لم يغادر عرفات الدنيا ألا بعد أن ملأها ضجيجاً حول وفاته، فقد بدت مراسيم موته ووداعه مثل ماراثون طويل كان هو سيده بلا منازع، حتى حين تنازع القوم مع زوجته على حق الولاية عليه وعلى ما تركه من إرث متعدد الأشكال. لم يقتل الإسرائيليون ياسر عرفات مباشرة كما فعلوا مع كثيرين من رفاقه، لكن واقع الحال الذي تحجبه حسابات السياسة وسطوة القوة الأمريكية الإسرائيلية، لا زال يشير إلى أن الرجل لم يمت إلا بعد أن دخل الإسرائيليون على الخط من خلال سم وضع له بطريقة ما، لكن تأكيد ذلك لم ولن يكون متاحاً حتى لو ثبت بشكل من الأشكال. مسألة السم ليست سهلة، والاعتراف بها ليس سهلاً كذلك، والذين سيخلفونه لن يروق لهم أن يثبت ذلك لسبب بسيط هو أنه سيقيد حركتهم السياسية، وحيث سيكونون مضطرين إلى رفض ما رفضه في قمة كامب ديفيد التي عقدت برعاية كلينتون، وهو أمر قد يكون لهم فيه رأي آخر في مرحلة لاحقة، فضلاً عن الأمانة على الخط الذي سار عليه، والذي جمع في فترات معينة بين التفاوض والمقاومة. ثمة جانب آخر في سياق قصة السم يتصل بمسألة التسوية والتفاوض من أولها وآخرها، وهي مسألة لن يقبل أحد التطرق إليها، أعني من دائرة الذين يبشرون بالسلام وحكاية الدولة الفلسطينية. فأن يثبت أن عرفات قد قتل سماً، فإن لذلك دلالته الخطيرة، فقد طاردت الدولة العبرية من يؤمنون بالتحرير من البحر إلى النهر، وقتلتهم واحداً إثر الآخر (فتحي الشقاقي، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي) ، ومعهم أعداد كبيرة من قادة الصف الثاني، فيما لا زالت تطارد الباقين وعلى رأسهم خالد مشعل الذي حاولوا قتله بالسم أيضاً. أما من آمنوا بالشرعية الدولية وقبلوا ب 22% من فلسطين، ثم قاوموا واستخدموا الكفاح المسلح، فقد قتلوا أيضاً، كما حصل مع "أبو علي مصطفى"، وكما يتوقع أن يحدث مع خليفته أحمد سعدات عند خروجه من سجن أريحا. وحده ياسر عرفات الذي بدا شذوذاً عن القاعدة بعد مرحلة انتفاضة الأقصى، وها إن عملية الاغتيال بالسم قد أكدت شمولية النهج الإسرائيلي بالعمل الحثيث على قتل أو اعتقال كل من يريق الدم اليهودي أو يأمر بإراقته مهما كان وزنه السياسي. هكذا تبدو اللعبة كما لو كانت تأكيداً مراً على أن ما يعرضه الإسرائيليون لن يصل بحال حدود ما تم احتلاله عام 1967، ومن يطالب بذلك ثم يستخدم العنف فسيكون مصيره القتل. إنها رسالة لا بد أن تكون قد وصلت المعنيين بالقرار السياسي بعد عرفات، الأمر الذي سيدفعهم نحو توجه أعلن كثير منهم الإيمان به أصلاً، أي التفاوض من دون أية وسيلة عنف بصرف النظر عن نتيجة التفاوض أو المدة التي سيستغرقها. ما يعنيه ذلك في واقع الحال هو أن الإسرائيليين قد حققوا انتصاراً ما على الفلسطينيين بقتل عرفات، وذلك عبر دفع الحركة الأكبر في منظمة التحرير وحزب السلطة إلى لغة محسومة في التعامل مع الإسرائيليين، تقوم على التفاوض من دون أدوات ضغط حقيقية. المصيبة أن ذلك يحدث في ظل يمين متطرف أمريكي وآخر صهيوني، وفي ظل جدار يلتهم ما يقرب من نصف الضفة الغربية، وفي ظل سبعة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، وفي ظل انتفاضة رائعة دخلت عامها الخامس بإنجازات بطولية عظيمة وتضحيات كبيرة، الأمر الذي سيجعل من العودة إلى أعوام أوسلو السوداء (96 إلى 2000) ردة لن يحتملها الفلسطينيون بسهولة حتى لو تمكنت حركة فتح من التعايش معها. تلك هي فاتحة الأسئلة في الرحلة الفلسطينيةالجديدة، لكن أسئلة أخرى ستطل برأسها لاحقاً تبعاً لمعطيات عربية وإقليمية لا تبدو في صالح الفلسطينيين، لكن تغيراً لاحقاً في تلك المعطيات تبشر به حرب العراق سيفرض إيقاعاً جديداً للمسيرة الفلسطينية قد لا ينسجم مع خط القادة الجدد في الساحة الفلسطينية. رحم الله عرفات وأعان الفلسطينيين على أخذ الدروس الحقيقية من تجربته، وليس الدروس الواهمة وفق نهج الذين عارضوه مؤخراً وقد يجرّون القضية معهم إلى درك سحيق. لكن وقوع شيء من ذلك لن يغير في حقيقة أن هذه القضية ستبقى حية، ليس فقط لأن من ورائها شعب عظيم مدجج بالحياة، ولكن أيضاً لأن القضايا التي يتداخل فيها التاريخ مع الدين مع الجغرافيا لا يمكن حسمها بألعاب بهلوانية عابرة، بل لا بد أن تتواصل حتى يعود الحق إلى نصابه. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني