ما بين التقييمات الموضوعية والمزايدات السياسية "" لا أحد يمكن له أن ينكر التطور المستمر للمغرب في المجال الحقوقي والسياسي. أكثر من ذلك، ما يميز التجربة المغربية في هذا المجال كون مقومات هذا المفهوم وتطويرها لم تكن هدية سهلة المنال بل جاءت نتيجة لتراكم الأحداث السياسية والتي قدم من أجلها المناضلون الوطنيون تضحيات جسام زمن الصراع السياسي [اعتقالات، شهداء، منفيون، مختطفون، مغتربون،....]. إن المجهودات التي بذلت من أجل تحقيق الانفتاح السياسي والحقوقي توجت بأول النتائج الإيجابية في بداية التسعينات تلاها حصيلة مشرفة في هذا المجال ابتداء من 1998. لقد تمكنت الدولة، خصوصا في العهد الجديد، من خلق الاستثناء في المنطق السياسي العربي باستيعاب الطاقات البشرية الوطنية وإدماجها في مسلسل بناء الدولة. إنها مرحلة ضرورية في مسلسل الإصلاحات السياسية في إطار الانتقال الديمقراطي. وأعتقد أن إدماج هذه الطاقات والاستمرار في الانفتاح بنفس المنهجية ونفس الإرادة سيلغي طابع المغامرة عن المبادرات لتطوير مشهدنا السياسي وتراكم المكتسبات من خلاله. واعتبارا لما سبق، تصبح الخطابات والتقييمات، التي تعتبر ما نعيشه اليوم من إصلاحات حقوقية [Human Rights] مجرد موضة، بدون مصداقية وبعيدة عن الموضوعية السياسية. إن مفهوم حقوق الإنسان بالمغرب لا يمكن اعتباره ضمن المفاهيم شائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفي الخطاب السياسي المعاصر بشكل عام من باب الديماغوجية. إن وضع المغرب يعبر عن تراكمات قيمة لا يملك المواطن المغربي إلا الاعتراف بها احتراما للضحايا. وعليه، يصبح من الصعب استخدام هذا المفهوم وتقييم مكتسباته بدون الالتزام بالمسؤولية الوطنية إسهاما في تأصيله. وإذا اتفقنا على جسامة المسؤولية التي تلقى على عاتقنا للاعتراف بالحمولة الثقيلة للمكتسبات في هذا المجال، سنجد أنفسنا مضطرين للالتزام بالموضوعية في استعمال هذا المفهوم وتمحيصه ومراجعته في إطار ثقافة تستحضر الحقوق والواجبات. إنه شرط ضروري للارتقاء بمنظومتنا الحقوقية، وبشكل نهائي، إلى مستوى القيم الإنسانية المشتركة للميثاق العالمي لحقوق الإنسان. وتزداد المسؤولية جسامة لكون الحقوق كلها من صنف الحق وأن الإنسان موضوع لها وأخيرا وليس آخرا أن هذه الحقوق متعلقة بالإنسان عضويا وبالتالي فهي مضافة إلى إنسانيته. وما عدا ذلك، يعتبر مزايدات سياسية معرقلة ومضرة بسمعة ومستقبل البلاد من باب الافتعال. والغريب أن تمادي بعض الجهات في خطاباتهم المعرقلة يتزامن مع إرادة سياسية للدولة ومع انتظارات كبيرة للشعب المغربي للاستمرار في تعميق الرؤية في مجال حقوق الإنسان للارتقاء بها إلى أن تصبح مسألة من مسائل الفلسفة عامة وفلسفة القانون والأخلاق خاصة، وتعميمها بآليات ناجعة لتكتسب طابع الشمولية. إن التحليلات والتقييمات والخطابات السطحية بشأن وضعنا الحقوقي الموجهة إلى الخارج بالخصوص لا مبرر لها لأن هذا المنطق لا يتوافق مع الإجماع الوطني لخلق التراكم الحقوقي داخليا من خلال تقوية الطابع المؤسساتي للبلاد. إن من يتمادى في لفت نظر الخارج بشأن قضايا حقوقية مفتعلة، ما عليه إلا أن يطرح على نفسه السؤال التالي: هل ساهمت كل الحضارات عبر التاريخ في بلورة حقوق الإنسان أم لا؟ وهل لانفعالاتهم مشروعية اجتماعية وقيمة مضافة في مجال خلق التحول في الهوية المغربية من التقليد المفرط إلى الحداثة؟. وفي هذا السياق، والذي يفرض ضرورة التوفر على نظرة داخلية للعمل الحقوقي، قال ميشال سيمون: "إن النضال من أجل حقوق الإنسان سيضل سطحيا وواهيا ما لم يتجذر عند المناضل ولم يتأصل في تصوره للإنسان والكون... ولا شك في أن الأمم والأجناس والتجمعات إن وجدت في ثقافاتها أو تقاليدها الدينية أسبابا خاصة لمناصرة حقوق الإنسان والنهوض بها لدافعت عنها بأكثر نجاعة". أي أننا لا نحتاج لنشكو أمرنا للخارج بقدر ما نحن مدعوون للبحث والتفكير في مقوماتنا الثقافية لرفع كل التحفظات الغير المبررة. الأهم في هذا الأمر هو ضرورة التزام كل فرد من المجتمع باحترام حقوق الآخرين كي يضمن احترامهم لحقوقه في ضل مجموعة توازنات واقعية، وقوانين وضعية تنظم هذه الحقوق المتبادلة. فلا يمكن تطوير مكتسباتنا الحقوقية بشكل دائم ومستمر بدون الافتراض النظري بوجود نقطة توازن بين حق الفرد وحق الآخرين، ومنفعته ومنفعتهم في إطار يمتاز بالراشدة والعقلانية. إن المبادرات التي قامت بها الدولة خلال سنة 2008 ، والتي كان آخرها مبادرة وزير الداخلية في العشر الأواخر من شهر دجنبر بشأن تقنين حق الاحتجاج، تعبر على الإرادة السياسية لتقوية الطابع المؤسساتي لحقوق الإنسان. إنها مبادرة تهدف إلى استكمال ربط الحقوق بالصبغة التعاقدية وبالتحديد القانوني لاستدراك الهفوات والنواقص التي لا ينظمها القانون. إن تثبيت الحقوق وترسيخها بشكل نهائي يستوجب ارتقاء التعاقدات والتحديدات القانونية إلى مستوى يستحيل من خلاله تطويع القانون واستغلال ثغراته لخدمة مصالح ومنافع فردية وفئوية ضيقة وانتهازية. إن تقدم بلادنا في أوراش الانتقال الديمقراطي في إطار المشروع المجتمعي الحداثي وما صاحبه من مجهودات ملموسة لتأهيل التراب الوطني من شأنه أن يعطي لمنظومتنا الحقوقية طابعا خاصا أي نموذجا قابلا للاندماج في الفكر الحقوقي العالمي بطابعه الخصوصي الذي يعبر عن التطور التاريخي للشعب المغربي ولنظامه السياسي بمفاهيمه وأحداثه الخاصة. ويرجع الفضل في إعطاء الانطلاقة لهذا المنعطف الإيجابي في حياة المغاربة إلى رواد التوافق الذي انبثقت عليه حكومة التناوب التوافقي سنة 1998. كما أن مضاعفة الجهود لتثبيت المكتسبات إبان العهد الجديد فرض إمكانية تجاوز حدث الخروج من المنهجية الديمقراطية لسنة 2002 ومكن المغرب من نيل رضا المنتظم الدولي. وأعتقد في هذا الصدد أن الترحيب الدولي الذي لقيه مشروع الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية ليس ترحيبا منفصلا عن المشروع الشمولي لإصلاح الدولة بل هو اقتناع بالوضع المتقدم لمشروع مأسستها وتنمية المجتمع. إنه اعتراف وتأكيد في نفس الوقت بكون قوانيننا الداخلية بطابعها الخصوصي [إعلانات، دستور، قوانين، إلخ] لا تتناقض مع التشريعات الدولية في مجال حقوق الإنسان[مواثيق، إعلانات، قرارات، معاهدات،إلخ]، أي أن منظومتنا الحقوقية لا تتناقض مع وحدة وجوهر الحقوق كما هو متعارف عليها دوليا بل تحتاج فقط إلى التحديث في إطار "تحديث الدولة، تحديث المجتمع". لقد توجت المجهودات السياسية ابتداء من 1990 بخبرة سياسية ذات أهمية بالغة في بناء المفاهيم. فبالرغم من حداثة تجربتنا الديمقراطية واختلاف ثقافة مجتمعنا وتنوعها، تمكن المغرب في ظرف قياسي من خلق تعاقدات مجتمعية وقوانين رسمية توجت بمصالحة تاريخية انضافت كتجربة خاصة إلى التجارب العالمية في مجال علم الانتقال السياسي ["Transitologie"]. ويمكن أن نقول بثقة كبيرة أن البلاد تسير في اتجاه الحسم في مسألة المعايير الأساسية الضامنة لكرامة الإنسان، وللحرية، والعدالة، والسلام. وأعتقد أننا أمام مؤشرات تعبر عن اقتناع كل المؤسسات السياسية