يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المومنين) الشعراء 214/.215 روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية: (وأنذر عشيرتك الاقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها، أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا يوم القيامة. غزير العلم قليل الدعوة إن هذه الإشارات الواردة في الحديث الشريف ترشد إلى تخصيص الأهل والأقارب وذوي الرحم بالدعوة قبل غيرهم والترفق بهم في ذلك لما لهم من حقوق واجبة على الداعية، وحري به أن يقوم بها قبل غيره. وإنه لمن المؤسف أن تجد داعية غزير العطاء في الدعوة مع الناس مقلا في ذلك مع أهله وخاصته، مع أن هؤلاءسيسأل عنهم يوم القيامة يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) التحريم .6 أي احفظوا أنفسكم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات واحفظوا أهليكم وذويكم منها بأن تأمروهم بالمعروف، وتقيموهم عليه، وتنهوهم عن المنكر، وتوقفوهم عنده. وصدق الله العظيم إذ يقول: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)، فمن الواجب على الدعاة إيلاء كبير الاهتمام لأزواجهم وأولادهم وأهليهم الأقرب فالأقرب، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح النفس أولا، ثم تخصيص جزء من الانشغال الدعوي لهم ثانيا. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المسألة في كثير من قصص الأنبياء، ونذكر منها على سبيل المثال قصة الخليل إبراهيم مع أبيه، إذ يقول تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا) (مريم 41 45). ونجمل هذه الآيات في أصول خمسة، ونوردها في ما يلي: 1 الصدق أول الأصول: قوله عز وجل: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا) والصديق فيها مبالغة في الصدق والتصديق. والآية تتوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتبر ويتأسى بصبر الخليل إبراهيم على تبعات الدعوة ومشقاتها، كما أنه خطاب للأمة عموما وللدعاة خصوصا، إذ هم ماضون على درب الأنبياء وميراث الرسل في رسالة الإصلاح والهداية. والمعنى: واتل عليهم نبأ إبراهيم الذي نشهد له بالصديقية والنبوءة في البلاغ والرسالة وقصته مع أبيه ليعتبر المؤمنون بها، وليعلموا أن هذا الدين أصله واحد وعنصره من مشكاة واحدة وأن رابطة الدين أقوى وأدوم من رابطة الرحم. وإذ يذكر الله عز وجل الخليل بهذه الشهادة صديقا نبيئا، فلنعلم أن الصدق شرط في الرسالة والتبليغ، ولهذا اقتضت حكمة المولى عز وجل أن يتميز الرسل والأنبياء بالصدق في كل أحوالهم قبل أن يبعثوا ويكلفوا بالشهادة على أقوامهم، وماذاك إلا ليكون لهم حجة وبرهانا في دعوتهم. والصديقية بما أنها وصف لموصوف تميز بها فذلك أمر ذاتي وفضل من الله ومنة، أما النبوة فهي اصطفاء وتشريع من عند الحكيم الخبير. والداعية حينما يقبل على الناس من منطلق أنه مصلح ومبلغ، لابد أن يعرف بالصدق وأن يتحراه أيضا في كل قول أو فعل أو عمل، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: >إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا» الحديث متفق عليه. والصدق علامة فارقة في العمل الدعوي. وبما أنه مطية للآخرة ودليل إليها، فعلى ماذا يتعب الإنسان خيله في باطل ويرجو الجنة؟ إن العمل الصادق تظهر آثاره وتدوم وتثمر، وتبقى نفحاته الزكية شاهدة عليه. وقد جاء في الصدق كلام كثير، نذكر منه ما أفرده سعيد حوى في المستخلص إذ يقول: والصدق يستعمل في ست معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها. ولهذا كان الصدق أول الأصول الموصلة إلى رضوان الله تعالى. كما أنه وإن كان شرطا في العمل فهو شرط في النية أيضا. وصدق الداعية في عزمه لا يكفي إذ يلزمه الصدق في الوفاء به، وبقدر الصدق في الأول يكون الصدق في الثاني. والمولى عز وجل يقرر في كتابه العزيز هذه الحقيقة (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) المائدة ,119 فالصدق عملة نافعة يوم القيامة ومن تركها حرم خيرا كثيرا. 2 تنويع الخطاب الدعوي: قوله عز وجل: (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) ولنتأمل أدب الدعوة مع الأهل في أسمى تجلياتها وأرقى صورها. يا أبت فيها من معاني الرحمة والرأفة والتلطف ما تهز الكيان وتحرك الوجدان، وكأننا بخليل الرحمان يستحضر أواصر البنوة والأبوة ليذكر بها أباه: يا أبت لا تنسى أني ابنك وأريد لك الخير قبل نفسي، ولا أريدك أن تهلك وتضل. وفي أسلوب الاستفهام المستعمل في الآية لفت للنظر عميق يبعث على الشك والبحث. ولنتعلم من القرآن الكريم وتوجيهاته الحكيمة أن الخطاب الدعوي ليس نمطا واحدا أو قالبا متفردا أو منهاجا مسطورا لا يقبل التغيير ولا يحتاج إليه. نعم من الواجب أن يشتمل الخطاب الدعوي على ثوابت وأصول منهجية تحكمه وتضبط تصريفه، كما أنه من الحكمة أيضا أن يشتمل على آليات تسمح بالاجتهاد وتؤسس له. فالخطاب الدعوي خطاب متعدد الوسائط ومتنوع البرامج والبنيات، يراعي أحوال الناس وبيئاتهم ونفسياتهم، فهو خطاب متوازن في طرحه، وقوي في بنائه، يمازج بين الإيجابية والموضوعية. فهو رسالة حب للجميع يجمع ولا يفرق، بيني ولا يهدم، وبالجملة هو رسالة شفاء قبل أن يكون رسالة قضاء. ولنعد إلى الآية لنتأمل الخليل وهو يفكك عناصر المعبود بجهل، ويعددها أمام أبيه ليعلمه أن معبودا لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر ليس بالإله الحق، مبتغيا في ذلك تمييز الأشياء بأضدادها، ليخلص إلى أن المعبود بحق يجب أن يكون له سمع محيط ونفع محقق للعابد. كقوله تعالى: (قل هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) الشعراء 72 .73 إن اصطحاب الداعية في خطابه لمعاني الرفق والرحمة لا يعني مجانبة الحق والمداهنة فيه، وإنما على الداعية أن يترفق مع أهله وغيره في حرص جلي تبرز منه معاني الرأفة والعزة. 3 الحرص على الأهل: قوله عز وجل: (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا)، ويكرر الخليل نداءه الرحيم والمثير لفطرة الحنو الأبوي. وفي هذا إشارة إلى الدعاة الذين انشغلوا عن بيوتهم ونسوا أرحامهم وأهليهم فجعلوهم خارج دائرة اهتمامهم الدعوي وانشغالهم التربوي، فوجدوهم بعد حين ثقلا رهيبا وهما عظيما. إن هذه الآيات البينات توجه كل الدعاة العاملين إلى فريضة الدعوة داخل البيت ووسط الأهل وإلزاميتها بدءا وغاية.وفي الآية نلمح حكمة الخليل وموازنته بين الإيجابية في الخطاب والحرص المطلوب فيه، وذلك في قوله لأبيه: (إنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك) ، فهو لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل، لأن من شأن أسلوب كهذا أن ينفر الناس ويمنع المستمعين من الائتناس، وإنما اتبع مع أبيه أسلوب التأدب اللازم مع الوالدين، وإن كانا على خطأ (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)، فجاء الأمر بفعل المعروف مصاحبة على الإطلاق من غير تقييد ولا تخصيص. ويقول صلى الله عليه وسلم >بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك» أخرجه الحاكم والنسائي وأحمد. وفي الآية تواضع جم ونبذ للتعالي، وهو توجيه للدعاة بالتواضع للناس والترفق بهم والابتعاد عن الأستاذية المستعلية والمنفرة للطبع. فنجد الخليل يعترف بنعمة العلم وشرف تلقيه من ربه الواهب المنان، لأنه العلم الذي باتباعه تتحقق النجاة والاستقامة على الصراط السوي. وهو أيضا العلم الذي يرفع صاحبه إلى أرفع الدرجات يقول تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). وكلمة فاتبعني توحي بالحرص والرغبة في الهداية، إنه حرص الداعية على الناس أقربهم وأبعدهم، يرجو لهم الاتباع من غير إكراه. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الصفة الأساسية في الداعية بقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم) التوبة 168 ,169 ومعنى الحرص أنه يحيطكم بالرعاية والعناية حتى لا تنالكم مشقة أو عنت. فهلا أخذنا حظنا من هذا الميراث؟ 4 تحذير من عبادة مضلة: قوله عز وجل: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا) إن الإنسان في إعراضه عن الله وابتعاده عن منهجه لا يعبد الشيطان ويتخذه إلها، وإنما يستسلم لإغواءه ونزغاته. والاستسلام فيه إطاعة وخضوع. وإنما العبادة في الأصل تتضمن هذين الأصلين الطاعة والخضوع. ولذلك عندما يوجهنا القرآن الكريم إلى خطورة عبادة الشيطان، فالقصد هو التنبيه على عواقب الاستسلام لغوايته، فهي سبيل لكل هلاك وزيغ عن الصراط المستقيم. وبقدر ما نبذل من جهد مع الناس في دعوتهم للاستقامة والرشد يجب أن نبذل معهم جهدا مضاعفا في تعريفهم بأساليب الشيطان وخطواته ومداخله إلى النفس البشرية، وكيف يميلها ويزحزحها عن سبيل ربها القويم. فالجهد الأول هو فريضة الدعوة وهي للجميع للقريب والبعيد والحبيب والمعرض، وأما الجهد الثاني فهو واجب التربية والتزكية وهي لمن أراد وطلب ذلك. 5 سبيل النجاة: قوله عز وجل: (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا) أي يا أبت إني منذرك بعذاب قد يصيبك من الله إن عصيته واتبعت إبليس عدوه وعدوك، فتكون بذلك للرحمان عصيا وللشيطان وليا في الدنيا وقرينا له في جهنم وبئس القرين. وفي ذكر الخوف من العذاب والمس له دون الإصابة به وتنكير العذاب المفيد هنا للتقليل، أدب جم وتلطف كريم ليس بغريب على الأنبياء والمرسلين، وأدب حري بالدعاة التأدب به مع الناس وخصوصا مع الأهل والأقارب. اربح نفسك وأهلك إن الخوف الذي أبداه إبراهيم الخليل على أبيه وحرصه عليه لئلا يصيبه عذاب من ربه ليجلي لنا الصبغة الخيرة التي فطر الله الناس عليها، وهي فطرة أصيلة لا يزيغ عنها إلا مبعد عن فيوضات الرحمة الربانية. إنه الخوف الذي يحجز صاحبه عن الميل، ويمنعه من اقتراف المعاصي. قال ذون النون: >من خاف الله تعالى ذاب قلبه واشتد حبه وصح له لبه». ولا يبلغ العبد هذا المقام إلا إذا صح عزمه وصدق حزمه وحسن خلقه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مدخل الأبرار، وإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسقيه من حضرة قدسي وأن أدنيه من جواري» رواه الطبراني. ولا بأس أن نختم بكلام نفيس استعرناه من الداعية فتحي يكن إذ يقول: >والداعية في زحمة الهموم والمشاغل اليومية المعيشية والعائلية والحركية والسياسية قد ينسى نفسه. إنه قد يهتم بكل شيء حوله، ويقدم الخير لكل من هم حوله، ولكنه مع ذلك قد ينسى نفسه، ينسى حق نفسه من الهدي والخير، من العناية والرعاية، وهنا يحدث ما ليس بالحسبان ويقع ما فيه الخسران... خواء النفس وقسوتها ثم فتورها وانحرافها... إن على الأخ الداعية أن يعي أمرا هاما قد يغفل عنه الكثيرون، ذلك الأمر هو أنه كداعية مهمته الأساسية أن يربح نفسه أولا، ويحسن إلى نفسه أولا، وإلا فما قيمة أن يربح الدنيا ويخسر نفسه».