البلدان العربية، مستقبلاً، جزءاً من العالم، دون أن يستطيع أن يراها كلاً قومياً واحداً. والأساسي في هذا كله أن اختلاف الأقطار العربية جاء به التاريخ وأعادت إنتاجه الأنظمة ، عوضاً أن تتجاوزه. وكذلك حال سؤال "الأغلبية والأقلية" الذي لم يصبح سؤالاً ملتهباً إلا في زمن انحطاط "دولة الاستقلال الوطني"، ذلك أن ما يدعى"أقليات"، وهي تسمية مريضة كريهة، لم تكتشف "خصوصياتها" خلال الكفاح ضد الاستعمار الخارجي. واكتشفتها في زمن القمع وإهدار المواطنة. أدار مروة حديثة الواسع المتشابك حول ثنائية : سقوط النهضة وسيطرة الدولة المستبدة، واشتق منها مواضيع متعددة تخترقها مقولة "الانحطاط"، إذ التصور المنحطّ للتراث يهزم نقيضه، والخصوصية المنحطة تلغي العقل وتغتال العقلاني، وإذ الانحطاط يخترق الثقافة والمثقفين، ..... عثر على البديل في ثلاث مقولات: إعادة الاعتبار للسياسة ، الديمقراطية، والمجتمع المدني. غير أن إجاباته المفترضة هي أسئلة أكثر منها إجابات : كيف يمكن توليد السياسة في فضاء اجتماعي مقموع ينوس بين سلطة قامعة وبدائل سياسية و "جماهيرية" تعيد إنتاج القمع السلطوي بعد تحصينه بالمقدس؟ ما هو دور الثقافة المحتمل في مجتمعات أُفقرت اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وجمالياً تنوس، مرة أخرى، بين "ثقافة الفرجة" المنحطة وثقافة تراثية مزوّرة تدور حول التحليل والتحريم والتكفير والتبريك؟ كيف تأتي الديمقراطية إلى مجتمعات أضافت سلطاتها إلى "الموروث العثماني" كل تقنيات القمع التي سمح بها التقدم التقني العالمي؟ ومن أين يأتي المجتمع المدني إلى مجتمعات أتقنت صناعة "الجماعة المتجانسة"، علماً أن الديمقراطية هي السياسة، وأن الأخيرة لا تنفصل عن "الفرد" الحر في خياراته، وأن المجتمع المدني محصلة للديمقراطية السياسية وتحقق شروط المواطنة؟ يمكن اختصار هذا كله في وضع "الدولة العربية" الضعيفة، التي تحجب ضعفها بأجهزتها السلطوية المتعددة، ذلك أن تحقق المجتمع المدني، أي الاعتراف بالمجتمع وبحقوقه، برهان عن قوة الدولة ومؤسساتها. تعود، بهذا المعنى، مقولة "الأزمة الشاملة" ، التي تحدّث عنها مروة، التي تعبّر عن تهافت السلطة والمجتمع معاً، طاردة المستقبل الموعود، الذي يبشّر به مروّة، إلى مجال غير منظور. ولعل هذا الوضع المعقّد البائس، الذي يداوره ويصاوله المؤلف بشكل لا تعوزه التناقضات، هو الذي يقوده ، إلى :استراتيجية التفاؤل، التي تعني الانتقال من الواقعي إلى المرغوب، ومن الملموس إلى المجرّد. يتجلّى ذلك في ثلاث تعابير تخترق الكتاب من أوله إلى آخره: حركة التاريخ، التي تعهد إلى "مجهول" بما يجب أن يقوم به "معلوم"، لا وجود له على أية حال. ومع أن مروة يقول: "إن الإطلاق ترف فكري لا علاقة له بالنضال من أجل تحقيق السعادة للبشر. ص : 19"، فإن تمسكه بالسعادة المفترضة يعيده إلى "المفهوم الغائي للتاريخ"، وهو جزء من تاريخ الماركسيين جميعاً، كما لو كانت السعادة، ناضل من أجلها البشر أو لم يناضلوا من أجلها ، تنتظرهم في نهاية الطريق. والتعبير الثاني هو : كلمة المستقبل الذي يبدو، لزوماً، مغايراً للحاضر، بما يعيّنه مخلّصاً كريماً، يساوي بين الشعوب العاملة والشعوب الخاملة. ولهذا يقول : "إنني