والمدنية باستحالة إتاحة فرص تنمية الفرد والمجتمع تنمية كاملة في غياب احترام حقوق الإنسان. كما أصبحنا نلمس أن هذه الحقوق أصبحت ملك للناس جميعا ولا تحتاج إلى أن توضع تحت وصاية الأقليات. إن عملية التأصيل مستمرة ليس فقط لتثبيت الجيل الأول من الحقوق بل من أجل التركيز كذلك على الجيل الثاني والثالث. واعتبارا لما سبق، يتضح أن الإسراع في وثيرة خلق التراكمات وتأصيلها يتطلب تحقيق الالتقائية بين كل الفاعلين لرفع هذا التحدي الصعب. إن تجاوز عتبة الجيل الأول من الحقوق أي جيل حقوق الفرد المواطن [الحق في الحياة، والحرية، والأمن، وعدم التعرض للتعذيب، والتحرر من العبودية،...] يستدعي الالتزام بالتبصر والموضوعية بشكل لا يتيح إمكانية استغلال التأثيرات الجانبية لمسلسل بناء الدولة للتشكيك في المسلسل برمته. وأعتقد، في هذا الاتجاه، أن المغرب تمكن فعليا من تقوية مناعته بالشكل الكافي للتركيز على خلق الآليات للرفع ومن وثيرة تحقيق الجيل الثاني من الحقوق أي جيل حقوق الإنسان الجماعي المدني [الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، بما في ذلك العمل، والتعليم، والمستوى اللائق للمعيشة، والمأكل، والمأوى، والرعاية الصحية،...]. أما المرور إلى تحقيق الجيل الثالث من الحقوق والذي يسميه البعض بجيل حقوق الإنسان الكوني من خلال مقاربة التضامن [الحق في العيش في بيئة نظيفة، والحق في التنمية الثقافية، والسياسية والاقتصادية،...]، يبقى مرتبطا بالتفنيد النهائي للمزايدات السياسية المضيعة للوقت والجهد. ووعيا بالتحديات المستقبلية، فإضافة إلى إعطاء الانطلاقة لورش التكوين في مجال حقوق الإنسان لفائدة الفاعلين في مجال الأمن [الشرطة، الدرك الملكي، رجال السلطة،...]، تعد التربية على حقوق الإنسان من أولويات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. ويتعلق الأمر بجعل التعليم في بلادنا آلية تكتسب الأطفال ما يحتاجونه من مهارات ومعارف ومواقف للعمل في سبيل عالم خال من انتهاكات حقوق الإنسان. لقد بات من الضروري ترسيخ منهجية تعليمية تقوم على المشاركة والتفاعل كأكثر الأساليب كفاءة وفعالية بالنسبة لتطوير المهارات والمواقف والمعارف لدى الأطفال والبالغين، على حد سواء. إن المغرب في حاجة إلى التركيز على التربية العلمية للأطفال وذلك لتحقيق الأهداف المرجوة والتي نذكر منها قوة الشخصية، والإصغاء للآخرين، والإيمان بالاختلاف، والموضوعية، والتعاون، والاتصال، والتواصل، والإسهام في حل المشاكل والإشكاليات عوض تعقيدها وعرقلتها، والقدرة على تحليل الأوضاع، والإلمام بالمعارف الكاملة الواردة في وثائق حقوق الإنسان والقدرة على الإسهام في صيانتها، وجعل التعاون قيمة أفضل من الصراع لتحقيق كرامة البشرية، والمنهجية، والمشاركة، والتفاعل عوض التلقي السلبي،...إنه تحد كبير لكونه مرتبط بالطابع الإستعجالي للإسراع في تحديث التراث العربي الإسلامي عامة والمغربي خاصة. فأمام تعقيد الموروث الثقافي التقليدي، لا يمكن لنا إلا أن نفتخر بوضعنا الحالي وبالحصيلة الحقوقية لمسلسل الانتقال الديمقراطي خصوصا وأن حقوق الإنسان مع المسألة الديمقراطية أصبحت من أهم قضايانا بالرغم من كونها كمفهوم ذا طبيعة علمية حداثية ليست وليدة تراثنا. وأعتقد أن المغرب في طريقه لخلق الاستثناء في مجال تحديث وإعادة النظر في التراث التقليدي الموروث [مع العلم أن الحداثة واستعمال العقل في التراث العربي الإسلامي قد أقبر وأتلف مع التراث المعتزلي]. إن ما تقوم به الدولة يعبر بجلاء عن الإرادة