في هذه الآيات التي يبلغ عددها تسعة يتوجه الله سبحانه في الآية الأولى بالخطاب إلى المؤمنين ليلقنهم كيف يحسنون الاستماع إلى الرسول عندما يلقي إليهم بما يُنزَّل عليه من القرآن.... ......... (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرْنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم. ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير من ربكم والله يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما ننسخْ من آية أو نُنسِها نأتِ بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلمْ أن الله له مُلك السموات والأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى من قبل. ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل. ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كُفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفُوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة. وما تقدموا لأنفكسم من خير تجدوه عنه الله. إن الله بما تعملون بصير. وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. بلى من أسلم وجهَه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). * * * * * * * في هذه الآيات التي يبلغ عددها تسعة يتوجه الله سبحانه في الآية الأولى بالخطاب إلى المؤمنين ليلقنهم كيف يحسنون الاستماع إلى الرسول عندما يلقي إليهم بما يُنزَّل عليه من القرآن. * * ويتحدث فيها الله سبحانه في الآية الثانية عما يُسرّه ويعلنه أهل الكتاب والمشركون من كفر برسالة محمد (عليه السلام)، وحسدهم للمؤمنين الذين أنزل القرآن على واحد منهم هو الرسول العربي محمد الذي جاء برسالة الرحمة التي يختص بها الله من يشاء وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. * * * وفي الآية الثالثة يوضح الحق (سبحانه) لماذا نسخ بعض آيات القرآن آياتٍ سابقة، أو لماذا حوّل الله قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة. وقال سبحانه في ذلك إنه لا ينسخ بعض الآيات والأحكام إلا ليأتي بما هو خير منها أو مثلها، لأمر أراده الله الذي لا يُسأل عما يفعل، ولأن الله واسع القدرة لا حجر ولا قيد على قدرته، ولا يفعل ربك إلا خيرا ولا يفعل شيئا عبثا. * * * * ويضيف الله في الآية الرابعة حجة أخرى على سعة قدرته وشموليتها. فهو سبحانه منفرد بمُلْك السماوات والأرض وليس للناس أينما كانوا وكيفما كانوا نصير ومعين غيره. هو وحده مُدبِّر شؤون الكون بحكمته البالغة. وكل ما يفعله فيه صلاح للناس وحكمة قد تخفى على الناس لكنه هو وحده العليم بها. * * * * * وفي الآية الخامسة يسأل الله المؤمنين هل يريدون أن يسألوا محمدا أن يأتيهم بمعجزات مادية خارقة للعادة فوق معجزة القرآن العظمى، محاكاة لما سأله بنو إسرائيل موسى من قبل ؟. وحضّهم الله على أن لا يدخلوا مع الرسول في هذا النوع من التحدي حتى لا يقعوا في الكفر كما وقع بنو إسرائيل. ومن بدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل. * * * * * * وفي الآية السادسة يمتد الخطاب الإلهي إلى المؤمنين ليحدثهم عما يتمناه ويتطلع إليه كثير من أهل الكتاب وهو كفر المؤمنين برسالة محمد. ولا يتمنون ذلك إلا بدافع الحسد من الشرف الذي أوليه المؤمنون ومن ظفرهم بالهدي الإلهي، وهي نعمة أنعم الله بها عليهم. ويقول