طريق الدعوة طريق طويل شاق، في العنت والمخاطر والأذى، لا يسلكه أحد إلا أصابه شيء من هذه المصائب، التي إن أخطأه واحد منها أصابه الآخر لا محالة. وسيرة الأنبياء والدعاة والمصلحين خير شاهد ودليل على ذلك، حيث لاقوا ما لاقوه، وكان الصبر دائما بلسما لجراحهم، وزادا ملازما في سفرهم، ومثبتا لخطاهم في طريقهم، ولولاه لضعفوا واستكانوا وزلت بهم الأقدام. الصبر في اللغة: الحبس والكف، ومنه قتل فلان صبرا، إذا أمسك وحبس ومنه قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) أي احبس نفسك معهم< ابن القيم، مدارج السالكين 2/162 وقد ذكر في القرآن في نحو تسعين موضعا، وهو نصف الإيمان، والنصف الثاني: الشكر كما في قوله عليه الصلاة والسلام: >عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له<. وهو خير عطية يعطاها المؤمن لقوله عليه الصلاة والسلام: >ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر<. وقد قسم صاحب المدارج الصبر إلى أنواع ثلاثة: (صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على بلاء الله) ثم إلى أنواع ثلاثة أخرى: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله)، إلا أن الداعية يحتاج فوق هذا إلى صبر خاص على أمور كثيرة منها >الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها وعجلتها وملالتها من قريب، والصبر على شهوات الناس ونقصهم وسوء تصرفهم، وانحراف طبائعهم وأثرتهم، وغرورهم والتوائهم، واستعجالهم للثمار< مسافر في طريق الدعوة ص: 221 والدعوة إلى الله باعتبارها أمرا ونهيا، وبلاغا وإنذارا، وتربية وتعليما، وتصحيحا وتقويما، ومحاورة ومجادلة تحتاج لنفس طويل لا ينقطع، وصبر كثير لا ينفد، كلما أصاب الداعية السائر في طريقها الوهن، أو أحاط به البلاء، أو مسه أذى الناس، أو لاقى منهم الإعراض والصدود، تذكر ما لقيه سابقوه، ذلك أن الداعية حين يقرأ أخبار الصفوة الممتازة من الأنبياء والصحابة والسلف، وما تحملوه في سبيل الدعوة، وما كابدوه في سبيل إعزاز دين الله، تصغر نفسه أمام نفوسهم الكبيرة، ويحتقر عمله في سبيل الإسلام أمام أعمالهم الضخمة العملاقة، وتهون مصائبه أمام ما تحملوه من أحداث جسيمة، وشدائد عظيمة بالغة< سلسلة مدرسة الدعاة، عبد الله ناصح علوان 1/572 والمتأمل في ما أصاب الدعاة اليوم، والمحسوبين على تيار الصحوة وسائر المسلمين من فتور دعوي، وكسل وتراخي، وهجران لمواقع الدعوة، وترك لهذه الفريضة، يجد أن السبب الأساس: خمود جذوة الصبر في القلوب، وتهلهل هذه الخصلة في النفوس. ولن تعدم الدعوة رغم العاجزين المتساقطين رجالا صادقين صابرين يحملون مشعلها لقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). كما أن من أسباب ذلك الجهل بحقيقة الدعوة التي ليست إلا قياما بالواجب دون انتظار الاستجابة الحتمية. يقول بديع الزمان سعيد النورسي: >إن الذين يعملون في طريق الحق، ويجاهدون في سبيله، في الوقت الذي ينبغي لهم أن يفكروا في واجبهم وعملهم، فإنهم يفكرون فيما يخص شؤون الله سبحانه وتدبيره، ويبنون أعمالهم عليه فيخطئون< مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان ص: 108/109 والخلاصة أن الداعية في طريقه ومهمته الثقيلة لابد له من الصبر زادا يستقوي به، ويستجمع به النفس والهمة، ويحقق به الثبات والنصر المظفر، يقول الأستاذ حسن الهضيبي: >والحق أن سنن الحياة تؤكد لنا أن الدعوات والأمم إنما تنتصر ويعلو شأنها بمن يسخرهم الله عز وجل بفضله ورحمته من الصادقين الصابرين الثابتين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، والذين يبغون في كل قول وعمل وجه الله تعالى، ولا يخافون لومة لائم، أو ذهاب دنيا أو ضياع جاه< دعاة لا قضاة، ص: 122