السياسية لفتح الباب للاجتهاد للكشف عن العوائق التي بإمكانها عرقلة عملية تأصيل ثقافة حقوق الإنسان ومواجهة أزمة عدم مبالاة المواطن بهذه القضية وعدم وعيه بقداسة الإنسان مهما كان جنسه أو انتماؤه أو فكره. إن الأمر يتعلق بجعل الحقوق من مسؤولية المجتمع لكي لا تبتدع وتتطور الوصاية التقليدية على هذا المجال كما حدث بالنسبة للدين بالرغم من كونه ملك جماعي. إن الإفراط في التوظيف الإيديولوجي لحقوق الإنسان لتحقيق أغراض سياسية ضيقة لبعض الجهات للتشكيك في مشروعية الإصلاحات السياسية لن يخدم المستقبل الحقوقي للإنسان المغربي بقدر ما يضر به. وعلى غرار ما يقوم به المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتعاون مع مؤسسات الدولة وأمثال الأستاذ المقتدر محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي، على المثقف المغربي أن يستثمر جهوده كاملة في إحياء الفكر الحداثي والعمل على تأصيله في أفق تصبح فيه كل المحاولات لاستغلال التراث والعقيدة لنبذ فكرتي الديمقراطية وحقوق الإنسان بدون جدوى. لقد أضحى اليوم ضروريا نقد الجانب اللاعقلاني الذي هيمن على فكرنا ولا يزال والذي وصفه حسن حنفي بأنه هدم للعقل. وفي الأخير يمكن القول أن التراكمات السياسية مكنت المغرب من العودة إلى العقل والعقلانية في إطار المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي رسم معالمه جلالة الملك. إنها دعوة صريحة إلى إعمال العقل والمناداة بحرية الإنسان ومسؤوليته. إن نظامنا السياسي تجاوز بكثير منطق الحكم في العقل العربي التقليدي الذي يجعل من الحاكم كائنا تجاوز الإنسانية وهو في نفس الوقت يجعل من المحكوم كائنا دون الإنسانية، لا رأي له في المصلحة العامة ولا دور له في الحياة الاجتماعية. إن المعركة من أجل الحداثة ابتدأت بإرادة قوية واضحة وما علينا إلا أن نستمر في إعادة حساباتنا مع تراثنا الثقافي والعقائدي ومراجعته [ديننا الإسلامي الحنيف صالح لأي زمان ومكان]. وهذه، هي بالذات مهمة المثقف والفاعل السياسي الحداثي ومعنى النضال النظري من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويبقى سؤال السيد لشكر في الندوة التي نظمتها جريدة المساء حول "الملكية البرلمانية" بتاريخ 29 دجنبر 2008 سؤالا وجيها وجب التركيز على الإجابة عليه بكل موضوعية وبكامل المسؤولية:"كيف يمكن أن نخلق تحولا نوعيا في مسار الانتقال الديمقراطي في واقع عنيد تتقوى فيه القوى المحافظة والماسكة بالآليات والمركب المصلحي". فالانتقال من السلطة المحافظة إلى الشرعية الشعبية لن يتم من خلال الاعتماد على الفكر النظري فقط والدليل على ذلك هو النتائج الانتخابية التي يحصل عليها دوما المتشبثون بالسياسة النظرية. وأعتقد أن الوضع المغربي لا يحتمل المزيد من المزايدات السياسية الداخلية. المطلوب من النخب الحداثية التكتل الواقعي لحماية المكتسبات الحقوقية وتطوير ممارساتنا السياسية وحمايتها من الضربات السياسية الخارجية. إن ما قامت به إسرائيل في قطاع عزة يستدعي التأمل والتحليل السياسيين. علينا أن نعمق التفكير في الحدث المؤلم الأخير. أعتقد أن المنطق المبطن للعملية الهمجية لإسرائيل والتي خلقت وديانا من دماء الأبرياء في قطاع غزة هو عرقلة غير مباشرة لتراكم المكتسبات المجتمعية في مجال الحداثية في العالم العربي. وعلى عكس التصريحات الدولية لحماية الحداثة، قامت إسرائيل بخلق الفتنة باللجوء إلى العنف وبالتمادي عنوة في خلق الإحراج لمؤسساتنا. الحسين بوخرطة -باحث بجامعة بوردو بفرنسا