أعتبر أن اليوتوبيا تشكل ضرورة في كل عمل سياسي يرمي إلى تغيير الواقع ص : 160". والقول صحيح، لأن "اليوتوبيا"، هي اللامكان، وأنّ اللامكان هو اللاّزمان، وأن اللامكان واللازمان هما حاضنتا المستقبل العربي، الذي يظل غافياً في مكان ما . أمّا الكلمة الثالثة، وهي من الموروث الماركسي أيضاً، فتتمثل ب "المجتمع الكوني"، الذي كان كونياً في زمن استعمار البلدان العربية، وتغيّر وتبدّل وبقي كونياً، بعد "استقلالها"، مقرراً في الحالات جميعاً أن زمن المجتمع العربي قائم داخل الزمن الكوني وخارجه: فهو داخله بسبب التبعية والاستهلاك التابع، وهو خارجه على مستوى القيم وحقوق الإنسان. يتعيّن مروة، ظاهرياً، ماركسياً وليبرالياً في آن: ماركسي لأنه يؤمن بغائية التاريخ، وهو ليبرالي يتحدث عن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق المواطنة وكونية القيم،... لكنه وهو يبدو على ما يبدو عليه إنسان آخر، يلوذ بالتفاؤل ويتحصن وراء: اللايقين. ولهذا يهرب من الإجابات الواضحة، باستثناء الشأن اللبناني، ويؤثر الاحتمال أو الفرضيات العامة. يجيء "اللايقين"، ربما، من بؤس الحالة العربية، ويجيء، ربما، كردّ فعل على "علموية ماركسية" سابقة، آمنت بأن "النظرية" لا تقول إلا الحقيقة، وأن النظرية الحقيقية تهندس البشر والعوالم، كما تشاء. لكن مروة، في ماركسيته الليبرالية وليبراليته المتمركسة، يظل فكراً ديمقراطياً عقلانياً يقظاً، يدافع عن الثقافة ويمارس دور المثقف، ويبني وحدة السياسة والثقافة على أساس نقدي. تتكشّف فضائل الكتاب الأساسية في أربعة وجوه: السعي إلى تقديم رؤية شامل للواقع العربي في أسباب انهياره وتجلياتها واقتراح بديل محتمل، شجاعة التجدّد الفكري الذي يرى في التجربة الذاتية الماضية عنصراً داخلياً في تجربة لاحقة واضحة كانت أو ناقصة الوضوح، التذكير الضروري بالماضي النهضوي القريب، الذي يحاول القمع المتواتر أن يغيّبه وتصوّره القوى الظلامية المكمّلة له "انحرافاً شنيعاً عن أصول الأمة". أمّا الوجه الأخير ، وهو أكثرها إشراقاً واستدعاء للاحترام فيتمثل بما يمكن أن يدعى ب "اليأس المقاتل"، حيث اليأس يربك القول وروح القائل، والقتال يردع اليائس ويواجه اندفاعه القاتل. إنسان يبحث عن المستقبل وقد شارف على الثمانين، ومثقف نهضوي هزمت نهضته ويبحث عن بديل، وماركسي أخفقت قضيته ويسائل أطيافها هادئاً.. في هذا البحث الذي يواجه الزمن بشباب الأمل، تكمن جمالية كريم مروة.رغم هذا كله هناك سؤالان: ما موقع الاشتراكية، وهي مقولة سياسية أيديولوجية، في النسق الفكري الليبرالي الذي قول به مروة الذي يضمن مقولات: حقوق الإنسان، الديمقراطية، المجتمع المدني، حرية الاعتقاد، ... وغيرها من الأفكار الليبرالية؟ ما هو المعنى الراهن للمفاهيم الماركسية الكبرى: المادية التاريخية، صراع الطبقات، حزب الطبقة العاملة، وحدة النظرية والممارسة، ...؟ في عام 1834 حلم المصري رفاعة رافع الطهطاوي بسعادة البشر وبامرأة تحتكم إلى التربية الفاضلة لا إلى شرعية الحجاب، وفي عام 2009، يواصل اللبناني كريم مروة حلم المصري الذي سبقه، مبرهناً أن الحلم الذي تطارده الكوابيس، يواصل الطريق. (٭) كريم مروّة: في البحث عن المستقبل، دار الساقي، بيروت، 2009.