عرض أخيرا في القاعات السينمائية المغربية شريط أركانة للمخرج حسن غنجة صاحب عدة أشرطة وثائقية. الفيلم من إنتاج شركة زمان، دون فيلم وكذا القناة الثانية، إضافة إلى دعم المركز السينمائي المغربي، وهو من الإنتاجات الوطنية السينمائية لسنة .2007 وقد شارك المخرج بفيلمه هذا في مهرجان طنجة الأخير، وفي افتتاح مهرجان آسفي للفيلم الفرنكفوني. كتب سيناريو الفيلم حسن غنجة بمساعدة الراحلة فاطمة شبشوب. وقام بالتصوير لوكا لوباريني، والموسيقى ليونس ميكري. وقد شارك في الفيلم ثلة من الممثلين المرموقين مثل الممثلة خ الوزيرة ثريا جبران، وهو آخر فيلم لها، والممثل المقتدر حميدو بنمسعود، والفنان يونس ميكري بالإضافة على الممثل محمد مروازي والفكاهي غلان، والممثلة أسماء الحضرمي وغيرهم... الفيلم يحكي قصة مسار شخصيتين تجمع بينهما وحدة الانتماء والهدف. الانتماء إلى نفس الأرض أو الدوار (أولوز بجنوب المغرب). والهدف الحفاظ على هذه الأرض التي تتجلى رمزيتها في شجرة أركانة الضاربة في الذاكرة المغربية، وذلك بالتصدي لأصحاب الفساد من ذوي الجاه المتسلطين على رقاب الضعفاء، والذين لايعيرون أدنى اهتمام إلى ثقافة وهوية البلاد. الشخصية الأولى تمغارت وتلعب دورها ثريا جبران، وهي شخصية استشهد زوجها أمغار على يد المستعمر، وورثت عنه بندقيته منذ الاستعمار، ستدخل في صراع هي وابنها الثائر (يونس ميكري) مع حمو (حميدو)، رئيس الدوار الذي يستغل منصبه وخوف الناس ليغتني على حسابهم. وحمو في نظر تمغارت، خائن ويستحق الموت. الشخصية الثانية هي الشاب رشيد (محمد مروازي) العائد من أوروبا وكله حنين للأرض والدوار وخصوصا شجرة أركانة (الشخصية الرئيسية في الفيلم)، المنتصبة وسط الدوار التي تذكره بطفولته وربما طفولة المخرج. ولأنه درس علم النباتات فسيتجه إلى حماية شجرة أركانة مؤازرا من طرف سعيد ابن تمغارت والحسين الأبكم (عبدالرحيم المنياري الذي كان موفقا في أداء دوره)، وهو صاحب شهادات معطل، وفي ذلك دلالة قوية. بجانبهم، توجد الدكتورة البيطرية نجاة (أسماء الحضرمي). وفي غمرة فرح رشيد بمعمله المتواضع، سيصطدم بحمو الذي وقع على صفقة بموجبها ستمر الطريق وسط الدوار، وعلى إثرها ستقتلع شجرة أركانة. وهكذا، وأمام جبن واستسلام أهل الدوار، لن يجد رشيد بجانبه إلا السيدة تمغارت بعدما هرب ولدها من جحيم الدوار مكرها زوجته على مرافقته. وتبدأ الجرافات عملها. وفي خضم الصراع الذي لايخلو من لحظات إنسانية مؤثرة، وبعدما أنهى علاقته مع كارولين التي لاتقدر على العيش في الدوار، سيتصدى رشيد للجرافة التي تريد اجتثاث شجرة أركانة من الأرض ومن معها، الماضي والمستقبل، فيصاب في ركبته ثم ينقل على إثر ذلك إلى المستشفى. وفي اللحظة التي يظن فيها حمو أن العراقيل قد انزاحت، تخرج تمغارت ذات ليلة، بندقية زوجها التي كانت تتحسسها في الخفاء بين فينة وأخرى، ثم تتجه صوب منزل (ضيعة) حمو الذي يحيي ليلة من لياليه الزاهية بأهازيج سوسية أعطت للمشهد إيقاعا دراماتيكيا ينتهي بطلقة رصاصة تضع حدا لحياة الشرير، بعدها تموت تمغارت في طمأنينة بعدما أدت مهمتها، وفي النهاية، يعود رشيد في واضحة النهار، مبتور الرجل لكنه سعيد برؤية شجرة الأركانة الشامخة، وكذلك الدكتورة نجاة، (فالشجرة لاتسقط، تظل منتصبة، عنوان العظمة والشرف) كما قال المخرج. قد تبد والقصة بسيطة أومتداولة، لكنها ذات أبعاد إنسانية وثقافية