الحلقة الثانية لقد اقتضت إرادة الله تعالى، التي لا تزايل حكمته وكمال تقديره وتدبيره أن يكون الرسول الخاتم من العرب الأميين، وليس من اليهود المتغطرسين الذين كانوا يترقبون مبعثه منهم ويستفتحون على العرب بذلك.. لأنه سبحانه أعلم بسلامة طباعهم، وسرعة انقيادهم للخير وقبولهم للهدى، وبراءتهم من ذميم الأخلاق كالغدر والجبن ونقض العهود والبخل واللؤم والحرص على الحياة... وغيرها من الرذائل التي تأصلت وتجذرت في النفسية اليهودية، ولم يعد ينفع معها علاج أو إصلاح... قال الله تبارك وتعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم. ذلك فضل الله يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم). (هو الذي بعث في الأميين) المراد بالأميين العرب، وسموا بذلك لأن أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب، إذ الأمي منسوب إلى الأم، فهو على جبلته الأولى لأن القراءة والكتابة إنما تكونان بالتعلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب...» الحديث. وفسرها بعضهم بالذين لا كتاب عندهم من الله. وفي الظلال: «وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم: إنهم جوييم باللغة العبرية أي أمميون نسبة إلى الأمم بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم! والنسبة في العربية إلى المفرد.. أمة.. أميون. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة». قال ابن كثير: «وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما في قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به. وكذا قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)... إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق، أحمرهم وأسودهم». (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) من جنسهم مماثلا لهم في الأمية. قال أهل المعاني: «وكان هو صلى الله عليه وسلم أيضا أميا مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفات أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه». أخرج البيهقي في «الدلائل» عن أبي أمامة، قال: قيل يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام»... ودعوة إبراهيم عليه السلام التي بقيت محفوظة عند الله تعالى حتى جاء موعد تحققها المقدر تماما كما نطقها الخليل عليه السلام هي قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم)... (يتلو عليهم آياتك) مع كونه أميا مثلهم، لم تعهد منه قراءة ولا تعلم.. والتلاوة كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعطي صورة مجملة للإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله... التلاوة تعني عرض الأسس التي ينطلق المسلم منها والأهداف التي يصل إليها... تلاوة آيات الوحي المبارك الذي لا ريب فيه... (ويزكيهم) التزكية تغيير ما بالأنفس من العقائد الفاسدة وما في العقول من التصورات الرديئة، وحمل الإنسان على أن يكون وفق ما أراده الله منه من العبودية والامتثال التام له عز وجل والإحسان... التزكية تخلية النفس من الرذائل كلها وتحليتها بالفضائل كلها... وعند البعض (يزكيهم) يصلحهم، يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء، إن التزكية في مستواها الأمثل تعني التربية العملية بالقدوة الحسنة. قال سيد قطب رحمه الله: «إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع. تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملإ العلوي الكريم» (ويعلمهم الكتاب والحكمة) لاحظ أن التزكية، وهي تعني في عصرنا هذا التربية، كيف جاءت مقترنة بالتعليم، فلا يمكن الفصل بينهما... والتعليم معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم كما قال البوصيري: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم. (يتبع) بقلم: محمد علي السجاعي