في الوقت الذي تتسابق فيه الدول لحماية نسيجها الاجتماعي عبر إنتاج أنماط ثقافية نابعة من عمق هويتها ، مستجيبة لتطلعاتها في تبوء مراكز مهمة في السلم الحضاري ، يعيش المجتمع المغربي نوعا من الغزو الثقافي ينخر الذات ويضرب بقوة أوصالها ، في انسجام تام مع العزوف الكلي عن التمسك بمقومات الثقافة الوطنية والموروث القومي ، مما يخلق لدى كل غيور إحساسا بالخوف من التدمير الذي بات المجتمع قاب قوسين أو أدنى منه ، ويدفعه في نفس الوقت إلى تلمس الأسباب ، والبحث عن وسائل الدفاع بغية ضمان السلامة والنجاة من واقع لا يمكن تحمل نتائجه . فلقد عرفت نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن ثورة عارمة على صعيد القيم ، بحيث اهتزت كل اليقينيات الإيديولوجية التي طالما شكلت مرفأ رست فيه سفن الجماعات والأفراد طويلا، ليصبح الجميع يبحث عن بديل قيمي يواجه به التحديات الجديدة . وأمام هول ما حملته تكنولوجيا الإعلام والاتصال من جديد على صعيد المعرفة والقيم ، فقد كان طبيعيا أن تعيش المجتمعات غير المحصنة نوعا الانبهار، بلغ في بعض الحالات حد الضياع والتيه .إن العلاقة التي حكمت الغالبية من المتعلمين في المجتمع المغربي مع الثقافة الكونية ، من خلال وسائل الإعلام والاتصال ، كانت وما تزال علاقة استهلاك غير واع في كثير من الأحيان ، وقد برزت آثار ذلك من خلال التغيرات التي طالت كثيرا من مظاهر السلوك ، نظام الحياة ،العادات ،العلاقات الاجتماعية ،التربية ، قيم الإنتاج والاستهلاك وغير ذلك ، لتنمحي العديد من أوجه أصالتنا على الرغم من وجود جوانب المحافظة والمقاومة . إن نظام الحياة الذي أصبحنا نسير عليه في المأكل والمشرب والنوم والتساكن يطرح أكثر من سؤال حول مصير الهوية المغربية ، فقد انهارت قيم (على الأقل عند البعض) ، من مثل المواطنة (تمغربيت) المسؤولية ، الواجب ،الاحترام ،الذات الجماعية ،الصدق ،المنافسة الشريفة،التضامن ،التضحية ، الحياء ،الهيبة ،التقدير ،الاعتراف بالجميل ،التعاون ،الإخلاص ،التطوع ،الالتزام ،العطف ،حقوق الآخرين ،العفة ،القناعة ...لتحل محلها قيم سلبية من مثل الاستلاب ،الاغتراب ،العبث ، اللامسئولية ،الرعونة ،الفردانية،الكذب ،الانتهازية ،الوصولية ، كل شيء بمقابل ، الجحود والنكران،الغش ،القسوة ،العسف،الظلم ،الجشع ،الطمع ...لتغدو الحياة الاجتماعية فضاء مفتوحا على كل الممارسات والمسلكيات الغريبة التي تعبر عن فساد ذوق وخشونة في الطبع ، وتلك أمور لا تنسجم بأي حال مع الموروث الحضاري الذي كان فيه الفرد محاطا بالعديد من الضوابط القيمية التي تنظم السلوك ، وتقوم مختلف الاختيارات . إن جمال القول وجمال الفعل الإنساني لا يمكن أن يسودا في مجتمع تحكمه الفوضى في التصورات والقناعات ، ولعل ظاهرة الاختراق القيمي بما هي وجه من وجوه "التواصل " الثقافي والحضاري (أو الغزو على الأصح )إذا لم تلتفت لها الجهات المسؤولة ، لا سيما المؤسسات الثقافية والتربوية وكل المعنيين بالتنشئة الاجتماعية ، ستفضي بالمجتمع إلى مزيد من التدمير ، لأن كل اختيار إيجابي ينبت بجانبه نقيضه الأشد ضراوة ،وهذا ما يعمق أزمتنا ويمنعنا من كل نهوض . إن الكثير من مظاهر التشتت في الإرادات ، وتباين تصورات التنمية التي تبلغ حد التناقض ، وتضارب المشاريع ، والتردد في تبنيها ، والاختيارات والاختيارات المضادة في كثير من أوجه حياتنا المغربية ، كل ذلك مؤشر على حياة تطبعها الفوضى ، وعلامة على زمن فقد كل عناصر اللذة والجمال ، ليغدو الإنسان فيه هيكلا بلا روح ، أو سعيا بلا هدف .وتلك مأساة المجتمعات الضعيفة ،وهي تبحث عن حداثتها الوهمية . إن المجتمع المغربي المهدد في نسيجه القيمي يفرض على المؤسسات الثقافية بمعناها الواسع، وكل الموجودين في مواقع القرار التفكير بجدية في بناء جدار أمني يستمد لبناته من أصالتنا وهويتنا ، أسوة بالدول الكبيرة التي تحث الخطى من أجل تحصين هويتها ولو على حساب قيم كونية وشعارات أنتجتها العولمة بشعاراتها التي لا مكان فيها للأقليات بحث هويتها ، إن قيمنا المغربية ذات العمق العربي والإفريقي في حاجة إلى الحماية لنضمن استمراريتنا ، ونكون في مستوى التحديات المفروضة علينا يمينا وشمالا ، قبل أن نصبح لقمة سائغة ، ولا نملك القدرة على المقاومة .