بعد مرور خمس سنوات على رحيل ياسر عرفات، مازال الغموض يكتنف مرحلة حياته الأخيرة، أي مرحلة مرضه ووفاته. ومع السنوات الخمس يبقى الانتظار والاتهام والتكهن سيد الموقف على أمل فتح تحقيق جدي يرفضه ويماطل فيه، حتى اللحظة، من كانوا يحيطون بعرفات في رحلته الأخيرة رغم وعودهم المتكررة بالتحقيق والكشف عن الملابسات، اللهم تحقيق يتيم أصدره رئيس وزراء السلطة في حينه أحمد قريع ولم يتعد صفحة واحدة، أبقت الغموض كما هو بإعلان أن المرض غير معروف للأطباء! ليس المقام مقام النبش في ماضي الرجل ونصب المحاكم للخوض في سلبياته وإيجابياته أو محاولة لتقييم مرحلة امتدت لعقود، فقد أفضى الرجل لما قدّم، وحسابه وحسابنا على من خلقه وخلقنا. وقد عارض الكثيرون -ومنهم كاتب هذه السطور- النهج الذي قاده عرفات، من تفرد بالسلطة والمال والقرار وترقية للفاسدين والتغاضي عن أخطاء الكثيرين والمغامرة والمقامرة بمصير وقضية الشعب الفلسطيني، خاصة بعد أوسلو والاعتراف ل«إسرائيل» ب«حق» الوجود على ثلثي تراب فلسطين التاريخية، لكن لا يمكن في الوقت ذاته لأي منا أن يجعل الخلاف في الرأي والاعتراض على الأسلوب والمنهج سببا للاصطياد في الماء العكر لتسجيل موقف هنا أو هناك، كما أن عدم القبول بنهج أوسلو وإفرازاته لا يعفينا من المسؤولية والأمانة، ولا يجعلنا نصمت صمت القبور إزاء جريمة بدأت تتضح معالمها، ولا يجعلنا نقر بما تعرض له عرفات في أيام مرضه الأخير من تلاعب بمصيره وتنازع على مرضه، بل على جسده بعد وفاته. رغم كل هذا الاعتراض والاختلاف فإن هناك إجماعا فلسطينياً على كشف غموض أيامه الأخيرة، ومن تورط -إن وجد- بشكل مباشر أو غير مباشر في اغتياله، خاصة بعد ما اصطلح على تسميته بقنبلة القدومي القيادي الفتحاوي المؤسس والتي أشار فيها بأصابع الاتهام إلى أسماء بعينها. القضية والجريمة لا تتعلق بشخص أو أشخاص مهما علا شأنهم أو درجة الخلاف معهم، لكنها قضية شعب بأكمله وجريمة تمسه في الصميم، فمكانة عرفات وقضية فلسطين ومركزيتها ليست أقل أهمية أو خطورة من أي قضية أخرى أو حادثة اغتيال في هذا البلد أو ذاك، لتُطوى أدراج المكاتب ويُنسى أمرها. الاغتيال السياسي لقد برهن ياسر عرفات على قدرة استثنائية على الخروج من أصعب الأزمات، وتعرض لمواقف اعتبرت في حينها شهادات وفاة سياسية له، وحوادث نجا منها بأعجوبة، من الأردن إلى لبنان ثم تونس، وقصف مقره في حمام الشط، وسقوط طائرته في الصحراء الليبية، وموقفه إبان حرب الخليج الأولى، وغيرها. إلا أن أشد تلك المحاولات كانت فرض الحصار عليه في مقره برام الله والذي بدأه شارون بتاريخ 3 ديسمبر 2001 حين أعلنت «إسرائيل» عن احتفاظها بحقها في منعه من مغادرة رام الله للتوجه إلى الخارج، ونشرت دبابات على بعد 200 متر من مقره العام لتنفيذ المنع، وتم تشديد الحصار في 29 مارس 2002 في ما عرف بعملية السور الواقي. ثم جاء الفصل الأخير، أي الاغتيال السياسي وبأيدٍ فلسطينية، عن طريق تحجيم صلاحياته، وبمساعدة رفاق الأمس الذين انقلبوا عليه، وهي المرحلة التي يعرفها الشعب الفلسطيني، بتفاصيلها وشخوصها، والتي تميزت بفرض أمور سياسية على عرفات لم يكن ليقبل بها، أهمها تعيين عبّاس في منصب رئيس الوزراء الذي فُصّل على مقاسه بالاسم، ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها محمد دحلان صيف عام 2004، وحرمانه من مصدر قوته أي المال بعد أن جيء بسلام فياض كوزير للمالية. التصفية الجسدية لأسباب كثيرة يطول شرحها، كان لا بد من الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي تصفية عرفات جسدياً، طالما أن محاولات إنهائه تماماً من الساحة الفلسطينية باءت بالفشل. لكن قبل التصفية، كان لا بد من التمهيد لمرحلة ما بعد عرفات، والاستعداد لها، ودعم الورثة المستعدين للانقضاض على السلطة، ولهذه الغاية بدأ الحديث عن سيناريوهات ما بعد عرفات قبل مرضه بأشهر. ولعل الوثيقة التي وضعتها الخارجية الإسرائيلية وأعلنت عنها إذاعة جيش الاحتلال بتاريخ 14/07/2004 كانت الأبرز بين تلك الاستعدادات، حيث وضعت الوثيقة ثلاثة احتمالات لموت عرفات هي «قتله في عملية عسكرية إسرائيلية أو وفاته فجأة بشكل طبيعي أو وفاته بعد مرض طويل». وتوقعت الوثيقة سيناريوهات «كارثية» في حال موت عرفات، إذ تحدثت عن احتمال «انهيار السلطة الفلسطينية» بعد وفاته، و«حدوث فوضى عارمة في الأراضي الفلسطينية، قد تؤدي إلى تدخل دولي»، وإلى صراع على السلطة بين القوى الفلسطينية، ومحاولات من حماس لاستلام السلطة، في حين أوصت بدعم «القيادة الفلسطينيةالشابة» من حركة «فتح» أمثال العميد جبريل الرجوب والعقيد محمد دحلان «لكبح تعاظم قوة حماس». نصحت الوثيقة بالسماح للزعيم الفلسطيني ب«أن يتوجه -في حال مرضه- إلى الخارج لتلقي العلاج، وذلك بغية استبعاد فرضية تحميل إسرائيل مسؤولية وفاة عرفات، ولم يصدر عن الخارجية الإسرائيلية أي تعليق حول ما جاء في الوثيقة.