ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة : 155 - 157 الأمم تقوم قوية ثابتة الأركان بعد أن تمر بضروب مختلفة من البأساء والضراء تثقف من نفسها أو تعرك من مرونتها وتنفي من خبثها وضعفها، حتى إذا مرّت بهذا الابتلاء صابرة وتحملت هذا الامتحان في غير ضعف أو وهن، بُعثت أمة قوية لا تكسر لها شوكة ولا تلين لها قناة، وكتب الله لها الحياة والبقاء، قال تعالى:(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين), ومن المعروف أن الأمم القوية هي الأمم التي تحملت وتحمل أفرادها فنوناً من الكفاح والمغالبة في الحياة، وخلصت من ذلك بعد صبر طويل وجهد شاق إلى دور من قوة الاحتمال ووحدة الشخصية في أجيالها المتتابعة. البلاء وعلماء اللغة يقولون في قوله تعالى: (لنبلونكم(: اللام للقسم والنون للتوكيد كما قال تعالى: )لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) فالإنسان معرض للابتلاء في هذه الدنيا بشيء )من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات(. ابتلاءات يوسف عليه السلام وذلك إذا نظرنا إلى حياة الأنبياء نجد أن حياة الأنبياء كلها سلسلة من المحن والابتلاءات. انظر إلى حياة سيدنا يوسف عليه السلام، في أول الأمر إخوته قالوا: )اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا) وقال قائل منهم ألطف: )لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب) وألقوه في غيابة الجب كما تلقى الأحجار، وباعوه إلى قافلة )بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين)، واتهم وألقي في السجن كما يلقى المجرمون، ولبث في السجن بضع سنين، وهناك محنة أخرى وهي مراودة امرأة العزيز له، فهذه سلسلة من المحن كان سلاحه فيها عليه السلام هو الصبر. ولهذا فإن الصبر من أقوى العوامل على الثبات على الحق عند حلول الابتلاء بعد رحمة الله وتثبيته للمؤمن، ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله، وتدبر معي هذه الآيات من سورة البقرة كيف نوهت وأشادت بالصبر. مفهومي الصبر والرضا بالله الصبر عبادة واجبة على المسلم ومعناه : حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس القلب عن السخط. وهو ضد الجزع كما جاء في كتاب الله ).. سواءٌ علينا أصبرنا أم جزعنا ب) وخصلة الصبر هي عنوان المؤمن الكامل التي يواجه بها الحياة في ثقة وطمأنينة ويقين بالله كما فعل ذلك الرسول في حياته. وهناك المخلصون الذين كبرت نفوسهم وخلصت قلوبهم فاجتازوا مرحلة الصبر إلى مقام الرضا بالله وهؤلاء هم الذين يصبرون عند البلاء ويشكرون عند الرخاء ويرضون بمواقع القضاء. مصطلحات بمعنى الصبر الصبر على شهوة القلب هو العفة. والصبر على فضول الدنيا فهو الزهد. والصبر على قدر من الدنيا: قناعة. والصبر على داعي الغضب في النفس: حلم. والصبر على داعي التسرع والاندفاع: وقار وثبات. وأما الصبر على فضول الطعام فهو شرف نفس. تعليق الإمامة في الدين على الصبر وقد ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له يقول تعالى: )وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) وقال تعالى )أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)، وهكذا قرن الله الإمامة والقيادة لأمر الناس بالصبر، وأنه تعالى أقامهم أئمة لما صبروا، مما يدل على أن هذه الطبقة إنما تكون من صنف خاص من الناس وهم الصابرون الذين مارسوا الصبر وتربت نفوسهم على التحمل وضبط النفس وعدم الجزع عند المحن أو الهلع عند الأزمات، وكل هذا من فنون الصبر لمن مارسه في نفسه حتى ملك عنان إرادته وهؤلاء هم الأقوياء الذين يختارهم الله أئمة يهدون بأمره وأولئك يؤتون أجرهم مرتين كما وعدهم الله بذلك )أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا). حصول الصلوات من الله والرحمة والهداية وقد جمع الله للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى: )ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) فالهدى والرحمة والصلوات من الله مجموعة للصابرين. وكفى الصابرين شرفا وفضلا أنهم امتازوا عن سائر المؤمنين بما قال الله فيهم، وصلوات الله عليهم أنَّه يزيدهم تشريفا وتكريما، ورحمته هي لطفه بهم عند المصيبة فيكون لهم منه تعالى حسن العزاء والرضا بالقضاء، وهم المهتدون إلى الحق والصواب فيما ينبغي أن يكون عليه المسلمون عند الشدائد من الثبات والتحمل وعدم الجزع. قال بعض السلف - وقد عُزّي على مصيبة نالته : مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها يقصد الخصال المذكورة في هذه الآية. فوائد وثمار الصبر ومن فوائد الصبر أيضا: معية الله: )إن الله مع الصابرين(. مضاعفة الأجر والثواب: )إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). محبة الله: )والله يحب الصابرين(. اجتماع خصال الخير في الصابر: )وما يلقاها إلا الذين صبروا( ولما كان الصبر بهذه المثابة وكانت غايته في تقوية الفرد والمجتمع بهذه الدرجة، رتب الله تعالى على الناس وظائف من العبادات تتمثل فيها هذه الخصلة من التدريب البدني والنفسي، فرتب عليهم عبادة الصوم مثلاً بما فيها من مشقة الامتناع وكف النفس عما تطلبه والصبر عن الطعام والشراب حتى تتريض وتتدرب على الكفاف والمنع، وكذلك عبادة الحج وما فيها من مشقة السفر وتحمل شعائر الإحرام وهي نوع من ممارسة الصبر والتحمل في أوقات الرخاء والسلم وإعداد للأمة والأفراد في أوقات الشدة والجهاد. عزيمة الصبر الوسيلة لقيام الأمة الإسلامية كان هذا شأن الأمة الإسلامية في قيامها، وكان هذا شأن النبي وأصحابه في بعثها والنهوض بها، وكان هذا شأن الإسلام في تعاليمه التي أرشد بها المسلمين وهداهم إلى التمسك بها والسير على نهجها حتى أصبحت الأمة الإسلامية أمة قوية وكتب الله لها الغلبة والنصر على أمم أخرى أكثر عدداً وأوفر مالاً وعدة. كانت أهم المميزات التي ساعدت على هذا كله هو ما طبع عليه المسلمون أفراداً وجماعات من عزيمة الصبر وقوة التحمل التي جعلت من هؤلاء الصابرين صخوراً صلداء وجبالاً ثابتة قوية لا تزول ولا ينال أحد منها منالاً. ولقد كان من حكمة الله تعالى أن اختار لرسالته رسولاً وأصحابا للاضطلاع بهذه الدعوة الإنسانية، بعد أن تمرسوا بالصبر وتحمل المشاق وقويت عزيمتهم وإرادتهم في بلد تقسو فيه الحياة ويصعب فيه العيش الرغيد وتجفو فيه سبل الراحة والحياة الوادعة، فلم تثقل نفوسهم متع الدنيا ولم تتسع عليهم أسبابها الرخيصة فتشغلهم عن أهدافهم الكبرى أو تضعف من مضيّهم في الاضطلاع بغاياتهم النبيلة. إعداد خليل بن الشهبة المصادر: مدارج السالكين لابن قيم الجوزية. القرآن: نظرة عصرية جديدة للدكتور علي حسن عبد القادر