للمؤمنين : أعرضوا عن هؤلاء. وقابلوا ترّهاتهم بالعفو والصفح، ولن يخذلكم الله. وانتظروا أن يمكّنكم الله منهم فهو سبحانه على كل شيء قدير. * * * * * * * وفي الآية السابعة يحث الله المؤمنين على أن لا يسمعوا تلك الدعاوي والأقاويل، وأن يحافظوا على شعائر دينهم من صلاة وزكاة وإحسان وصدقات، ويعدهم بأنهم سيُثابون على ما يفعلون : فالله بصير بأعمالهم، موفّ لعباده أجورهم. ويسفه الحق سبحانه دعوى اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا هم ومن على دينهم. ويقول عن هذه الدعوى إنما هي أماني لا تتحقق وتخرصات كاذبة. ويأمر الله نبيه أن يطالبهم بإعطاء البرهان والحجة القاطعة على ما يدّعونه إن كانوا صادقين. * * * * * * * * وفي الآية الثامنة وبعد أن ينفي الله الصدق والنزاهة عن مقولة اليهود والنصارى التي لا تقوم على حجة أو دليل يؤكد سبحانه أن الحق الذي لا جدال فيه هو أن الذي يثاب بدخوله الجنة هو من أسلم وجهه لله لا يشرك معه غيره، ومن يتبعون الحق، ومن يُحسنون في أعمالهم دينا ودنيا. فهولاء في مأمن وسعادة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا يقنطون من رحمة الله. ولذة اليقين عندهم أحلى اللذات، لا يشعرون معها بحزن ولا قُنوط. * * * * * * * * * وفي الآية التاسعة يفضح الله تعارض أهل الكتاب والمشركين بعضهم ببعض: كل معهم يقول عن الآخر إن دينه غير صحيح. وكلاهما يستدل على عدم صحة الدين الآخر بآيات جاءت في أسفارهم مما كتبه رؤساؤهم من الأحبار والرهبان. وهم يتقاذفون بالتُّهم، ويتراشقون بقذف بعضهم بعضا بتهمة الزور. والحقيقة أنهم فيما يقولونه صادقون معا، فليس فيما يعتقدونه ويؤمنون به من صحيح. وسيبقون في ذلك مختلفين إلى أن يفصل الله ويحكم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ***** {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا}: اتفق المفسرون على أن نداء {يا أيها الذين آمنوا} موجه إلى المؤمنين بدين الإسلام الذين كانوا يستمعون إلى ما ينزل من الذكر الحكيم وأمرهم الله أن يتلقوا الآيات المنزلة بوعي وأدب وحسن القبول. لكن المفسرين اختلفوا في سبب نزول هذه الآية وفي معنى قوله تعالى :{لا تقولوا راعِنا} لأن لفظ راعِنا غير واضح وأوَّله المفسرون تأويلات مختلفة. قال بعضهم إن هذه الآية تنهى المؤمنين عن أن يقولوا لنبيهم راعِنا التي تفيد في العربية الرعاية وحسن النظر والاهتمام بالمخاطب، لكن تفيد في العبرية معنى آخر، وأن يقولوا بدلها انظرنا أي انتظرنا أو أمْهِلنا كما قال البعض أو اسمع منا كما قال بعضهم. وذكر هؤلاء المفسرون أن هذه الآية نزلت بعد أن أخذ سفهاء اليهود يُميلون ألسنتهم في نطق عبارة راعِنا يتوجهون بها إلى النبي ويشددون النون وينطقون بها بالتنوين راعنّا (أي يا أرعن) من الرُّعونة أي الحمق، واعوجاج اللسان عند النطق، ما يعني أن اليهود ينسبون إلى النبي الحمق وعجز لسانه عن النطق الصحيح بما يقول ويزيد بعض المفسرين أن تحريف اليهود لعبارة راعنا يجعلها تفيد راعنّا في العبرية ومعناها الحمق أي ما تفيده كلمة رُعونة، وأرْعن في العربية. ورفعا لهذا الالتباس المقصود من طرف اليهود أمر الله المؤمنين أن لا يستعملوا لفظ راعنا في مخاطبة النبي. * * والمتأمل في هذا التفسير لا يتمالك عن ملاحظة فقده التماسك والوضوح. والأفضل أن لا يُتَلمَّسَ فهم كلمة راعِنا وهي عربية فصيحة بربطها باللفظ العبري فلا شيء يحتم هذا الربط. والقرآن كما جاء فيه نزل بلسان عربي مبين أي مُفصح لا لبس فيه. والذي أراه في تفسير هذه الآية أن بعض المؤمنين تساءلوا لماذا تنزل آيات عن اليهود وأهل الكتاب ؟ ولا تنزل آيات عن المؤمنين تراعيهم وتنظر إليهم باهتمام. وتوجهوا إلى الرسول يسألونه أن يراعيهم بالاهتمام بهم فقال الله مخاطبا هؤلاء المؤمنين أصلا ومعهم جميع المؤمنين : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبي الله راعِنا وخُصّنا باهتمامك، ولكن قولوا له بكل أدب واحترام انظر إلينا واهتم بنا بشرط أن تسمعوا وتقبلوا وتصدقوا ما جاء به. وبذلك تكونون مؤمنين حقا. أما الكافرون الذين لا يسمعون ولا يصدِّقون فلهم عذاب أليم. ونضيف إلى ما سلف أنه جاء عن سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا أسمعهم النبي الوحي المنزل إليه طلبوا منه إعادة الآية حتى يحفظوها ويفهموها وكانوا يقولون راعنا يا رسول الله ولا تسرع بنا فنهاهم الله عن استعمال هذه العبارة التي قد تفيد ما لا يقصدونه من انتقاد لعمل الرسول. وبدلا عنها نصحهم أن يقولوا للرسول انظرنا انتظرنا وأمهلنا لنعي أكثر أي، سر بنا على قدر ما نستطيع، وانتظرْنا حتى نتمكن من الفهم، وشفع الله ذلك بالكلمة الحاسمة وهي: أسمع. واسمعوا أي واقبلوا بالرضى وحسن التقبل ما أمرتم به وما نُهيتم عنه. ***** {يختص برحمته}: إنزال الكتاب على محمد رحمة من الله بمن أنزل إليهم وبالعالمين والناس كافة. {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء / الآية 701). وكما كان القرآن كتاب رحمة، فقد وُصف من أنزل عليه وحيُ الرحمة برسول الرحمة. ***** {ما ننسخ من آية}: النسخ هو تغيير شيء بآخر. والأمر يتعلق بتغيير الآيات التي قالت الآية عنها إن المراد بنسخها هوتبديلها والإتيان بمثلها أو بخير منها (أي بأفضل). خير: كلمة خير تفيد التفضيل وإن لم تكن على صيغة أفعل التفضيل: {ولباس التقوى ذلك خير} أي أفضل. وجاء في القرآن عن النسخ ذكْره بلفظ بدّل : {وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنزّل قالوا إنما أنت مُفْتر} (سورة النحل/الآية 101). ***** {نُنسِها}: أصل هذه المادة إما نسأ (أي أخّر) أو نسي. ويمكن فهمها معا في الآية ويكون المعنى ما نغير من آية أو نؤخرها عن وقت نزولها أو نُنسِها من الذاكرة، أي نمحوها فتصبح منسية. وربا النسأ أو النسيئة المحرم هو بيع التأخير أو البيع إلى أجل. ***** {آية}: الآية : ظاهرة معجزة خارقة للعادة. والله خص بعض أنبيائه ورسله بالآيات المعجزات. ومعجزة النبي الرسول محمد العظمى هي القرآن الكريم. وهو مؤلف من آيات أي معجزات تحدى الله البشر أن يأتوا بمثلها. والله لا يمنح هذه المعجزات أو هذه الآيات إلا لمن شاء. وقال أحد رجال الصوفية: وفي كل شيْء له آية تدل على أنه الواحدُ وقيل في سبب نزول هذه الآية إنها جاءت للرد على طعن اليهود في تغيير القبلة. ومن قواعد علم أصول الفقه أن سبب النزول لا يخصِّص. ***** {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى}: هود جمع هائد. والجمع يعني مجموعة اليهود. النصارى من ناصروا عيسى ودخلوا في الدين الذي جاء به. والنصراني هو مفرد النصارى. وأصل عيسى عليه السلام من الناصرة في فلسطين حيث كانت توجد أمه مريم.