حين كان الكثيرون يدافعون عن الرئيس الفلسطيني بالحق والباطل، كنا نقف في الخندق الآخر منتقدين أوسلو وما قبل أوسلو من تلك السياسات التي أصابت القضية الفلسطينية وكانت تعيدها دوماً إلى الوراء. يومها كان الرئيس الفلسطيني يملك سيف المعز وذهبه، فمعه المال والأنظمة، ومعه العساكر والمناصب والإعلام، لكنه ما أن بدأ يفقد البريق ولم تعد جيوبه مليئة بالصرر التي توزع ذات اليمين وذات الشمال، فيما تنكر له الوضع العربي ومعه الدولي، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، ما أن حدث ذلك حتى بدأ القوم ينفضون من حوله، ورأينا كيف تحولت أقلام أدمنت الحديث عن فضائل الختيار وذكاء الختيار وروعة الختيار إلى أقلام لا تفتأ تحاربه على مختلف الأصعدة بوصفة الكارثة التي تحيق بالقضية الفلسطينية. وكما هي العادة في مثل هذه المعارك، فإن البضاعة لا تقدم عارية أو على حقيقتها، بل تقدم بأثواب زاهية تخلب العقول، أو تحاول ذلك، وفي حالتنا المشار إليها وجد القوم حكاية الإصلاح ومحاربة الفساد، وأحياناً الواقعية مقابل الجنون والفوضى. الآن يجلس الرئيس الفلسطيني في مقاطعته معزولاً خائفاً كما لم يحدث من قبل، وهو الذي خاض حروباً وواجه مؤامرات وانشقاقات بلا عدد، فاللعبة اليوم أكثر خطورة من كل ما سبقها، فهنا ثمة تواطؤ من مختلف الأطراف التي طالما شكّل دعمها عنصر النجاح الرئيسي في مواجهة المصاعب. لا الولاياتالمتحدة ولا الأوروبيين، ولا اليسار الإسرائيلي، فضلاً عن اليمين، ولا حتى مصر التي دعمت بلا حدود فيما سبق، ولا الرفاق الذين كان يملأ جيوبهم، لا أحد من هؤلاء يمكن أن يبكي على الرجل إذا ما اقتلعته الأعاصير التي تهب على مبنى المقاطعة منذرة بنهاية الزمن العرفاتي ومؤذنة بزمن آخر لأناس صنعهم على عينه فتمردوا عندما شعروا بأن القوة معهم. لو كانت المشكلة مشكلة زعامة من دون أبعاد سياسية تخص القضية الفلسطينية ومستقبلها، لما كان منا ومن كثيرين سوى الحياد، لأن أبجديات فتح لا تسمح بغير ذلك، فالداخل فيما بين فرقائها هو الخاسر لأنهم غالباً ما يعودون إلى بعضهم في نهاية المطاف، لكن المشكلة تتجاوز عرفات لتطال القضية ومستقبلها، فالذين يتمردون اليوم على قيادته لم يفعلوا ذلك لأنه رجل فاسد أو يحب الفاسدين. صحيح أنهم يوجهون أصابع الاتهام إلى أناس لا خلاف على فسادهم، لكن واقع الحال يقول إنهم فاسدون أيضاً وإن تفاوتت أشكال الفساد، بين من تخصصوا في النهب، ومن أضافوا إليه أنواعاً أخرى من الفساد تبدو أكثر استفزازاً لمجتمع محافظ كالمجتمع الفلسطيني. ما يجري ليس معركة فساد ولا إصلاح، بل معركة حول الخيارات السياسية لكلا الطرفين المتصارعين، سيما على مشارف الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ولعل المثير للدهشة والقهر هو أن من وقفوا ضد انتفاضة الأقصى التي فرضت الانسحاب من قطاع غزة هم من يريدون اليوم جني الثمرة، هكذا من دون خجل ومن دون أن يرف لهم جفن. الزاحفون الجدد إلى زعامة فتح والسلطة هم أقرب الناس إلى الإسرائيليين، وهم لذلك يرجون الدولة العبرية أن تكف عن مديحهم حتى لا تحرقهم أمام الفلسطينيين، لكأن الشعب الفلسطيني لا يراقب اللعبة ولا يدرك حقيقة ما يجري!! من هنا فإن على فعاليات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج أن يكون لها دورها في الصراع الدائر حول زعامة فتح والسلطة، فنصرة عرفات في هذه المعركة ضرورية، لكنها نصرة لا يمكن أن تتم من دون أن يعيد الرجل الاعتبار لقوى الشعب الحقيقية وفعالياته النظيفة مع خط سياسي واضح يدعم المقاومة ويحظى بالإجماع. أما الاستمرار في نهج الفساد وتقريب المفسدين فلا يمكن إلا أن يصب في صالح الطرف الآخر الخطير على الشعب وعلى القضية في آن معاً، لأنه يضيف إلى الفساد المعروف فساداً سياسياً يبيع القضية ويبيع الشعب من أجل الوجاهة والزعامة والمصالح. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني