الانتلجانسيا في أي مجتمع هي قلبه النابض بهمومه وآلامه، أي النخبة المثقفة التي تعبر عن الرؤى المجتمعية للمستقبل بورديته المغمورة بالأمل المتدفق، ولا تغفل الماضي بإخفاقاته ونجاحاته، إلى جانب الحاضر بما يفرضه من تحديات وأزمات، هذا كله بغاية بناء وطن متقدم له مناعته الثقافية وكينونته الحضارية وهويته التي تشكل نسيجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي... وبالتالي فتغييب الثقافة والفكر عن المسار الحضاري لأي شعب يعني جعله يعيش حياة استلاب وضياع وجودي تقلب موازينه النفسية وتمثلانه الإدراكية وترميه في حضن التبعية والعبث، وتحرمه من حق التفرد والتميز على مستوى أنماطه الوجودية والحضارية في سياقه التاريخي الإنساني، الذي يفرض تصورا شموليا مبني على أسس (الهوية، الأمة، الشعب) وقيم الحرية والديمقراطية والحداثة والمساوات والعدالة... هذا معناه أن الرهان على الانتلجانيبة المغربية في إيجاد حلول منطقية لما يمر به المغرب، عبر مقاربات عقلانية تعين على رسم صورة الوطن الحقيقية بكل موضوعية ووفاء، وترصد همومه وايجابياته والتحديات الراهنة على المستوى الإقليمي والدولي (العولمة، محاربة الإرهاب، الحداثة، الديمقراطية ...) أمر لا مندوحة عنه، على أساس أن العلم والمعرفة والثقافة هي الأسلحة الفعالة لمحاربة آفات( القرن 21 ) ، في ظل شراسة تحرير الأسواق والثورة المعلوماتية والغزو الثقافي والاقتصادي، ما يفرض على البلدان المستضعفة في العالم الثالث أن تدور في فلك الدول المتقدمة قهرا، فينطبق عليها قانون ابن خلدون مؤسس "علم العمران البشري" : «الضعيف يقلد القوي»، وبالتالي فأي إقلاع أو تقدم حضاري في المغرب مرهون بالاستفادة من فكر وعطاءات الانتلجانسيا المغربية الوطنية، بفتح المجال لممارسة الرؤى والمقترحات والمشاريع المعقولة والعلمية وأخذها بعين الجدية، إلى جانب استقطاب الكفاءات الوطنية من : (دكاترة، مفكرون، فلاسفة، علماء ...) للاستفادة من خبراتهم وتصوراتهم ومناهجهم العلمية، كل حسب اهتمامه ومجاله العلمي، للحد من هجرة العقول والخبرات وهدر الرأسمال البشري المؤهل والمثقف والذي لا يعوض، وتشجيع البحث العلمي، من أجل تفويت الفرصة على الدول التي تنهب طاقات الشعوب العقلية والعلمية إلى جانب الثروات الطبيعية والاقتصادية وغيرها. هذا معناه، أنه من الواجب إعادة الاعتبار إلى الفئة المثقفة وإخراجها من أبواب التنظير والغربة الذاتية التي هي أقسى أنواع الغربة حسب "عبد الله العلوي"، لإرجاع الانتلجانسيا إلى مجالها الطبيعي التداولي الواقعي، للإسهام في بناء الوطن والدولة الديمقراطية الحداثية، ولا يتحقق ذلك إلا بإرادة سياسية وطنية قوية، فنستطيع بعد هذا الحديث عن عقلانية مغربية وطنية تضيء السبيل لبناء مشروع الأمة المغربية والإقلاع الحضاري الشامل، دون إغفال مقومات الهوية والكينونة الحضارية، وفي نفس الآن نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح حضاريا وإنسانيا، فمسافة الألف ميل تبتدئ بخطوة...