وقيمية مهمة، ترتكز على قيم مغربية أصيلة. تتمثل في التشبث بالأرض وما يرمز إليها. والأرض هي الإنسان وتاريخه وهويته. وقد أبدع المخرج حسن غنجة في نقل هذه الأبعاد والدلالات إلى الصورة وإلى الحركة والكلمة القوية المعبرة، بتقنياته السينمائية التي جمعت بين ماهو درامي (حكي)، وما هو توثيقي (دوار أولوز، منازله وطبيعة الجنوب الخلابة) في تناغم أخاذ جعل من المشاهد يتفاعل مع القصة والقضايا المطروحة في الفيلم. فعلاوة على القضية الاجتماعية الإنسانية (صراع الخير والشر)، توجد قضية إيكولوجية أو بيئية تهم انقراض شجرة أركانة، ولذلك فالفيلم يستحق المشاهدة والتنويه، ولاشك أنه سيضع بصماته على المشهد السينمائي المغربي. صحيح أن المخرج سقط أحيانا فيما هو فولكلوري، وقد ذكرني بفيلم البحث عن زوج امرأتي لعبدالرحمان التازي الذي سقط هو الآخر في الفولكلور الفاسي. لكن قضية أركانة تشفع للمخرج في ذلك. على أن ما يخدش جمالية الفيلم هي بعض اللطخات ـ التجاوزات التي تعد نشازا في السياق الثقافي لأهل الجنوب وللمجتمع السوسي المحافظ على أصالته وهويته، وبالتالي فعازف العود (محمود ميكري) الذي يظل يعزف ويشرب الخمر وزوجته التي تدخن وترقص على إيقاعات عوده مدعية أن زوجها هو الذي يأمرها بذلك، هما شخصيتان زائدتان في الفيلم ولايضيفان له أية قيمة كيفما كانت، بل تعدان غريبتان عن الواقع السوسي المغربي ككل. هما دخيلتان على الوسط القروي، وهذا يجرنا إلى الحديث عن الدكتورة البيطرية التي تبرز كشخصية و تتأرجح ما بين التحرر والحفاظ على أصالتها، على أن مظهرها لايخلو في بعض الأحيان من إيحاءات جنسية عملت الكاميرا على رصدها. على أن ما شدّ انتباهي هو ثلاثة أمور يجب الانتباه إليها. الأمر الأول يتعلق بشخصية سعيد ابن تمغارت التي اتسمت بالمبالغة إلى درجة يمكن تشبيهها بـرامبو، وأعتقد أن يونس ميكري لم يكن موفقا في لعب دور ابن البلد الثائر صاحب الأفكار التقليدية. الأمر الثاني والذي له علاقة بهويتنا وديننا، هي العلاقة غير الشرعية مابين رشيد وصديقته البلجيكية كارولين، حيث صورت على أنها شيء طبيعي داخل عائلة محافظة متشبعة بقيم الأصالة والشرف. هذا التناقض كان من الممكن تجاوزه (مع شخصية عازف العود وزوجته) حتى لايفسد التناغم الحاصل في الفيلم. النقطة الثالثة تتعلق باللغة الفرنسية الحاضرة بقوة في الفيلم حتى أنه يخيل للمرء أن الفيلم موجه إلى جمهور فرنكفوني فقط. وأظن من هنا جاءت مشاركة الفيلم في مهرجان آسفي للفيلم الفرنكفوني. ما أقصده هنا، هو إذا كان الفيلم يخضع لعنونة بالفرنسية، لماذا لم يعنون بالعربية في المشاهد التي كانت بالفرنسية خصوصا عندما كانت كارولين تقرأ (بصوت رشيد) رسالة الوداع؟ لماذا لم يفكر المخرج في الدوبلاج مثلا؟ والإشارة الأخرى هي نصيحة الدكتورة نجاة لعائشة الأخت الصغرى لرشيد بأن تتقن اللغة الفرنسية إن هي أرادت التفوق؟ أنا لست ضد الانفتاح على اللغات الأخرى فهذا يندرج في تلاقح الثقافات، لكن الأمر عندما يطرح بهذا الشكل يعد بروباكاندا للفرنكفونية. ولمَ لا اللغة العربية أو الأمازيغية للتفوق؟ أتمنى أن تأخذ المسألة اللغوية في أفلامنا بجدية خصوصا أنها تعرف بعض التجاوزات وكذلك الأخطاء عند العنونة حيث ما يقال يخالف أحيانا ما يكتب بالفرنسية؟ وفي الأخير، ففيلم أركانة جدير بالاهتمام خلافا لبعض التعليقات القدحية التي حاولت الحط منه ومن قصته.